إلهية المصدر الوحي

إلهية المصدر الوحي

 

 

إلهية المصدر الوحي

 

إبراهيم الخزرجي

قم ـ إيران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الوحي لغة:

عُرِّف الوحي في اللغة بأنه يشمل كل من الكتاب النازل من السماء والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، قال في الصحاح:

«الوحي: الكتاب، وجمعه وحي، مثل حلي.. والوحي أيضاً: الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت، وهو ان تكلمه بكلام تخفيه» (1).

وفرق بعضهم كما عن الفروق بين الوحي والإيحاء، فقال:

«الفرق بين الوحي وأوحى: ان وحي جعله على صفة كقولك مسفرة، وأوحى جعل فيها معنى الصفة، لأن أفعل أصله التعدية..» (2).

وكأنه أخذ الفرق في ذلك من الكتاب العزيز إذ فيه ما يصرح أو يشعر بالفرق

______________________________________________

1 ـ الصحاح 6: 252.

2 ـ الفروق اللغوية: 750.

ـ(80)ـ

المذكور، قال تعالى:

 ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً﴾ (1).

قال في الميزان:

«والوحي هو القول الخفي بإشارة ونحوها» (2).

وبهذا المعنى فسرها القرطبي فقال:

«وسمي وحياً لأنه إنّما يكون خفية» (3).

ورود الوحي بمعنى التكليم الخفي أيضاً في قولـه تعالى: ﴿إذ يوحي ربك للملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا﴾(4).

فقد ذكر المفسرون أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه معهم أو مع المؤمنين (5)، ويحتمل قوياً أن يكون ذلك تكليماً خفياً لهم.

ثم إن الوحي قد يشترك في حقيقته اللغوية مع الإلهام وهو النكت في القلب بفعل الخير والارتداع عن فعل الشر بغير واسطة بخلاف الوحي فإنه قد يكون معها، قال في الفروق:

«إن الإلهام ما يبدو في القلب من المعارف بطريق الخير ليفعل وبطريق الشر ليترك» (6).

___________________________________________

1 ـ سورة الأنعام: 112.

2 ـ تفسير الميزان 7: 321.

3 ـ الجامع لأحكام القرآن 7: 67.

4 ـ سورة الأنفال: 12.

5 ـ انظر التفسير الكبير 15: 135.

6 ـ الفروق اللغوية: 68.

ـ(81)ـ

وقال في الفرق بينه وبين الوحي:

قيل: الإلهام يحصل من الحق تعالى من غير واسطة الملك، والوحي من خواص الرسالة، والإلهام من خواص الولاية.

وأيضاً: الوحي مشروط بالتبليغ كما قال تعالى:

 ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ دون الإلهام.

ومنهم من جعل الإلهام نوعاً من الوحي، وقال في الغريب: يقال لما يقع في النفس من عمل الخير الهام، ولما يقع من الشر وما لا خير فيه وسواس، ولما يقع من الخوف الجاش.

وقال بعض المحققين: الوحي فيضان العلم من الله إلى النبي بواسطة الملك، والإلهام: الإلقاء في قلبه ابتداءً، والأول يختص بالأنبياء عليهم السلام، وقد يطلق الوحي على الإلهام كما في قولـه تعالى:

 ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين﴾(1).

فانهم لم يكونوا أنبياء، وقولـه تعالى: ﴿وأوحينا إلى أم موسى﴾(2).

وقولـه تعالى: ﴿وأوحي ربك إلى النحل﴾(3).

وهذا الإطلاق إما بحسب اللغة أو على سبيل التجوز (4).

______________________________________

1 ـ سورة المائدة: 111.

2 ـ سورة القصص: 7.

3 ـ سورة النحل: 68.

4 ـ انظر الفروق اللغوية: 69 ـ 70.

ـ(82)ـ

الوحي بالمعنى الأعم:

يستفاد من أكثر من آية في القرآن الكريم الإيحاء إلى غير الأنبياء من البشر كقولـه تعالى:

 ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء انه عليم حكيم﴾(1).

لكن مع الفرق المذكور في الآية المباركة من أن التكليم بأقسامه المذكورة ـ الإيحاء والتكليم من وراء حجاب أو إرسال الرسول ـ يختلف عن إنسان لآخر حسب مرتبته الوجودية، فإن استماع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من الوحي غير استماع غيره من الرسول، فإنه ـ أي إيحاء الرسول ـ إيحاء أيضا لكنه بواسطة الرسول، قال صدر المتألهين في تفسير الآية:

والثالث: ـ أي قولـه تعالى: ﴿أو يرسل رسولاً..﴾ إشارة إلى أدنى الكلام وهو النازل إلى إسماع الخلائق وآذان الأنام بواسطة الملائكة والناس من الرسل(2).

ويظهر من كلامه ـ رحمه الله ـ أن الرسول أعم من النبي والملك، وان النازل إلى أسماعهم يختلف بحسب مراتب الأنبياء الوجودية.

وقال أيضاً في الفرق بين السماعين:

وإياك أن تظن أن تلقي النبي صلى الله عليه وآله كلام الله بواسطة جبرئيل وسماعه منه كاستماعك من النبي صلى الله عليه وآله أو تقول ان النبي كان مقلداً لجبرئيل كالأمة للنبي صلى الله عليه وآله ، هيهات، أين هذا من ذاك ؟ هما نوعان متبائنان، فإن التقليد لا يكون علماً أصيلاً ولا

_______________________________________

1 ـ سورة الشورى: 51.

2 ـ الأسفار الأربعة 7: 9.

ـ(83)ـ

سماعاً حقيقياً أبداً(1).

هذا ولكن يرى أكثر المفسرون أن قولـه تعالى: ﴿أو يرسل رسولا...﴾ هو ما يوحى بإذنه مشافهة إلى الناس.

وفسر الوحي في قولـه تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً..﴾ بالنفث في الروع أو الرؤيا التي يراها في المنام أو بما يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً كما كانت حال جبرائيل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وأما الرسول ـ حامل الوحي ـ فقد اختلفوا في أنه هو الملك أو النبي من البشر، فقيل هو جبرئيل عليه السلام، وقيل: هو النبي بقرينة التبليغ الذي هو من وظائف النبي لا الملك.

لكن يرى العلامة الطباطبائي رحمه الله ان المراد من الرسول هو الملك والوحي النازل بالأمر الإلهي لا خصوص الرسول في البشر ولا الأعم منه ومن الوحي الملك وذلك لأن تبليغ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ومشافهته بالأمر الإلهي للناس لا يقال لـه وحي، قال:

«ان المراد به ـ أي الوحي ـ التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين النبي أصلاً، وأما القسمان الآخران ـ التكليم من وراء حجاب وإرسال الرسول ـ ففيهما قيد زائد وهو الحجاب أو الرسول الموحي، وكل منهما واسطة، غير أن الفارق: ان الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي بنفسه والحجاب واسطة ليس بموحٍ وإنّما الوحي من ورائه. فتحصل أن القسم الثالث: ﴿أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ وحي بتوسط الرسول الذي هو ملك الوحي فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما

_______________________________

1 ـ المصدر السابق.

ـ(84)ـ

يشاء الله سبحانه(1).

ولما كان للوحي في جميع هذه الأقسام نسبة إليه تعالى على اختلافها صح إسناد مطلق الوحي إليه بأي قسم من الأقسام تحقق، وبهذه العناية أسند جميع الوحي إليه في كلامه، كما قال:

﴿إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده﴾(2).

ثم ذكر في الميزان رداً على من قال بأن المراد من بالرسول هو النبي بأن المتعين منه هو الملك لا الرسول، فقال: وأما قول بعضهم ان المراد بالرسول في قولـه: ﴿يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾.

هو النبي يبلغ الناس الوحي فلا يلائمه قولـه: «يوحي» إذ لا يطلق الوحي على تبليغ النبي(3).

حقيقة الوحي:

عرّف الوحي ـ بغير ما عرّف به في اللغة ـ بأنه عبارة عن مشاهدة الحقائق والمعارف الكاملة التي لا يشوبها الريب والنقص، والمشاهدة لتلك الحقائق تارة يكون بسبب حصول العلم الحضوري في النفس وأخرى بسبب العلم الحصولي.

ولا ريب في تحقق العلم الذي يكون منشأه ومصدره الله تعالى ـ المحيط علمه بكل شيء والذي لا يتطرق إليه الغفلة والنسيان ـ والجائي به الوحي الأمين والقابل لـه والمستعد لنزوله قلب النبي المعصوم عليه السلام، وهذا الأمر يجعل من الوحي قطعي التحقق خالياً عن شوب الخطأ مكللاً بالعصمة، فإنه لا يمكن التعويل على شيء ما لم

____________________________________

1 ـ تفسير الميزان 8: 73.

2 ـ سورة النحل: 43.

3 ـ تفسير الميزان 18: 74.

ـ(85)ـ

يكن صدوره قطعي وتحققه ثابت، نظيره في ذلك اعتماد الإنسان على ما يستدل به بواسطة العقل على الأمور الاعتقادية، فلو لم يكن ما يحتج به ويستند إليه بواسطة العقل حجة لما كان للاستدلال به معنى ولما سارت عليه سيرة الناس من العقلاء.

وبذلك يخرج الوحي الظني والتخميني وكذلك العقل الظني عن حيطة البحث، نعم هما حجة إذا قام على اعتبارهما أو اعتبار أحدهما الدليل القطعي.

وبذلك يظهر عدم معارضته الدليل الظني للدليل القطعي من الوحي والعقل، بل ويظهر عدم معارضته الدليل القطعي من الوحي ـ كالكتاب العزيز ـ للبرهان القطعي العقلي، وإنهما يجتمعان فيما إذا كان الكتاب ظاهر وليس بنص.

خصائص الوحي القطعي:

لابد في الوحي من توفر شروط، وهي:

1 ـ أن يكون صادراً ومتلقىً عن المعصوم مباشرة.

2 ـ أن يكون قطعي الدلالة.

3 ـ أن يكون الغرض من صدوره إبلاغ الحكم الواقعي الإلهي، لا لتقية وما شاكل ذلك. وعليه: فلو ظن في تحقق واحدة من هذه الثلاثة لم يكن الوحي قطعياً، ويكون العقل القطعي مقدماً عليه عند اختلاف الدلالة وتعارضها.

ثم انه لا يشمل التعارض بين الدليل النقلي الظني والبرهان القطعي العقلي موارد العلوم الطبيعية كعلم الهيئة والنجوم والعلوم التجريبية التي قد يظهر للباحث بدواً إمكان القطع بها، فيرجع حينئذ العقل على النقل، ليقال: ان الوحي مناف للعلم ومعارض لـه، وأنه مخالف لمنطق العقل!

وعلى ذلك لا يمكن الاكتفاك بالظهورات اللفظية النقلية في مثل العلوم التجريبية الخارج علمها عن حدود نطاق التكاليف من الابتغاء واللا ابتغاء.

 

 

ـ(86)ـ

حجية الاستدلال بالعقل على إثبات الوحي:

بإمكان العقل إثبات الوحي وضرورته وكونه خالياً عن شوب الخطأ والسهو، وأيضاً بإمكانه الاحتجاج به عليه بالأدلة العقلية القطعية، وهذا من جهة يكشف عن اعتضاد أحدهما بالآخر وعن عدم وجود التعارض بين الدليل العقلي القطعي والوحي القطعي من جهة أخرى، مما يجعلهما ذلك كالشيء الواحد، الأمر الذي يمنع من ترجيح أحدهما على الآخر، لأن في الترجيح كذلك انهدامهما معاً لاستنادهما معاً إلى أصل واحد، وهو امتناع اجتماع النقيضين، وحيث ان مرجع جميع الأدلة القطعية ـ سواء كان ذلك عبارة عن تعارض الوحي القطعي مع وحي قطعي آخر، أو أحدهما مع الدليل العقلي القطعي، أو هو مع دليل عقلي قطعي آخر ـ إلى أصل عدم التناقض يكون علاج ذلك التعارض أمراً مستحيلاً.

ترجيح الوحي والعقل القطعيين على الوحي والعقل الظنيين

لا ريب في تقدم الوحي القطعي على الوحي الظني، وكذا في تقدم وترجح الدليل العقلي القطعي على العقلي الظني، لكن هل يمكن تقديم الوحي الظني على العقل القطعي أو العكس؟

لما كان الدليل الظني مستنداً في إثباته في كثير من الموارد إلى الدليل القطعي لا يمكن أن يكون بذاته حجة ومعتبراً، وهذا بخلاف الدليل القطعي فهو بذاته حجة ولا يحتاج في إثبات حجيته إلى مثبت آخر، وحينئذ يكون الدليل الظني واقعاً في طول الدليل القطعي لا في عرضه، وعليه: فلا يتحقق التعارض بينهما، وذلك لأن شرط التعارض بين دليلين كون أحدهما واقعاً في عرض الآخر، والمفروض في المقام عدم كون أحدهما واقعاً في عرض الآخر.

ثم لا يخفى ان الدليل العقلي يقل الاستدلال به في غير النظرة الكونية والفلسفة

ـ(87)ـ

والرياضيات لانتفاء مورده في مثل العلوم التجريبية والطبيعية والطب والنجوم.

وعليه: فلا يمكن حصول اليقين بأمر ـ غير ما ذكرنا ـ إلا عن طريق الوحي وذلك بعد تحقق جملة من المقدمات والقواعد التجريبية وما شابه واللجوء إلى العقل الظني وترجيحه على النقل، لكن النظر إلى العقل الظني والوحي القطعي من هذه الزاوية سيرتب نتيجة فاسدة وهي ان الوحي ينافي العلم والعقل، وهذا ما لا يساعد عليه العقل السليم ولا يعضده النقل الصحيح، وهذا لا يعني الجمود على الظهور اللفظي في غير العلوم التجريبية، وأما الاستدلال به في دائرة العلوم التجريبية فخارج تخصصاً لعدم كونها من التكاليف التي يعبر عنها ـ بالحكمة العملية ـ.

وقد حاول بعض المستشرقين تصوير التعارض المذكور بين الوحي القطعي والعقل القطعي بأنها مختلفة واتبعهم على ذلك بعض المسلمين، فقالوا بأن الوحي يتصادم مع حقائق الكون وان دور الدين انتهى واليوم قد بدأ عصر العلم، ونحن في مقام الجواب نقول:

لا خير عليكم استدلوا للعلم بالعقل إن أمكن فإن المنهج المتبع فيه هو منهج التجربة والاختبار لا منهج النص والنقل، وان لم يمنع من اعتضاد ما توصل إليه العقل والتجربة بالنقل والوحي الظني أو القطعي.

فليس من الصحيح تحميل الوحي ما لا يتحمل لأنه هو الدليل الحقيقي ـ الذي يمكن الاستهداء بنوره ـ على صحة أو عدم صحة العلم، فالعلم الذي يتناقض مع الوحي القطعي كاذب وغير صحيح (1).

بناءً على ذلك لا يمكن الاستغناء عن الوحي والاستقلال بالعقل والبرهان القطعي

_________________________________

1 ـ انظر معجزة القرآن الكريم للشعراوي: 84.

ـ(88)ـ

لأنه إن اصطدم عقله بعقبة هي فوق قدرة هذا العقل أفقدته كل شيء، فإن الدين والنظام قائم على استخدام العقل منهما فيما خلق من أجله، لكن ليس معنى ذلك إننا سنستطيع أن نصل ونرقى بالعقل إلى أشياء لم يخلق العقل لها ولم يمكنه إدراكها.

العقل السليم بمنزلة الوحي:

يعد العقل السليم بمثابة الوحي في ما يتعلق بالعقيدة وفلسفتها، فهل العقل حجة في ما يدركه بالنسبة للفلسفة الأولى والنظرة التكوينية المرتبطة بالأصول الاعتقادية الثلاثة المتلخصة في التوحيد والنبوة والمعاد؟

لابد في مقام الجواب بأن للعقل أن يبرهن على الأمور المذكورة ويحتج على إمكانها أو ضرورتها أو استحالتها، لكن ليس البرهان لوحده كافيا في إثبات ذلك أو نفيه، بل لابد للعقل أن يستهدي بنور الوحي للتوصل إلى حقيقة هذه الأمور، ومن هنا قد يتراءى للباحث وقوع التعارض بين العقل القطعي والوحي القطعي الذي تقدمت الإشارة إلى استحالته، وأنه على فرض وقوعه فهو ليس بمستقر، وأما لو فرض استقراره وعدم إمكان الجمع والعلاج فلابد من الاعتراف بانهدام أصول هذين القطعين لأن افتراض تقدم أحدهما على الآخر معناه انهدام أصل امتناع التناقض وبانهدامه ينهدم القطعان معاً.

ثم ان للعقل السليم أحقية إثبات الوحي والنبوة والبرهنة عليها ولو بالاستناد إلى القضايا البديهية، وذلك أنه يفرق بين المعجزة ـ التي يراها الوحي أمراً ضرورياً للنبي في إثبات نبوته ـ وبين السحر والشعبذة والكهانة وغيرها، ويرى العقل ان الفرق بينها جوهري، وذلك ان المعجزة التي هي آية النبوة والرسالة تتحدى كل ما يشبه للرائي انه مثلها وتحكم عليه بالفساد والبطلان.

فلو حكم العقل القطعي بثبوت الوحي والنبوة وضرورتها وتمكن من وضع

ـ(89)ـ

الحلول المناسبة لجميع أو أغلب المسائل النظرية والمعقدة في ظل الوحي حينئذ لا يمكن رفع اليد عن هذا البرهان العقلي القطعي لصرف ظهور دليل لفظي ـ الذي هو عبارة عن الوحي الظني ـ وذلك لأن معنى رفع اليد عنه سلب الحجية عن العقل القطعي وهدم جميع ما يثبت بسببه من المسائل الاعتقادية، وهكذا الأمر بالنسبة لتعارض الوحي القطعي مع العقل القطعي، فإنه لو رجح الوحي القطعي عليه لزم من ذلك سلب الحجية والاعتبار عن العقل القطعي، وبالآخرة عدم اعتبار جميع ما يثبت بالبرهان القطعي العقلي من المسائل الاعتقادية، فإن المنكر لحجية العقل القطعي نظير من يرقى السلم إلى السطح، ثم ينكر وجود ما رقى به السطح، وهكذا الحال في المقام، فلو أنكر حجية ما هو أصل في إثبات الوحي فكيف يمكنه القول بأن الوحي والنبوة حق ؟!

الوحي والعقل في الكتاب والسنة الشريفين:

لما كان العقل القطعي هو المثبت لضرورة الوحي والنبوة وسائر ما يرتبط بالعقيدة لا حقة نجد في كثير من الآيات والروايات الدعوة إلى الأخذ بما يثبته العقل القطعي ويبرهن عليه ويراه حجة، وبذلك يكون الوحي معتضداً بالعقل.

ان الكتاب العزيز والسنة المطهرة مشحونتان بالدعوة إلى التفكر والتدبر وتحصيل العلم واليقين والنهي عن الأخذ والعمل بالظن والحدس والتخمين والحرص خاصة فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية والمعارف الحقة، بل يجد الباحث ان القرآن الكريم يبين أصول الاستدلال المنطقي المستند إلى البرهان العقلي في مقام الاحتجاج على المنكرين والمعاندين من المشركين وغيرهم

ثم ان الظن والحدس والتخمين لا ينسجم كل منها مع حقيقة القرآن التي عبر فيها عن نفسه بأنه هدى ونور، فإن الهدى والنور ـ اللذين هما كناية عن الوضوح وعدم

ـ(90)ـ

الريب ـ لا يتلائم مع الشك والظن، وهذا خير شاهد على ان القرآن يدعو دعوة حق إلى التعقل والتدبر، قال تعالى:

﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾(1).

وقال الصادق ـ عليه السلام ـ «... ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق» (2).

وعن الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ انه قال: «بشر الله... ثم قال: ان لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء وأما الباطنة فالعقول» (3).

وقال الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ: «العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه» (4).

فجعل ـ عليه السلام ـ العقل القطعي حجة على الوحي الإلهي ومعياراً يعرف به الصادق على الله من الكاذب عليه، فيكون بالعقل مصدقاً أو مكذباً. إلاّ أن المشركين والمنكرين حرّفوا طريق الاستدلال على الوحي واستبدلوه بمشيئة الله، فقال:

﴿لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم إلاّ يخرصون _ أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون _ بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾ (5).

___________________________________

1 ـ سورة يونس: 39.

2 ـ الكافي: كتاب العلم، باب النهي عن القول بغير علم.

3 ـ الكافي: كتاب العقل والجهل.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ 20 ـ 23.

ـ(91)ـ

وقولـه تعالى:

﴿قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلاّ البلاغ المبين﴾ (1).

وخلاصة هذا التعليق على المشيئة الإلهية في كلام المشركين والقياس الاستثنائي الوارد في الآيتين ان الله تعالى لو شاء وتعلقت إرادته بأن لا نشرك به ما كنا لنشرك به أحداً ولم نحرم من دونه من شيء، وحيث إننا نشرك به غيره ونحرم من دونه الأشياء علمنا بأن إرادته لم تتعلق بالتوحيد ونفي الشرك، وأيضاً لم تتعلق إرادته ببعث الأنبياء والوحي والكتب، وأخيراً يكون الشرك حق وبعث الرسل والوحي باطل، فكان جواب القرآن لهؤلاء هو الاحتجاج عليهم بما لديهم من علم فيما يقولون فقال:

﴿هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلاّ الظن وان أنتم إلا تخرصون﴾ (2).

ومن ذلك كله يتحصل ان الشرك يستند في إثباته إلى ضرب العقل عرض الجدار أولاً وبالمباشرة ومن ثم نفي الوحي.

تنبيه:

مما تقدم يظهر للمتأمل بطلان ما استدل به المشركون ـ من القياس الاستثنائي ـ على شركهم، وان ذلك كان بإرادة الله ومشيئته، ويظهر أيضاً بطلان محاولتهم إنكار الوحي وذلك لعدم تفريقهم بين الارادتين التكوينية والتشريعية، فإن إرادة الله التشريعية تعلقت بأن يكون الإنسان من أهل التوحيد، وهذه الإرادة تتحقق على يد

_______________________

1 ـ النحل : 35.

2ـ الأنعام : 148.

ـ(92)ـ

الإنسان وهي التي أشار إليها بقوله:

﴿إنّا هديناه النجدين﴾.

فلا يمكن أن يقال بأن ارادته تعالى التشريعية لو تعلقت بالتوحيد ونفي الشرك وتصديق الوحي والنبوة لم يكن مشرك على وجه البسيطة، وأما ارادته التكوينية فهي تأبى عن التخلف والاختلاف وان كانت تستتبع الجبر العلي والمعلولي.

والحاصل: لا يلزم من التلازم بين المقدم والتالي في هذه القضية الشرطية التي طرحها المشركون سوى النتيجة الفاسدة.

فالشرك من وجهة نظر القرآن مفهوم لا يقبل التوجيه العلمي والعقلي بعد تعلق الإرادة التشريعية بضرورة الاحتراز عنه وتركه، وان كان تحقق تلك الإرادة بيد الإنسان نفسه، قال تعالى:

﴿وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾(1).

والسر في عدم إمكان التوجيه العلمي للشرك هو ان الشرك من المفاهيم العدمية التي لا واقعية لها، وحيث ان لله تعالى عالم بكل شيء يكون ما لا يعلمه عدم محض قال تعالى:

﴿أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات والأرض﴾(2).

وقال على لسان نبيه صلوات عليه:

 ﴿... وأشرك به ما ليس لي به علم﴾(3).

_______________________

1 ـ لقمان : 15.

2 ـ يونس :18.

3 ـ المؤمن : 42.

والحمد لله رب العالمين