التعامل المذهبي

التعامل المذهبي

 

التعامل المذهبي

 

الشيخ احمد المبلغي

مدير مركز بحوث ودراسات مجمع التقريب - ايران

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين

ليس كثيراً علي المسلمين في التعامل مع الآخرين من جهة،‌ومع الأشياء من جهة أخري، ولا صعباً في تقديم رؤاهم في هذا الاتجاه، خاصة وأنّ لديهم القرآن بآياته ومعالمه، والسنّة الشريفة‌بكلّ‌ثراها الفكري والثقافي.

لكن السؤال هنا: ما يعني التعامل؟ وهل ثمة نوع يطلق عليه اصطلاحاً اسم «التعامل المذهبي»؟





إنّ التعامل بصيغته المطلقة هو من باب التفاعل، وهو ما يحصل غالباً بين طرفين أو أكثر. والتعامل المذهبي يعني صدور مبادرة أو موقف من ناحية أتباع إحدى المدرستين الشيعيّة والسنّيّة قبالة أتباع المدرسة الأخرى، بحيث يؤدّي إلى ردّ إيجابيّ من الطرف المقابل، وتنعكس آثاره علي كليهما في العمل والموقف.

وعلى أساس هذا التعريف الذي طُرح للتعامل، ثمة تصوران في البين:

1ـ تارة يكون نابعاً من موقفين مستقلّين، يصدر كلّ واحد منهما عن أتباع مذهب معيّن، تجاه أتباع المذهب الآخر.

2ـ وتارة يكون هذان الموقفان من نوع الفعل وردّ الفعل؛ بمعنى أن يقوم أنصار مذهب ما بمبادرة معيّنة، فيردّ عليهما أنصار المذهب الآخر بمبادرة مقابلة، من الممكن أن تثمر عن نتائج محدودة، وقد يتّخذ هذا الفعل وردّ الفعل بمرور الزمن أبعاداً أوسع وأكبر، فتتعاظم حينئذٍ النتائج المترتّبة عليه.

وفي القرآن إشارات وومضات تؤكد هذا المعني. ففي قصة ضيوف ابراهيم(ع) تقرأ: (اذا دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّما منكم وجلون قالوا لاتوجل إنّا نبشرك)[1] فقد حصل التعامل بصيغة ‌طرفين أحدهما وجل من الاخر، فبادر طرف بموقف ايجابي انعكس علي موقف الاخر الذي راح يستقبل الأمر بارتياح، وتوسّع ردّ الفعل أن بلغ حدّ‌البشارة، وهي أعلي درجات الإجابة الطيبة.

ولمّا كان التعامل عبارة عن عمل إيجابيّ من الطرفين حيال بعضهما البعض، فلا شك سوف يتمّ تعزيز أوجه التعاون المشترك، والنهوض به إلى مستوى راقٍ؛ وإن كان التعاون في بدايته متّسماً بالشحّة والضعف والحذر، إلا أنّه ستتصاعد مديانه في المستقبل.

وببيان آخر: بما أنّ التعامل يتضمن تعاطياً متبادلاً بين الطرفين، وتواصلاً طيباً، من خلال قيام كلّ طرف بعملية رد الفعل إيجابية إزاء مبادرة الطرف الآخر، فسوف يزداد التعامل منعةً وقوةً وصلابة، ويخلّف وراءه آثاراً إيجابيّة جمّة، سنشير إليها لاحقاً.

وقد انعكست هذه الحقيقة في كلام النبي الأعظم(ص) حيث قال: "إنّ البركة في الجماعة"[2]

حيث الجماعة لا تعني الاجتماع فحسب، بل ما ينعكس عنها من تعامل متبادل، وارتباط وتواصل مستمر،‌مخلّفاً آثاراً طيبة لكلا الطرفين.

لكن الواقع المرّ الذي يجب الاعتراف به أنّ المشكلة التي تعاني منها الأمة الاسلامية هي أنّ اتباع المذاهب ليست بينهم العلاقة التعاملية، وإن كان التعامل موجوداً فهو لا يتم بمستويً يتحلّى بالموضوعية والشمولية والفاعلية المطلوبة، ممّا يجعله قاصراً عما يمكن أن يبلغه إلي الطرف المقابل.

وفيما يلي ذكر بعض لأنواع التعامل المذهبي بين أبناء الأمة الإسلامية:

1. التعامل الأخلاقيّ :

وهو أن يراعي أتباع المذاهب الأخلاق والمشاعرالإنسانيّة والعواطف النبيلة مع أقرانهم من أتباع المذاهب الأخرى، حيثما قُدّر لهم اللقاء في شتى المجالات الاجتماعية.

وقد انعكس ذلك جلياً في الأحاديث النبوية، نذكرعلى سبيل المثال:

- قوله(ص) في رواية عن طريق أهل السنة ": لا تحاسدوا ولا تنافسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبيد الله إخواناً"[3]

- قوله (ص) في رواية عن طريق الشيعة:" عليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتقاطع والتحاسد والتدابر، وكونوا عباد الله إخواناً"[4]

يجب مراعاة هذا التبادل مثل هذا الشعور بين أتباع المذاهب المختلفة، ولا ينبغي أن تلقي تبعات ماضي المذهب الذي ينتمي إليه الشخص بظلاله على طبيعة تعاطيه مع الآخرين، بل يجب التعامل بهذه الطريقة الإيجابيّة، بحيث يحاول كلّ واحد من أتباع المذاهب إبراز هكذا إحساس تجاه أتباع المذاهب الأخرى، والشيء ذاته مطلوب من الطرف الآخر؛ إذ يجب عليه الردّ بالمثل والتعامل بمنتهى الأخوّة، في ظلّ اثنين:

أولهما: شعور المسلم بمسؤوليته تجاه أخيه المسلم.

وثانيهما: تأكيد انتمائهما من خلال إبراز احترام أحدهما للآخر.

وهذا الأمر لا ينحصر على الصعيد الإجتماعيّ فحسب، بل يمتد إلي الإعراب عن مشاعر الأخوّة علي جميع المستويات، وبما يتناسب والمجالات.

وفيما يلي إشارة إلى هذه المجالات:

أ) رعاية الأخلاق في المجال العلميّ والبحوث العلمية

من الضروري رعاية الأخلاق في مجال النشاطات العلمية التي قد تظهر علي أكثر من صعيد، ومن دواعي الأسف أنّ هذه الأخلاق لا يتم مراعاتها في بعض الأحيان، حيث تجد أنّ العلاقة طبيعيّة بين أتباع المذاهب المختلفة؛ لكن ما إن يرتبط الموضوع بالبحث العلميّ والنقاش العلميّ البنّاء، حتى ترى الانغلاق وعدم مراعاة هذا الجانب هو الطاغي في الحوارات والنقاشات الدائرة بين المتحاورين، فتلاحظ:

1) أنّ كلّ واحد من الطرفين يروم إثبات كلامه، وفرضه على الطرف المقابل بأيّ نحو كان.

2) أنّ كلّ واحد من الطرفين لا يفسح المجال لخصمه بالحديث والتعبير عن وجهة نظره.

3) يحاول القفز على أصول الحوار وعدم رعاية الإنصاف.

لذا من الضروري أن تكون الأخلاق العلميّة متناسبة مع العلم ومقتضيات البحوث العلميّة، والحوارات والنقاشات الجادة والمفيدة.

ب) رعاية الأخلاق في المجال السياسي:

وهكذا في الشؤون السياسيّة؛ إذ ينبغي منح القضايا السياسيّة أهميّة كبيرة في ظل المنظومة الأخلاقية الاسلامية، والتعاطي مع الطرف المقابل على وفقها، من دون تجاوز لحدوها.

ج) رعاية الأخلاق في المجال الثقافي:

كما يجب إبداء الإحترام للعناصر والرموز الثقافيّة لكلّ فريق، وانتهاج الأخلاق الرفيعة إزاء الرموز، فلا شكّ في أنّ جزءاً من الأخلاق المشار إليها تتبلور في احترام مقدّسات الآخر، وعدم التعدّي عليها وإن لم تكن تحمل صفة القدسيّة بنظرنا.

وعلى هذا الأساس، فالتعامل الأخلاقيّ يقع على قدر كبير من الأهميّة.

مواصفات التعامل الأخلاقي الصحيح المذهبي :

- أن ينقد كل طرف نفسه، ويتعرّف على أخطائه في سلوكه مع المقابل قبل ان ينقده ذلك الطرف المقابل.

- ألاّ يتعصّب كل لرأيه، بل يكون على استعداد لتغيير سلوكه أو التخلي عن موقفه المتعصّب اذا دعت الحاجة لذلك.

- أن يتعامل كلٌ الطرف الآخر بالرفق واللين، ويحسن الظنّ به.

- أن يتعامل مع أتباع المذاهب الأخري بما يحب أن يتعاملوا معه.

- أن يشارك اتباع كل مذهب في اهتمامات وأذواق اتباع المذاهب الأخرى مهما أمكن, حيث إنّ ذلك لو تم بشكل متقابل فانه يمنح كل طرف حوافز على مواصلة عملية التواصل الإيجابي مع الطرف الآخر، ويضمن بقاء الود والتعاون بينهما.

2. التعامل الإقتصاديّ:

إنّ العلاقات الإقتصاديّة الناجحة في العالم اليوم هي التي تحقّق الوحدة والتلاحم بين أعضائها؛ فالجبهة التي تشكّلها المجموعة الإقتصاديّة على الصعيد الدوليّ تتمتّع عادة بالقوّة والصلابة والتأثير لتسوية المشاكل العالقة. ولا شك أنّ التعامل الإقتصادي قد اتّخذ اليوم أشكالاً وأنماطاً مختلفة في عصرنا الراهن، بعضها تتمتع بفاعلية قوية وكبيرة.

والحديث إذا ما دار حول التعامل الاقتصادي بين أتباع المذاهب المختلفة في العالم الإسلاميّ، فالمقصود منه إيجاد صيغة اقتصاديّة فاعلة ومؤثّرة بين الدول الإسلامية، ممّا تتطلّع له الدول، في سياق اتحادات ومنظمات كبرى، تنضوي تحتها دول عديدة.

ومن هذا المنطلق، لو صُمّم التعامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، وجرى العمل به من دون رعاية الأسس والموازين الدوليّة السائدة في العالم الحاليّ، فسوف لن يكون مفيداً ولا فاعلاً، ولا قويّاً ولا ثابتاً، ولا يعود على المسلمين بالنفع والقدرة.

وهذا اللون من التعامل يجب أن يشتمل على صيغة عمل تقوم علي أساس وجود:

- سوق مشتركةً

- عملة مشتركة

- بنوك ومصارف مشتركة

- غرف تجاريّة مشتركة

- السياسات الاقتصادية الموحدة على المستوى الدولي

إمكانية إقامة التعامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية
إنّ الدول التي تستطيع إقامة تعامل اقتصاديّ في ما بينها، هي الدول التي لها مشتركات تربطها ببعضها البعض، كأن تربطها وحدة المكان والمنطقة، أو ترتبط ببعضها إيديولوجيّاً؛ فتعمد إلى بلورة هذا التعامل الإقتصاديّ في سياق اتّحاد وجمعيّة اقتصاديّة مشتركة وكبيرة.

والسؤال الآن: هل الدول الإسلاميّة تمتلك مؤهّلات لازمة لإقامة التعامل الاقتصادي الفاعل؟

الحقيقة أنّها في القطاع الإقتصاديّ، تمتلك مؤهلات عظيمة قلّما تتوفّر في البلدان الأخرى، وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه المؤهلات:

أولا: وفرة الثروات الطبيعيّة والمواهب الإلهيّة:

وتتمثل في الآتي:

الموارد الطبيعية

الموارد الطبيعية المتواجدة في الدول الإسلامية هي النفط والغاز الطبيعي والمعادن المختلفة والمياه والأراضي الخصبة ، غير أنّ أكثرها النفط والغاز الطبيعي ، حيث يوجد النفط في 35 دولة، ويشكل إنتاجه نحو نصف الإنتاج العالمي، كما يوجد الغازفي 25 دولة ويبلغ إنتاجه حسب بعض الإحصائيات 10٪ من الإنتاج العالمي، إضافة إلي الموارد الأخرى.

الأرض

تبلغ مساحة الدول الإسلامية حوالي 25 % من مساحة العالم كلّه، والأراضي الزراعية منها تمثّل نحو 12٪ من مساحة الدول الإسلامية، منها 660 ألف كم2 أراض مروية، تشكل نسبتها أكثر من 18٪ من الأراضي الصالحة للزراعة.‏

اليابسة:

حيث تشغل الدول الإسلامية نسبة‌كبيرة من مساحة هذه دول العالم، حيث تبلغ حو 32 مليون كم2، وهو ما يقارب ربع مساحة اليابسة على كرة الأرض.

المياه

وتغطي المياه جزءاً بسيطاً من أراضي هذه الدول يزيد قليلاً عن نصف مليون كيلو متر مربع.

الأنهار:

إذ تجري في أراضي الدول الإسلامية أنهار كبيرة، كنهر النيل ونهري دجلة والفرات.‏

ثانيا: الموقع الاستراتيجي:

لا شكّ في أنّ الموقع الإستراتيجيّ الذي تتمتّع به الدول الإسلاميّة في الشرق الأوسط والمناطق المجاورة لها، تدفع باتّجاه إيجاد اتّحاد كبير للعالم الإسلاميّ، شريطة الخروج عن إطار الشعارات الجوفاء، والدخول في خضمّ الوحدة الإقتصاديّة الحقيقيّة. هذا من جانب ومن جانب آخر تطل البلدان الإسلامية على أهم البحار والمحيطات والمضايق البحرية، حيث تقدر حدودها البحرية بحوالي مئة وثلاثة آلاف كم.

ثالثاً: العنصر الديموغرافي:

فقد يشكّل عدد المسلمين ربع سكان الأرض، حيث ينوف عددهم في العالم عن مليار ونصف المليار.[5]

نتيجة التعامل الاقتصادي:

لو ينشط التعامل الاقتصادي فسوف يترك فائدتين عظيمتين علي هذه الأمة:

الفائدة الأولى: تهيئة الأرضية لإقامة التعامل في المجالات الأخرى

إنّ التعامل الإقتصاديّ لو فُقد، فلن يتوقّف تأثيره وضرره على الساحة الإقتصاديّة فحسب، وإنّما يسري إلى المجالات الأخرى؛ بمعنى أنّ مع انعدام التعامل الإقتصاديّ يؤول الأمر إلى انعدام التعامل الثقافيّ والسياسيّ والأخلاقيّ وغيرها شيئاً فشيئاً؛ لأنّ المشاكل الإقتصاديّة تجعل الدول تعاني حالة من التخبّط الفكري، وتقذف بها في بحر متلاطم من الفوضي والاضطراب، بحيث تؤدّي في بعض الأحيان إلى ابتعاد الدول الإسلاميّة خاصّة عن سياساتها واستراتيجيّاتها. والعكس بالعكس؛ أي حينما يشتدّ التعامل الإقتصاديّ، تقوى أطر التعاون في المجالات الأخرى، وتمهّد لجبهة عمل مشتركة مليئة بالطاقات والإمكانات الهائلة.

أو فقل: إنّ المجموعة الإقتصاديّة المتعاونة تستطيع- أفضل من غيرها- أن تتفادى التحدّيات السياسيّة ـ مثلاً ـ التي تواجه أحد أفراد المجموعة، أو أن تتّخذ موقفاً سياسيّاً مشتركاً.

وكذلك الحال من حيث الجانب الثقافيّ؛ لأنّها حينئذ تكون قادرة على صدّ كلّ ما من شأنه النفوذ والتغلغل إلى داخل أوساطها، وكلّ ما يصبو إلى إرباك وضعها، وزعزعة استقرارها، والتأثير في مجال العولمة والتطوّر المتسارع في القطاع الإقتصاديّ والثقافيّ و...؛ لذا لا بدّ من أخذ التعامل الإقتصاديّ البنّاء على محمل الجدّ، وعدم التساهل والتقاعس عن تعزيزه وترسيخه؛ إذ أنّ التأخير في هذا المجال قد يفضي إلى نتائج عكسيّة، يصعب تداركها والحدّ من تداعياتها.

خاصة وأنّ الأمة‌الاسلامية تواجه تحدّيات جمّة، قد تحول دون حضورها القويّ في الساحة العالميّة، وبقاؤها منفردة لا يخدم مصالحها، ويترك انطباعاً سلبيّاً عنها، ما يلجؤها إلى التحرّك صوب القوى الإقتصاديّة الكبرى. وفي نهاية المطاف، قد يؤدّي هذا التحرّك إلى ضعف علاقاتها وارتباطها بالدول الأخري التي تصنّف ضمن محور عدم الانحياز من جوانب أخرى، ليس من الناحية الإقتصاديّة فحسب، بل على مستويات مغايرة، كتقلّص العلاقات السياسيّة والثقافيّة وغيرها.

الفائدة الثانية: القضاء على الإختلافات الرئيسيّة وحصرها في دائرة الحوارات العلمية

يسفر التعامل الاقتصادي القضاء على الإختلافات الرئيسيّة والهامّة التي يعاني منها المجتمع الإسلاميّ على مدى ردح من الزمن، وتهميشها وتحجيمها في ظلّ التعاون الإقتصاديّ المشترك والوشائج الإقتصاديّة القويّة.

فحينما يتقوى التعامل الإقتصاديّ، تنحسر الإختلافات العملية والتطبيقية علي أكثر من مستوي، وتتقوى وتتفعل الحوارات العلمية في ظلّ‌هذا المناخ.

التعامل العلميّ:

والمراد منه التبادل العلميّ الحاصل في المجتمع الإسلاميّ، وهو نوع آخر من أنواع التعامل، الذي لا يدخل ضمن مجال الأخلاق العلميّة (وهو ما يندرج ضمن النوع الأوّل، أي: التعامل الأخلاقيّ)؛ لأنّه لا يعني لزوم رعاية الأخلاق العلميّة والتعامل الأخلاقيّ.

والتبادل العلميّ على ضربين:

الأول: تبادل العلوم البشريّة:

ومنها التكنولوجيا والتقنية الحديثة. فيجب على المراكز العلميّة الإسلاميّة، بما فيه الجامعات ومراكز البحوث، أن توثّق عرى ارتباطها ببعضها البعض، وتتبادل المعلومات فيما بينها.

والتعاطي في مجا ل التبادل العلمي لازم للأسباب التالية:

1- تطور أي دولة إسلامية تطور للإسلام برمّته:

لو أحرز أي بلد إسلامي تقدّماً وتطوّراً في مجال من المجالات، يحسب الآخرون ذلك للإسلام برمّته، من دون أن ينظروا أن هذا البلد منتمي إلى السنة أو الشيعة، أنّنا شئنا ذلك أم لم نشأ.

وعليه، يجب علينا اعتبار العالم الإسلاميّ كتلة واحدة متراصّة، وبذل أقصى الجهود من أجل القيام بتبادل علميّ على أعلى المستويات في مجال العلوم البشريّة المختلفة. وإذا كان الآخرون ينظرون إلى العالم الإسلاميّ ككتلة واحدة متماسكة، فلما ذا نحن أنفسنا لا ننظر إلى هذا العالم بعين واحدة ؟!

2- فقر أي دولة إسلامية هو ضعف للعالم الإسلامي:

بما أنّ كل دولة من الدول الإسلامية تعتبر جزءاً من الجسد الإسلاميّ الواحد، فكل ضعف - كالفقر أوالحرمان وما إلى ذلك - يصيبها فيها، يعدّ ضعفاً لكل الجسد، وبالتالي يقلّل من تنامي الحركة العلميّة في العالم الإسلاميّ. ومن هذا المنطلق يعتبر التعامل العلمي الإسلامي عاملاً لانحسار حالات الضعف والنقص في العالم الإسلامي، إذ يحجم كلّ عوامل الهشاشة التي قد تناول أوصال هذا العالم بكل أطرافه المترامية.

3- تقدّم أيّ دولة إسلامية يؤثر على سائر الدول الإسلامية:

إنّ تحقّق أيّ تقدم في أي جزء من هذا العالم الإسلامي، سوف يجعل الإسلام كله يزدهر، ويترك ذلك انطباعاً إيجابيّاً لدى سائر أجزاء العالم الإسلاميّ، حيث إنّ اكتشاف القابليّات والطاقات الكامنة في كلّ دولة من العالم الإسلامي سوف لايقتصر علي تلك الدولة فحسب، بل يمتد فيؤثّر بشكل ملحوظ على سائر الدول الإسلامية.

الثاني: تبادل العلوم الدينية:

بالرغم من أنّ كلّ واحد من مذاهب أهل السنّة والشيعة قد أنشأ ميداناً واسعاً من العلوم الدينيّة الخاصّة به، وفقاً للأطر التاريخيّة والعقائديّة التي يؤمن بها؛ ولكن، الوقت ذاته من الضروري الالتفات إلى أنّه رغم هذه الاختلافات، هناك مباديء مشتركة بين الطرفين، لها تأثيرها الكبير على تكوين وبلورة العلم في المجتمع الإسلاميّ، وبسببها نرى كثيراً من الأمور المشتركة علي هذا الصعيد، وإن كانت مناهج وأدوات كلّ فريق تختلف عن الفريق الآخر، إلاّ أنّه تدلّ‌جميع المؤشرات علي وجود قواسم مشتركة بينهما.

ولما كانت القواسم المشتركة بين الطرفين كثيرة ومتعددة، علينا أن نعلم بأنّ شطراً منها بارز وظاهر إلى العيان، ولا حاجة إلى الإشارة إليه؛ في حين أنّ شطراً آخر من المشتركات لا زال في طيّ الكتمان، بفعل انعد ام المطالعة وعدم التعامل العلميّ الدؤوب، الأمر الذي يستدعي منّا نهضة عظيمة للوقوف على نقاط الإشتراك، سواء كانت في مباديء العلوم، أم في منهجيّتها، أم في مسائل العلوم المختلفة.

وعلى هذا الأساس، من الممكن أن يفضي التبادل العلميّ المذكور إلى الكشف عن المشتركات المشار إليها وإماطة اللثام عنها، وهكذا، نجد أنّ هذا مجال آخر للتعامل بين الفرقاء.

هذا وممارسة عملية التبادل العلمي بين اتباع المدرستين السنّية والشيعية لازمة لمايلي:

1- معالجة القضايا المتعلقة بالعالم الإسلامي لكونه كياناً واحداً

قد يواجه العالم الإسلامي أحياناً بعض القضايا التي تهمّه من منطلق كونه كياناً واحداً، لا من حيث كونه دولاً وشعوباً، فيحتاج إلى مشروع هادف قائم على أساس العلوم الإسلاميّة. وبما أنّ هذا المشروع لا يرتبط بأتباع مذهب محدّد فقط، وإنّما يتّصل بالعالم الإسلاميّ ككلّ، بما فيه من شيعة وسنّة، لذلك يتحتّم هنا التعاطي مع هذه القضيّة المشتركة بالتعامل العلميّ البنّاء؛ بغية التوصّل إلى تفاهم وتوافق في هذا الإطار، وإنجاز هذا المشروع طبقاً للرؤية المتّفق عليها، أو مواجهة القضايا ذات الإهتمام المشترك على أساس الدين الإسلاميّ الحنيف، باجراء التلفيق فيها بين آراء الشيعة وأهل السنّة.

فمثلاً: مكافحة التلوّث البيئيّ، أو النشاط في مجال البيئة بشكل عامّ، فهذه قضيّة كبيرة تعدّ بمثابة تحدّ صارخ للمجتمع الإسلاميّ. ولا شكّ في أنّ الشيعة لديهم تجارب في هذا المجال، وأهل السنّة كذلك لهم تجاربهم الخاصّة بهم، والشيعة لديهم قواعد فقهيّة في هذا الإطار، وأهل السنّة أيضاً بحوزتهم قواعد فقهيّة يعوّلون عليها؛ فالفريق الشيعيّ يمتلك روايات، والفريق السنّي أيضاً يمتلك روايات في هذا الموضوع، بل يمكن لكلّ واحد منهم أن يكون له أحكامه الفقهيّة الخاصّة في هذا المضمار. وهنا، يلزم التعامل المشترك بين الطرفين، ولو بشكل تلفيقيّ؛ حيث يشكّل نظاماً فقهيّاً مقتدراً يبدي حلولاً ومعالجات لهذه القضية بما يوازي ما تطرحه الدول الكبري في هذا المضمار.

2- ضرورة إنشاء الأنظمة الاجتماعية الإسلامية:

قد يطرح بحث الأنظمة الإجتماعيّة، فهي لا تختصّ بمجتمع دون مجتمع، وإنّما يجب بسطها على العالم الإسلاميّ بأسره، وتكوين منظومة اجتماعية متكاملة. وعليه فلا الشيعة قادرون على إنشاء هذه المنظومة على أساس الرؤية الشيعيّة فقط، ولا أهل السنّة كذلك؛ لأنّها تفقد قابليّة الإجراء والتنفيذ في هذه الحالة، بل لا بدّ من تكوين منظومة ملفّقة ومركّبة من الفريقين يمكنها أ‌ن تنهض بما فيه الكفاية باتجاه هذا المشروع الكبير.

التعريف بالنظام الحقوقيّ في الإسلام:

إنّ النظام الحقوقي للإسلام يتكوّن من جملة من المقومات والخصائص تساهم جميع المذاهب الإسلامية في إيجادها وبنائها، وهذا النظام الحقوقي الخاصّ بالإسلام، لا مناص من تدوينه بأسرع ما يمكن؛ لكي تتّضح مبادئه المعرفية، ومعالمه وخطوطه الفكرية، في مقابل الأنظمة الحقوقيّة الموجودة في العالم، ولأجل إظهار مواصفات تلك الأنظمة- بما فيها النظام الإسلاميّ- لابدّ من إخضاعها إلي عمليّة المقارنة والقياس.

إنّ الغربيين لا ينظرون إلى النظام الحقوقيّ لمذهب ما مجتزأً، بل إليه بما هو مجموع النظام الحقوقيّ للإسلام، لذا تراهم يوظّفون كلّ‌طاقاتهم وامكاناتهم الهائلة، علي المستويين: البشري والتقني للحيولة دون نهوض أيّ من هذه المشاريع التي تُطرح علي أساس الاسلام.

والحقيقة أنّ من جملة ثمرات التعامل العلميّ، التوصل إلى التعريف بالنظام الحقوقيّ في الإسلام. وسائر الموارد الأخرى من التعامل العلميّ، حيث إنّها كثيرة، مثل: الدفاع عن البلدان الإسلاميّة بالطرق العسكريّة، أو السبل الدبلوماسية والمدنية الحديثة؛ فلا بدّ من وجود نظرة ورؤية مشتركة من جهة، وتعامل مشترك في هذه المجالات من جهة أخري.

4. التعامل الثقافيّ:

إنّ كلاً من المذهبين الشيعيّ والسنّيّ يمتلك تراثاً وثقافة خاصّةً، ونظاماً إخلاقيّاً معيّناً؛ إلّا أنّهما انطلاقاً من كونهما يستندان إلى مباديء مشتركة، ويستمدّان القيم والأسس من مصادر مشتركة، هي الإسلام والقرآن والوحي، وهذه المشتركات الثقافيّة والأخلاقيّة أكبر بكثير من تلك الخصوصيّات، فسوف تخلو مجالات التعامل بينهما من موارد الخلاف والتعصّب؛ بمعنى أنّ الإسلام لمّا يواجه القضايا المعاصرة في العالم الراهن، ويروم إنتاج الثقافة والقيم التي يؤمن بها، فهو يتصدّي بجدية‌كبيرة‌لكل خلاف بين الشيعة والسنّة قد يبرز في هذا المجال، وبالتالي تكون الثقافة إحدى نقاط الإلتقاء بينهما.

هذا الموضوع قلّما تمّ التعرّض له وبحثه بجدّ؛ إذ أنّنا قليلاً ما وجدنا الثقافة تتعرّض للهجوم من قبل أتباع أحد المذهبين؛ لذا، فهناك مواطن التقاء كثيرة لم يُطرق بابها، ولم تفقد مقوّمات الإشتراك، حيث إنّ هناك مصاديق ثقافيّة في غاية الكثرة والوفرة لدى كلّ واحد من الفريقين، ترتبط بالمفاهيم الدينيّة المشتركة والمحاور الأساسيّة، من قبيل الإسلام والنبيّ (ص) والقرآن والقبلة وأهل البيت(ع)؛ ومن هنا، نجد مساحة مشتركة واسعة في المجال الثقافيّ، الأمر الذي يضع على عاتق من يحمل لواء التقريب مزيداً من المسؤوليّات، من أجل التخطيط لاستغلال هذه الموارد والإستفادة منها، وتسليط الضوء على خبايا وخفايا الموضوع، وإبراز الجوانب المختلفة، وإظهار المحاور المتعدّدة له؛ وذلك في سبيل شقّ هذا الطريق الهامّ، والإقدام على فتح المؤسّسات الثقافيّة، وإيجاد العلائق الثقافيّة، والنهوض بمستوى التعامل الثقافيّ المنشود.

نعم، هناك خصوصيات تتعلّق بكل واحد من الفريقين؛ لكن، يجب في مجال القيم والمباديء الخاصّة انتهاج سلوك مغاير، وهو عبارة عن الرجوع إلى أجزاء من التراث المشترك الذي يشدّد على لزوم احترام مقدّسات الآخرين؛ بمعنى معالجة المختصّات الثقافيّة، أو التقابل الثقافيّ، بالجزء الآخر من المقدّسات، الذي يركّز على ضرورة احترام مقدّسات البعض الآخر، أو حلّ هذه القضيّة عبر التعامل الأخلاقيّ، مع عدم وجود ذلك الجزء المشير إلى وجوب احترام ثقافة الآخر.

5. التعامل السياسيّ:

برغم أنّ العالم الإسلاميّ يتكوّن من دول وبلدان متفرّقة؛ لكنّه يحوي نقاط اشتراك كثيرة. وكيفما كان، ينبغي- في مجال اتّخاذ سلوك سياسيّ مشترك- إبرام اتّفاقيّة محوريّة، تتمحور حول أنّه يجب علينا، قبل الإهتمام بالقضايا الداخليّة، والخوض في تفاصيل الشؤون التي تعني الدول والشعوب الخاصّة، التركيز على:

- حدود العالم الإسلاميّ ككلّ

- مصالح العالم الإسلاميّ واقتداره

- السياسة الكليّة اللازم اتّباعها

- العدوّ المشترك الذي يهدّد الإسلام وأهله، فمن ذلك لزوم إدراج موضوع إسرائيل

- المصالح الغربيّة من الناحية السياسيّة ضمن الإستراتيجيّة الأساسيّة للعالم الإسلاميّ.

- الدبلوماسيّة التقريبية لصالح المجتمع الإسلامية

ولا شكّ في أنّ ثمّة خصائص للتعامل السياسيّ في سياق الوحدة، فإن لم يتمّ التحكّم بها والسيطرة عليها، قد يؤدّي ذلك إلى إلغاء سائر أنواع التعامل على الأصعدة المختلفة، أو التقليل من تأثيرها.

يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) :

" إياك والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان"[6]

فالبحث السياسيّ في دائرة التقريب من أعقد البحوث التي تشغل بال المهتمّين بالشأن التقريبيّ، والقائمين على تنظيم وعقد المؤتمرات التقريبيّة، والمتابعين لشؤون المجتمع الإسلاميّ؛ ما يفرض التأكيد على هذه المباحث، ووضعها في دائرة الإهتمام، ودراسة جميع أبعادها وأجزائها، حتّى يتمّ التوصّل إلى رؤية شفّافة في هذا المجال.

وممّا لا يخفى أنّ من جملة التحدّيات والإشكاليات الكبيرة التي تهدّد الوحدة الإسلامية الكبرى هو فقدان التقريب على الساحة السياسية.

ويمكن في ذلك الاستشهاد بكلام النبي الأعظم(ص) ، حيث قال:

" إن الاختلاف والتنازع والتثبط من أمر العجز والضعف ، وهو مما لا يحبه الله ، ولا يعطي عليه النصر والظفر"[7].

والإشكاليّة الأخرى في هذا المجال: الإفتقار إلى استراتيجيّة سياسيّة واضحة، ممّا يشكّل تهديداً خطيراً على الوحدة. وعلى هذا الأساس، يجب توخّي منتهى الحذر في التعاطي مع الأحكام الفقهيّة في الفقه الشيعيّ والسنّيّ على حدّ سواء، لتجنّب إثارة الخلافات، ولا بدّ من إيلاء قاعدة الأهمّ والمهمّ أهميّة مضاعفة في هذا الاتجاه.

وعلى أيّة حال، فإنّ بحث السياسة بحث شائك ومترامي الأطراف، وبخاصّة أنّ السياسة المرتبطة بمكوّنات البيت الإسلاميّ، وبالدول الإسلاميّة مقابل بعضها البعض، حيث تتأثّر في بعض الأحيان بالسياسة الوافدة من خارج العالم الإسلاميّ، وبالتالي، تترك آثارها على التعامل الداخليّ والخارجيّ؛ بمعنى أنّ السياسة الفاعلة خارج نطاق العالم الإسلاميّ قد تترك أثراً على سياسة العالم الإسلاميّ.

والحاصل أنّه يجب قطع هذا الطريق، وسبر أغواره، وكشف النقاب عن أبعاده وزواياه، وكذلك يجب العمل على التقليل من المشاكل، عن طريق القيام بدراسات علميّة مستوعبة. كما ينبغي إجراء الدبلوماسيّة الحازمة للمجتمع الإسلاميّ على أساس مبدأ الوحدة ، بل وجعلها من جملة المواضيع الدوليّة المطروحة؛ في حين يجب على الدبلوماسيّين المسلمين تقديم التعليمات اللازمة والمناسبة في هذا المجال:

أنّنا نواجه اليوم تحديات كثيرة‌ومشاكل جمة‌علي الساحة السياسية، إذ نواجه دول الاستكبار العالمي الذي يمتلك الامكانات الهائلة‌من الناحية‌المادية والتكنولوجية، ونواجه العدوان الصهيوني السافر الذي يهدّد أراضي واسعة من عالمنا الاسلامي، ونواجه احتلالاً اميركياً وبريطانياً سافراً في دول اسلامية متعددة،‌ثم نواجه الإرهاب اللامعقول والمجنون الذي يقوم بعكس صوراً مشوهة عن الاسلام وأهله... لذا فلا خيار أمام مثقفينا الاّ تجاوز سياج الطائفية والاختلاف بالتفاهم والحوار المشترك، للوصول إلي مشروع دبلوماسي اسلامي موحّدنا، يوحّد:

الف) الرؤي المتعددة

ب) المواقف المختلفة

ولا شك أنّ المواقف والقرارات السياسية الناشئة من الوحدة الاسلامية هي بالضرورة مواقف صعبة، وقرارات صعبة. كما لا تخترقها دول الاستكبار والصهيونية العالمية، كذلك لا تهمشها الموازنات الدولية، والمعادلات الغريبة، إذا ما نهض المسلمون بكل قدراتهم ووحدتهم علي تقديم المعالجات والحلول المناسبة في ظل هذه التحديات.




--------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ سورة‌الحجر (15)، الاية: 52 و 53.

[2] ـ بحار الأنوار 59: 291.

[3] ـ مسند أحمد2: 312.

[4] ـ مستدرك الوسائل 9: 49.

[5] ـ للحصول على هذه المعلومات توجد مصادر عدة ، من جملتها الكتاب القيم للدكتور اسماعيل شلبي، باسم وحدة الامة الاسلامية.

[6] ـ غرر الحكم ودرر الكلم، رقم: 10716 .

[7] ـ بحار الأنوار 20: 126.