الأمة بين المذهبية والطائفية مظاهر الحالة المنحرفة وآثارها نموذج من التاريخ ( ابن رشد الأندلسي ) 520 - 595 هـ

الأمة بين المذهبية والطائفية مظاهر الحالة المنحرفة وآثارها نموذج من التاريخ ( ابن رشد الأندلسي ) 520 - 595 هـ

 

الأمة بين المذهبية والطائفية
مظاهر الحالة المنحرفة وآثارها
نموذج من التاريخ ( ابن رشد الأندلسي ) 520 – 595 هـ

 

الدكتور الشيخ إحسان بعدراني

عضو اتحاد الكتّاب العرب ـ سورية

 

 

هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، الشهير بالحفيد، مولده ومنشؤه بقرطبة، ويُكَنَّى أبا الوليد، وكان قاضي الجماعة بها([1]).

وُلِدَ سنة 520ﻫ. أما وفاته فقد كانت يوم الخميس التاسع من صفر سنة 595هـ. بمراكش بعد المحنة التي ألمَّت به وبعد أن عفا عنه ( المنصور الموحّدي ) . وذكر ابن الأبّار أنّ وفاته كانت قبل موت ( المنصور ) بشهر تقريبا، ودفن – رحمه الله – بمرّاكش بالمقبرة الواقعة خارج السور قرب باب تاغزوت، وبعد ثلاثة أشهر حُمِلَ إلى قرطبة حيث دفن في روضة أسلافه بمقبرة ابن عباس([2]).

ويذكر ابن عربي الفيلسوف الصّوفي أنه شهد مأتمه بمرّاكش، وشهد فيما بعد حمل جثمانه إلى قرطبة على دابّة. كما حضر جنازته محمد بن علي الشاطبي وهذا ما ذهب إليه جُلُّ المؤرخين.

ويُجمع كلهم على أنه كان أحد أساطين الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ وأستاذ الفلاسفة في زمنه، ويقول ابن الأبَّار: (وَكَانَتِ الدِّرَايَةُ أَغْلَبَ علَيْهِ مِنَ الرِّواية، درَّس الفِقْهَ والأُصولَ وعلمَ الكلامِ وغيرَ ذلك، ولمْ ينشأْ بالأندلسِ مثلُهُ كمالاً، وعلماً، وفضلاً. وكان على شرفهِ أشدَّ الناسِ تواضعاً، وأخفَضَهُم جناحاً، وعُنِيَ بالعلم من صغره إلى كِبَرِهِ، حتى حُكِيَ عنه أنه لم يدعْ النظرَ ولا القراءةَ منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سوّد – فيما صنّف وقيّد وألّف وهذّب – نحواً من عشرة آلافِ ورقة، ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامةُ دون أهل عصره. وكان يُفْزَعُ إلى فتواه في الطبّ. كما يُفْزَعُ إلى فتواه في الفقه، مع الحظّ الوافر من الإعراب والآداب، وكان يحفظ شعري حبيب (أبي تمّام) والمتنبي، ويكثر التمثُّل بهما في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد([3]).

ويقول ابن فرحون في الديباج المذهب: ( إِنَّهُ كان أشدَّ الناسِ تواضعاً وأخفضَهم جناحاً، حَمِدْتُ سيرتَهُ في القضاء بإشبيلية وقرطبة. وكان وجيهاً مبجَّلاً عند الأمراء الموحّدين، ولكنه لم يستغلّ هذه الوجاهةَ في منافعه الشخصية، ولم يسخِّرْهَا لِجَمْعِ مَالٍ، ولا ترفيعِ حالٍ كما قِيْلَ، وإنّما وجّهها لنفعِ أهلِ قرطبةَ قاطبةً، بل ومنافعِ أهلِ الأندلسِ عموماً. وكان مُحِبًّا للعلماء والأدباء، سريعاً إلى إكرامهم والحَدْبِ عليهم، يترفَّعُ عن الإهاناتِ التي تَلْحَقُهُ فلا يردّها بل يصفحُ عن مرتكبيها في سهولةٍ ويُسْرٍ. ولقد كان صبوراً فاضلاً ) ([4]).

ولا بدع في أن ينسب الناس هذا المجدَ وهذه الأخلاق العالية لابن رشد. فالرجل سليل أسرة ذات شرف أثيل، وُلِّيَ ثلاثة أجيال منها قضاء قرطبة، ولقِّب كلٌّ منهم بقاضي القضاة. وإلى هذه الأسرة ومكانها الرفيع تعود منـزلة ابن رشد عند الأمراء، وفي الأندلس بوجه عام.

وكيف لا وقد تتابع على ولاية منصب قاضي القضاة بقرطبة جدّه فأبوه فهو، وهذا المنصب لا يتولاه إلا ذوو الشَّأن.

ويذكر المؤرخون أنه كان فقيهاً مالكياً وأن شهرته في العلوم الشرعية تجاوزت الأندلس إلى شمال إفريقيا بتآليفه الضخمة في الفقه، وخاصة منها فتاواه التي جمعها بعد وفاته ابن الورّان فقيه قرطبة وإمام جامعها الكبير.

وكان والده أبو القاسم أحمد بن محمد من مشاهير قضاة قرطبة وعلمائها، تولَّى منصب قاضي القضاة بعد أبيه أبي الوليد، وتُوفِّي سنة 564هـ بعد أن رأى ابنه أبا الوليد الحفيد يشقّ طريقه في عالم الفكر.

وخلّف ابن رشد كثيراً من الأبناء اشتغلوا بالفقه وعلم الكلام والطب. وتولى بعضهم القضاء والفتيا.

لم يعش ابن رشد على مجد أسرته وآبائه، بل كوَّن لنفسه مجداً خاصاً قرَّبه من الأمراء الموحّدين، وبوَّأه منصب قاضي القضاة في دولتهم .

وهنا لا بُدَّ قبل الحديث عن نكبة ابن رشد وأسبابها وملابساتها وأبعادها من أن نقف عند الجو الفكري في بلاد الأندلس لنكون على بينة من أمر هذا العالم :

كانت قرطبة من أعظم المدن بالأندلس وإليها ينسب جماعة كبيرة من أهل العلم([5]) وقد اتفق جمهرة المؤرخين على أنها كانت بمنـزلة الرأس من الجسد (وكانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء)([6])، وقد حفظت لنا كتب التاريخ، تلك المناظرة التي جرت في حضرة ملك المغرب المنصور يعقوب، بين الفيلسوف الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، وكان الأول قرطبياً والثاني إشبيلياً([7]) فقال ابن رشد: (ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بأشبيلية وأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة تُبَاعُ فيها، وإن مات مطرب بقرطبة وأريد بيع آلاته حملت إلى أشبيلية)([8]) ويقول ابن بسام: (كانت قرطبة منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أهل الفضل والتُّقى، ووطن أولى العلم والنُّهى، وقلب الإقليم، وينبوعاً متفجر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر درر القرائح، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض، وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر، وبها ألفت التأليفات الرائعة، وصنفت التصنيفات الفائقة)([9]).

ولم يكن هذا الطابع الفكري موجوداً بقرطبة فحسب، بل وفي المدن الأندلسية بوجه عام.

وقد عُنِيَ الأمير الحكيم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله المتوفى سنة 336ﻫ بالعلوم وبعث في طلب الكتب من ديار المشرق، وكان من نتيجة ذلك أن تحرك الناس في أيامه إلى العناية بعلوم الأوائل وتعلم مذاهبهم([10]).

بيدَ أن الأمر سرعان ما انقلب رأساً على عقب، وذلك في أيام ابنه هشام الذي لم يكن قد بلغ العلم بعد، فوقع تحت تأثير حاجبه أبي عمر المعافري القحطاني، الذي عمد إلى خزائن أبيه، وأمر علماء الدين بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في علوم المنطق وعلم النجوم، فأمر بإحراقها وإفسادها، وطرح الآخر منها في آبار القصر وهيل عليها التراب، ولم يفعل ذلك إلا تحبباً إلى عوام الأندلس، وتقبيحاً لمذهب الخليفة الحكيم عندهم، وهو الذي أخذ على عاتقه نشر علوم الأولين، إذ كانت تلك العلوم مهجورةً عند أسلافهم، مذمومةً بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهماً عندهم بالخروج من الملة، ومظنوناً به الإلحاد في الشريعة([11])، وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على اشتداد نفوذ الفقهاء في أيام هشام بصفة خاصة.

هذا بالإضافة إلى أن أهل الأندلس، عندما سافروا إلى المشرق ورأوا هناك العلماء وأخذوا عنهم مذاهب الأئمة المشهورين، وكتب الحديث، ورجعوا إلى الأندلس بما أخذوه عن شيوخهم، وما جلبوه من المسائل الغريبة، رأى علماء الأندلس أن ما أتى به هؤلاء الداخلون مخالف لمذهبهم أو بعضه، وكان المخالف عندهم كافراً لمخالفته الحق الذي جاء به الرسول r من عند الله تعالى([12]).

وهذه رواية أخرى توضح لنا ما سلف وهي : أن سلطان المرابطين علي بن يوسف الذي تولى السلطة بعد أبيه يوسف بن تاشفين، أمر بأن تحرق كتب الغزالي كلها، وذلك لا لشيء إلاَّ لأن كتب الغزالي قد قرعت أسماع الفقهاء بأشياء لم يألفوها وما عرفوها وبكلام خرج به عن معتادهم في مسائل الصوفية وغيرهم، فبعدت عن قبوله أذهانهم، ونفرت عنه نفوسهم وقالوا إن كان في الدنيا كفر وزندقة فهذا الذي في كتب الغزالي هو الكفر والزندقة، وحملوا الأمير على أن يأمر بإحراق هذه الكتب المنسوبة إلى الضلال بزعمهم حتى أجابهم إلى ما سألوه عنه، فأحرقت كتب الغزالي وهم لا يعرفون ما فيها إلاَّ أنهم يظنون أن فيها آراء إلحادية([13]).

يقول المقري: (وكل العلوم لها عندهم حظ إلاَّ الفلسفة والتنجيم ( علم النجوم ) فإن لهما حظًّا عظيماً عند خواصّهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهته رجموه بالحجارة أو أحرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت ) ([14]).

ولم يقتصر الأمر على الفلسفة، بل امتدَّ إلى المنطق فابن طملوس يقول: (رأيتُ صناعة المنطق مرفوضةً عندهم، مطروحةً لديهم، ولا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وزيادة على هذا أن أهل زماننا ينفرون منها ويرمون العالم بها بالبدعة والزندقة)([15]).

نكبته وأسبابها

إنَّ ما يعنيه المؤرخون بنكبة ابن رشد هو تلك الحادثة الأليمة التي تعرض لها في آخر حياته من غضب المنصور المُوحّديّ عليه، ونفيه إلى قرية يهوديّة خارج قرطبة تدعى – أليُسَانَه – وحرق كتبه، وتحريم الفلسفة عليه، واتهامه بالمروق من الدين والإلحاد والزندقة عند المسلمين والمسيحيين.

لقد كبرت هذه النكبة حتى وصفها ابن الأبّار بأنها كانت محنة بآخر العمر، وإهانة لابن رشد بعد عظم الشأن ورفعة المنـزلة. ويذكر ابن رشد نفسه أيَّام محنته قبل صدور الحكم عليه بالنفي من قرطبة فيقول: (أَعْظمُ ما طَرَأَ عليَّ في النكبةِ أنّي دخلتُ أنا وولدي عبدُ اللهِ مسجداً بِقُرْطُبَةَ وقد حانتْ صلاةُ العصرِ، فثارَ لنا بعضُ سَفَلَةِ العامَّةِ فَأَخْرَجُونَا مِنْهُ)([16]). إن هذه المحنة ألقت ظِلاًّ كثيفاً على سيرة ابن رشد وأعماله وصوَّرته للناس مارقاً من الدِّين، مع أنه بذل جهداً وسلك منهجاً في الاستدلال على صحة العقيدة الإسلامية أفضل مما سلكه غيره، واستطاع بمنهجه ذلك أن يجمع بين العقل والنقل على أفضل وجه عرفه الناس([17]). ولم يقف أثر محنته على شخصه بل تجاوز إلى كتبه وفلسفته، ذلك أنَّ حَرْقَ كتبه ذهب بالكثير من آرائه ونظرياته فلم يأخذ الناس عنه صورة كاملة وواضحة. كما خشي آخرون مذهبه وطريقته في تناول الدِّين، وشاع عنه ذلك بين المسيحييّن خاصَّة لما علموا أنه يدافع عن الفلسفة بحرارة، فلم يترجموا من كتبه الدينية شيئاً إلى اللاتينية عدا كتابه (تهافت التهافت) الذي ترجم في مرحلة متأخرة. بل إن بعض الرهبان كان يتهمه بالإلحاد والزندقة ويحذِّر المسيحيين من قراءة كتبه. والواقع أن آراء ابن رشد في مسائل الاعتقاد تشهد بعكس ما يدَّعي خصومه المغرضون الذين تحاملوا عليه، فرموه بالزندقة والإلحاد.

ويبدو أن المكانة العظيمة التي كان يتمتع بها ابن رشد لدى المنصور أمير الموحدين قد أثارت الغيرة والحسد من حوله، فالمنصور أدنى مجلسه وقرَّبه منه حتى تجاوز بذلك رتبَ رجالات الدولة الموحّدية، يقول ابن أبي أصيبعة: (ولما كان المنصور بقرطبة وهو متوجّه إلى غزو ألفونس([18]) – وذلك في عام 591هـ - استدعى أبا الوليد ابن رشد، فلما حضر عنده احترمه كثيراً وقرَّبه إليه حتى تعدَّى به الموضع الذي كان يجلس فيه أبو محمد عبد الواحد ابن الشيخ حفص الهنتاتي صاحب عبد المؤمن([19])، وهو الثالث أو الرابع من العشرة، وكان أبو محمد عبد الواحد هذا قد صاهر المنصور فزوَّجه ابنته لعظم منـزلته عنده([20])).

ولقد أحسَّ ابن رشد نفسه بأن هذا الإكرام الكبير من الأمير خطرٌ تُخْشَى عواقبه، فهو لما خرج من عنده بعد ذلك اللقاء وهنَّأه الناس بالمكانة العظيمة التي حظي بها لديه قال: (والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قد قرَّبني دفعةً إلى أكثر مما كنتُ أُؤمّلُه فيه أن يصل رجائي إليه([21])). وأغلب الظنّ أن حسَّاده كان يُلِحُّونَ في إغراء الأمير به، حتى إنه لما دعاه الأمير وأكرمه الإكرام الذي ذكرناه وأجلسه إلى جانبه فطال جلوسه عنده، أشاعوا أن الأمير فعل ذلك كيداً له، وأنه أمر بقتله. وبلغ الخبر أهل ابن رشد فجزعوا، ولما علم ابن رشد بذلك وهو خارج من عند المنصور أسرع فأبلغ أهله بما يسرّهم ويطمئنهم عليه. يقول ابن أبي أصيبعة: (فلما خرج سالماً أمر بعض خدمه أن يمضي إلى بيته ويقول لهم أن يصنعوا له قَطاً وفراخ حمام مسلوقة مَتَى يأتي إليهم، وإنما كان غرضه من ذلك تَطيِيْبُ قلوبهم بعافيته([22])).

كان المنصور متردِّداً في قبول التُّهم التي يُلفّقها الأعداء ضد ابن رشد من رميه بالزندقة والإلحاد وغير ذلك من المزاعم التي سنتعرَّض لها عند الكلام على أسباب محنته، والدليل على ذلك أنهم لما ألحّوا عليه في قتله أبى، واكتفى بعقد مجلس بجامع قرطبة لمحاكمته. يقول الأنصاري في ذلك: (... ثم آثر الخليفة الإبقاء على حياة ابن رشد، وأغمد السيف التماساً للعزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين وتعريف الملأ بأنّه مرق من الدين([23])).

وتمت محاكمة ابن رشد بالجامع الأعظم بقرطبة سنة 591هـ (1195م) بعد عودة الأمير ظافراً منتصراً على ألفونس الثاني ملك البرتغال، وتولَّى الدفاع عنه في هذه المحاكمة القاضي أبو عبد الله بن مروان، فأحسن الدّفاع، ومما قاله في دفاعه أن ( الأشياء الضارة من وجه قد تكون نافعة من وجه آخر كالنار مثلاً )، وكأنه يشير بذلك إلى أن فلسفة ابن رشد أو كتبه، إِنْ بدت لبعض الناس ضارَّة، فلعله لم يظهر لهم إلا الوجه الضار وخفي عنهم الوجه النافع([24]).

ويذكر الأنصاري أن كتب ابن رشد الفلسفية قرئت بمجلس المحاكمة، وتعمد قارئوها تحريف معانيها حتى تساير ما يريدون أن يوقعوه فيه من التهم الملفّقة، وأن خصوم الرجل لم يكتفوا بذلك بل ذيّلوها بكتابات ماكرة أرادوا منها أن يُثبتوا أن ابن رشد خطر على الدين وأنه يروم تهديمه. ونحن نورد كلام الأنصاري لعله يوفّي بأكثر مما ذكرناه، ونصّه: (..فقرئت بالمجلس كتبه، وتُدوولت أغراضها ومعانيها، وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه القراءة أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين (للانتقام منه) فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام([25])).

هكذا أدين ابن رشد من طرف قضاة هم الشهود وهم الخصوم. خصوم ألدَّاء مصدر خصومتهم الحسد. وقساة يطالبون بالقتل وحرق الكتب من أجل المخالفة في الرأي أو المنهج. وشهود زور، لأنهم شوهوا آراءه وحرَّفوها إلى الصورة التي تتفق مع ما يبتغون رغماً من أنها لا تدينه.

وهكذا تحوَّل الاختلاف الفكري إلى اتهامه بالمروق من الدين ورَمْيِهِ بالزندقة والإلحاد.

وصدور الحكم عليه بحرق كتبه وبنفيه خارج قرطبة.

أما كتبه فقد أحرقت جميعاً عدا ما يتعلق بالطب ليستفيد منه البلاط، وما يتعلق بالفلك والحساب ليستفيد منه الفقهاء في تحديد أوقات العبادة.

وأما نفيه فكان إلى قرية على بعد ثلاثين ميلاً من قرطبة تدعى – اليُسَانَه -، سكانها يهود. ومن دوافع نفيه إلى هذه القرية ما أشاع عنه خصومه من أنه يهودي الأصل، لا يُعرف له نسب في قبائل الأندلس. وقد أيّد المستشرق دوزي هذا الرأي مستدلاً عليه بأن الفلاسفة والأطباء في الأندلس يكاد أن يكونوا جميعاً من أصل يهودي أو نصراني، كما أنَّه لا أحد من الذين ترجموا ابن رشد ذكر له نسباً في قبيلةٍ عربية، وذلك ما لم يحدث بالنسبة إلى مشاهير العرب([26]). ولكن دوزي ذهِل عن النشاط الذي بَرَزَتْ فيه أسرة ابن رشد، وهو اشتغالُها بالفقه والقضاء، ومن العسير جداً على أسرة يهودية أن تقوم بهذا النشاط الذي يعتبر من صميم الثقافة الإسلامية، فضلاً عن أن تكون المجلِّية فيه. كما أن الاشتهار بالطب والفلسفة لم يبدأ في هذه الأسرة إلا بابن رشد الحفيد، وأما أسلافه فقد ظلَّت شهرتهم مقصورةً على القضاء والفقه.

وبعد نفي ابن رشد إلى أليُسَانَه وإحراق كتبه، ضجَّ الناس بقرطبة وإشبيلية للحادثة, فأصدر المنصور كتاباً هو بمنـزلة المسوِّغ لما صَنَعَ، ومثل هذا الاضطهاد يسوَّغ عادةً بالدفاع عن الدين، كما تضمن الكتاب تحذيراً من تآليف ابن رشد وجماعته ومن كتب الفلاسفة عامة([27])، وقد أُرسل إلى سائر أنحاء البلاد وقُرئ بالمساجد. وكان الذي كتبَهُ هو عبد الله بن عيَّاش كاتب الأمير نفسه، ومما جاء فيه قوله: (... ولمَّا أرادَ اللهُ فضيحةَ عمَايَتِهِمْ([28])، وكَشْفَ غوَايَتِهِمْ، وَقَفَ (أي المنصور) على كُتُبٍ مَسطورةٍ في الضَّلالِ، مُوْجِبَةٍ أَخْذَ صَاحِبِهَا بالشِّمالِ، ظاهرُها مُوَشَّحٌ بكتابِ اللهِ، وباطِنُهَا مُصَرِّحٌ بالإعراضِ عنِ اللهِ. لبَّسَ مِنها الإيمان بالظُّلمِ([29])، وجِيءَ منها بالحرب الزّبون في صورةِ السِّلمِ. مُزلَّةٌ للأقدامِ، وَهْمٌ يَدُبُّ في باطنِ الإسلامِ. فإنهم يوافقونَ الأمةَ في ظاهرهمْ وزيِّهمْ وَلِسَانِهِم، ويُخالفونها بِبَاطِنِهِم وَغَيِّهِمْ وبُهْتَانِهِم. فلمَّا وَقَفْنَا منهم على ما هو قَذَىً في جَفْنِ الدِّين، ونكبةٌ سوداء في صفحةِ النُّور المبين، نَبَذْنَاهُمْ فِي اللهِ نبذَ النّواةِ، وَأَقْصَيْنَاهُمْ كما يُقْصَى السُّفَهَاءُ من الغُواة([30])).

ولم تتوجه النقمة على ابن رشد وحده، بل شملت كلَّ الذين كانوا يشتغلون بالفلسفة فوقع نفيُهم إلى أماكن متفرقة، وهم: أبو جعفر الذّهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم قاضي بجَّايَة، وأبو عبد الله الأصولي، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس القُرابي الشاعر.

ولم تدُم محنة ابن رشد وجماعته طويلاً. فما لَبِثَ الأميرُ أن عفا عنه ودعاه إلى مراكش، وقد توسط في هذا العفو جماعة من فضلاء إشبيلية شهدوا عند الأمير لابن رشد أنَّه بريءٌ مِمَّا نُسِبَ إليه. فرضي المنصور عنه وعن الجماعة التي شاركته في المحنة وشملهم جميعاً بالعفو، وذلك أوائل سنة 595هـ (1198م). وقد دامت محنته بالإبعاد أقل من ثلاث سنوات، لكنه ما لبث أن تُوُفِّيَ بعد العفو عنه بقليل، وكانت وفاته – رحمه الله – في التاسع من صفر سنة 595هـ (12 كانون الأول 1198م)، وفي أوائل السنة الموالية، توفي المنصور. ويذكر ابن أبي أصيبعة أنَّ ابن رشد عمَّر طويلاً([31])، وحدَّدَ آخرون عمره بخمس وسبعين سنة.

إن الفتنة لم يكن لها من سبب غير دسائس البلاط وغير الحسد والخصومة التي بينه وبين المتكلمين وبعض الفقهاء الذين كانوا مقرَّبين من الملك وحاشيته، فرأوا أنهم حرموا من المكانة التي هم جديرون بها.

فالخصومة التي كانت قائمةً على أشدها بينه وبينهم، هي التي دفعتهم إلى السعي به، وحبك مؤامرة كادتْ تؤدي إلى قتله. ولمَّا حلَّت به النكبة أظهروا الشماتة به، وقال أحدهم وهو أبو الحسين بن جبير معبِّراً عن ذلك:

الآن أيقَنَ ابْنُ رُشْدٍ                  أَنَّ تَوَالِيْفَهُ تَوَالِفْ
يَا ظَالِمَاً نَفْسَهُ تَأَمَّلْ                 هَلْ تَجِدُ اليَوْمَ مَنْ تُوَالِفْ

ومنها :
لَمْ تَلْزَمِ الرُّشْدَ يَا بْنَ رُشْدٍ          لَمَّا عَلا فِي الزَّمَانِ جِدُّكْ
وَكُنْتَ فِي الدِّيْنِ ذَاْ رِيَاءٍ            مَا هَكَذَا كَانَ فِيْهِ جَدُّكْ

ومنها:
كَانَ ابْنُ رُشْدٍ عَلَى مَدَى غَيِّه    قَدْ وَضَعَ الدِّيْنَ بِأَوْضَاعِه
فَالحَمْدُ للهِ عَلَى أَخْذِهِ             وَأَخْذِ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِه

ومنها:
نَفَذَ القَضَاءُ بِأَخْذِ كُلِّ مُمَوَّهٍ          مُتَفَلْسِفٍ فِي دِينِهِ مُتَزَنْدِقِ
بِالمَنْطِقِ اشْتَغَلُوا فَقِيْلَ: حَقِيْقَةٌ      إِنَّ البَلاَءَ مُوَكَّلٌ بِالمَنْطقِ

ولا غرابة في أن ينال ابن رشد ما ناله من الأذى بعد أن رام إثبات العقيدة بمنهج الفلسفة، وأدخل في الشريعة مذهب التأويل والأقيسة العقلية، ثم أراد آخر الأمر أن يبيِّن مذهب المالكية التي تألَّب عليه أهلها، وذلك بإذاعة المذاهب الأخرى عن طريق كتابه :

(بداية المجتهد، ونهاية المقتصد).

وإذا كان الرجل بهذا الاعتبار وهذه المكانة التي جعلت منه رمزاً لِصحوةٍ عَقْلِيَّةٍ فِي بِيئَةٍ عُرفت بالتقليد، فإنه جدير بالذكر ضمن شخصيات عُرِفَتْ بمثل ما عُرِفَ، وفُتِنَتْ بمثل ما فُتِنْ وامْتُحنت بمثل ما امتُحِنْ .





--------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ ابن فرحون: الديباج المذهب. ص284. ط1. مصر 1351هـ.

[2] ـ سيرة ابن رشد للأنصاري. ذيل كتاب رينان ص444.

[3] ـ ابن الأبار، ج1، ص269.

[4] ـ سيرة ابن رشد للأنصاري، ذيل كتاب رينان عن ابن رشد ص437.

[5] ـ معجم البلدان لأبي عبد الله ياقوت الحموي الرومي البغدادي، جوتنجن سنة 1869: مجلد 4 – ص59-60.

[6] ـ نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لأحمد المقري، المطبعة الأزهرية، الطبعة الأولى، سنة 302هـ. ج1، ص74.

[7] ـ الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري، ج1، ص183، القاهرة سنة 1312هـ.

[8] ـ نفح الطيب، ج1، ص75.

[9] ـ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني، لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1939م القسم الأول، المجلد الأول، ص22.

[10] ـ طبقات الأمم لصاعد الأندلس، تحقيق الأب لويس شيخو اليسوعي المطبعة الكاثوليكية – بيروت سنة 1912م ص62-66.

[11] ـ طبقات الأمم ص66.

[12] ـ المدخل لصناعة المنطق لابن طملوس،– المقدمة تحقيق ميخائيل أسين بلاتيوس السرقسطي ج1 المطبعة الأبيرقة مدريد سنة 1616م ص10.

[13] ـ تاريخ الأندلس ليوسف أشباخ – الترجمة العربية ص500.

[14] ـ المصدر السابق، ج1، ص102.

[15] ـ المدخل لصناعة المنطق لابن طملوس، ج1، ص8.

[16] ـ الأنصاري: سيرة ابن رشد، الذيل ص438.

[17] ـ محمود قاسم: مقال عن ابن رشد، مجلة تراث الإنسانية، فيفري 1965.

[18] ـ هو ألفونس الثاني ملك البرتغال.

[19] ـ هو أحد أفراد أسرة من البربر يدعون بالحفصيين، وعميدهم أبو حفص عمر الهنتاتي من أول أنصار ابن تومرت، وأصبح فيما بعد أحد القواد الكبار لجيش عبد المؤمن بن علي.

[20] ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص530، بيروت 1965.

[21] ـ المصدر نفسه.

[22] ـ المصدر نفسه.

[23] ـ سيرة ابن رشد: ذيل ابن رشد والرشدية لرينان، ص437.

[24] ـ الأنصاري، سيرة ابن رشد، الذيل ص438.

[25] ـ المرجع نفسه ص437.

[26] ـ ذكر ذلك رينان ص39، نقلاً عن المجلة الآسيوية ص90، جويلية 1853.

[27] ـ مجلة تراث الإنسانية، فيفري 1965.

[28] ـ يعني بذلك ابن رشد ومن كان مشتغلاً مثله بالفلسفة.

[29] ـ يقصد الشرك، اقتباساً من قوله:} tûïÏ%©!$# (#qãZtB#uä óOs9ur (#þqÝ¡Î6ù=tƒ OßguZ»yJƒÎ) AOù=ÝàÎ/ { [ الأنعام:82].

[30] ـ سيرة ابن رشد للأنصاري، ذيل ابن رشد لرينان ص439.

[31] ـ عيون الأنباء، ص540.