الإنسانية إحدى خصائص الإسلام العامة

الإنسانية إحدى خصائص الإسلام العامة

 

 

الإنسانية إحدى خصائص الإسلام العامة

 

الدكتور محمد الشيخ محمود صيام

القائم بأعمال رئيس الجامعة الإسلامية ـ غزة

وخطيب المسجد الأقصى المبارك سابقاً

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إقرار الإنسانية لكل الناس، والرحمة بهم، منهج إسلامي أصيل: يتميز الإسلام بخصائص إنسانية فريدة، تجعله الأجدر بأن يكون دين الناس كافة. خاصة وانه منهج الله المتكامل، ودعوته الخاتمة. ومن هذه الخصائص؛ إقرار الإنسانية لجميع الناس، وتوخي الرحمة بهم والشفقة عليهم في جميع مجالات الحياة.

ومن أوضح الأدلة على إقرار الإنسانية لجميع الناس، ان الله ـ جل شأنه ـ قد جعلهم خلفاء لـه في الأرض بقوله:  ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة ـ 3) وفي ذلك ما فيه من إعلاء لشان الإنسان ـ كل الإنسان ـ ورفع لمنزلته، وتكريم لإنسانيته.

ومن ذلك أيضاً، ما تفضل الله به من الأشراف بذاته العلية، على خلق الإنسان وتعليمه. قال جل شأنه: ﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ _ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن 3 ـ 4). وقال

ـ(372)ـ

سبحانه:  ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾  (العلق ـ 5).

ثم نبه الله الناس إلى انهم من أصل واحد، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي تولى إيجادهم من ذلك الأصل الواحد  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾  (أول سورة النساء).

ومن ابرز مظاهر إنسانية الإسلام؛ ما جاء في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ان رجلا سأله: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت ومن لم تعرف)  (متفق عليه). وفي الحديث كذلك «ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، مر على مجلس فيه اخلاط من المسلمين والمشركين، فسلم عليهم »  (متفق عليه ). وفي ذلك إقرار واضح لإنسانية كل الناس، بغض النظر عما يدينون به من الأديان. حتى انه قد أثر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قولـه: «ان الله جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانا لأهل ذمتنا»

وأما الحدب على البشر، والرحمة والرأفة بهم، ففي كتاب الله ـ جل شأنه ـ وفي حديث نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ ، من النصوص ما يؤكد ان الإسلام دين الرحمة ودين الرأفة ودين الإنسانية.

ففي المجال العام، يراعي الله ـ جل شأنه ـ الضعف الذي فطر عليه بنو آدم فيقول: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(البقرة ـ 286). وهو قول كريم، متوائم مع رحمة الله بعباده أجمعين. تلك الرحمة التي يبرزها قولـه ـ سبحانه ـ : ﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾(النساء 28). كما يبرزها قولـه كذلك: ﴿ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران ـ 30):

بل وتتجلى هذه الرحمة في خطابه ـ سبحانه تعالى ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ بقوله:

ـ(373)ـ

﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾(الأنبياء  ـ 107). كما يتجلى ذلك فيما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه قال:  (حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد لـه من الخير شيء، إلا انه كان يخالط الناس، وكان موسرا، وكان يأمر غلمانه ان يتجاوزوا عن المعسر. قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه»  (رواه مسلم).

ومن مظاهر رحمة الله بالعباد كذلك، الغيث الذي من الله به على الناس ـ كل الناس ـ بلا أي تمييز، يقول جل شأنه: ﴿وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وينشر رحمته﴾(الشورى ـ 28) وفي الحديث ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله (متفق عليه).

ومن رحمة الله بالناس ـ كل الناس أيضاً ـ وصايا النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ المشددة بضرورة إكرام الضيفان والأرحام والجيران، قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت انه سيورثه» (متفق عليه). وفي ذلك يقول صاحب البحث:

اكرم ضيوفك ان حق الضيف تكفله السماء ـ واحفظ لجارك عهده فالعهد مطلوب الأداء.

أما الأرحام فإن لهم في منهج الله شأنا خاصا، إقرار بإنسانية الإنسان، وصونا لها من ان تهان. قال جل شأنه: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾(أول سورة النساء). وقال سبحانه : ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ _ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ (محمد 22 ـ 23). وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ومن كان يؤمن بالله فليصل رحمه»(متفق عليه). وحين يوصي الإسلام باركام الأرحام والجيران والضيفان، فإنه لا يفرق فيهم

ـ(374)ـ

 بين مؤمن وكافر، اقرارا منه بإنسانية الإنسان أياً كان. روي ان إبراهيم عليه السلام، دعا رجلا إلى طعامه، وعندما عرف انه كافر طرده عن الطعام، فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام يعاتبه بما معناه: ان الحق يقرئك السلام ويقول لك: أتبخل على إنسان بلقمة أو لقمتين لأنه كافر، وأنا أرزقه العمر كله رغم كفره؟! فقال إبراهيم: علي بالرجل، فلما أحضروه لـه قال: أجمل غدائك. قال: لا افعل حتى اعرف السبب. قال إبراهيم: لقد عاتبني فيك ربي سبحانه وتعالى. فشهد الرجل ان لا اله إلا اله، وان إبراهيم رسول الله.

ألا وإنه من هذه الرحمة الإنسانية في الإسلام، ان جعل الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، كما ورد في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ . بل وامتدح الذين يطعمون المساكين والأيتام والأسرى بقول الله ـ جل شأنه ـ : ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان 8). وذلك ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد أمر أصحابه يوم بدر ان يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الطعام. قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : «وكان أسراهم يومئذ من المشركين»(ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ سورة الإنسان). وفيهم كذلك نزل قول الله ـ جل شأنه ـ :﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾(الحشر ـ 8).

ومن كل ذلك يتضح ان الإسلام يقر بإنسانية كل الناس، بل ويحترم تلك الإنسانية ويجلها، ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يجعل الرحمة بالناس من مناهجه الأصيلة، ويجعل الإحسان إليه من مبادئه النبيلة.

2 ـ المساواة بين الناس ـ في الإسلام ـ دين من الدين:

الإسلام منهج عادل ومستقيم، ويريد ان يبني مجتمعات الناس على أساس

ـ(375)ـ

سليم، يؤدي فيه كل إنسان ما يفرض عليه من الواجبات، ويتمتع بكل ما يتمتع به الناس من الحقوق والمميزات. ولما كان الناس من اصل واحد، فقد تساووا في الحقوق والواجبات، إلا ما كان من تفاوت في الطاقات والكفاءات، مما يستتبع التفاوت في المهن والأعمال والمكافئات. وقد خطب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فتح مكة فقال: «أيها الناس، كلكم من آدم من تراب، لا فخر للأنساب، لا فخر للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، ان أكرمكم عند الله اتقاكم»  (الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 280).

ولكن البشر قد جبلوا على التناحر والتنافس، والتفاخر بالأجناس والألوان، مما اقتضى ان ينبه الإسلام إلى خطورة ذلك وبطلانه تنبيهاً واضحاً. فالله ـ جل شأنه ـ يقول في محكم الترتيل: ﴿النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات 13).

فكيف يتعالى بعض الناس على البعض الآخر، وأصلهم جميعا واحد، وهو لآدم وآدم من تراب ؟! بل ان منشأهم متشابه، فهم من ذكر وأنثى، أي من أب وأم كما هي سنة الله في الخلق. أما القبائل والشعوب فما هي إلا للتعارف وتحديد الأنساب، وليست للتفاخر أو التنابز بالألقاب. ثم ان أكرم القوم وأعظم القوم وأحسن القوم هم الأتقياء، الذين يتميزون بطاعة الله وخدمة الناس. وقد جاء في الحديث ان الخلق كلهم عيال الله، وان أحبهم أنفعهم لعياله.

وقد شدد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديثه الشريف على نظرية المساواة بين الناس وأنه لا فضل لأحد على أحد بسبب العرق أو اللون، قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على اسود، ولا لأسود على ابيض،

ـ(376)ـ

إلا بالتقوى»  (زاد المعاد). وفي حديث آخر يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ : «الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب»  (رواه الترمذي).

ولعل من المساواة بين الناس، ألا يفضل بعضهم على بعض، بسبب الأحوال الصحية أو الاجتماعية فلا يكرم غني لغناه، ولا يقدم ذو جاه لجاهه، ولا ذو بسطة في الجسم لصحته. فقد قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»  (رواه مسلم).

ولعل من المساواة كذلك إعطاء كل ذي حق حقه، ورد الأمانات إلى أهلها، والعدل في الحكم بين جميع الناس. قال الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(النساء 58).

على أن أجلى مظاهر المساواة في الإسلام، ما كان بين المسلمين وبين خدمهم ومواليهم، أو ما كان بين خلفائهم وأئمتهم وأمرائهم، وبين أهل ذمتهم من اليهود والنصارى.

أما الأولى: فيمثلها حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه»  (متفق عليه).

أرأيت في قانون من قوانين الدنيا مثل هذه المساواة ؟! لقد جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ موالي القوم وخدمهم، اخوانا لهم وعشيرة وحشما. ثم أمرهم بمعاملتهم ـ لا كما يعاملون آباءهم وأبناءهم، ولكن كما يعاملون أنفسهم، فيطعمونهم مما يأكلون، ويلبسونهم مما يلبسون. بل وأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كذلك ألا يكلفوهم من الأعمال ما يشق عليهم، فإن فعلوا، فعليهم أن يساعدوهم فيها،

ـ(377)ـ

وان يعينوهم عليها.

وإذا كانت هذه هي معاملة الإسلام والمسلمين للخدم في البيوت، أو العمال في الحقول وفي المتاجر، فليس غريبا إذن أن يتفانى أولئك في خدمة مخدومينهم، وأن يفضلوا الحياة معهم على الحياة مع آبائهم وأمهاتهم، كما حدث مع زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ حين فضل البقاء في خدمة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، على العودة مع أبيه وعمه عندما جاءا يسترجعانه. لقد ضرب المسلمون بالإسلام أروع الأمثال في تعاملهم مع الموالي والخدم والعمال.

وأما الثانية: فهي ما كان بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ ، وبين واحد من أهل الذمة. فقد روى التاريخ العطر، ان الإمام عليا ـ رضي الله عنه ـ وهو خليفة، تخاصم مع رجل من أهل الذمة. وكان الأئمة والخلفاء الراشدون، يحتكمون في خصوماتهم إلى القضاء، لا إلى شرطتهم أو عسسهم أو مخابراتهم، كما يفعل الكثيرون فيما أعقب ذلك من أزمنة.

وفعلا ذهب المتخصامان إلى المحكمة، وما أن رأى القاضي أمير المؤمنين علياً ـ رضي الله عنه ـ حتى قام من مجلسه، وقال: أهلا يا أبا الحسن، ورحب به ترحيباً حاراً. ولم يفعل مثل ذلك مع خصمه الذمي. فوجه إليه أمير المؤمنين ماهز كيانه، وأعاد إليه صوابه، وذكره بواجبه، قال: «هذا أول ظلمك  (الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 402).

كان القاضي يظن انه بترحيبه بالإمام أمير المؤمنين ـ قد أحسن صنعا، ولكن الأمير ـ رضي الله عنه ـ وقد عشق الإسلام وعشق فيه العدل والمساواة ـ على وجه الخصوص ـ لم يقبل إلا ان يستقبل خصمه بمثل ما استقبل هو به من الحفاوة والإكرام. ورفض ان يختصه القاضي بشيء من ذلك دون خصمه. بل

ـ(378)ـ

وعدّ ذلك نوعا من الظلم، فقال للقاضي كلمته التاريخية: «هذا أول ظلمك».

ان المساواة بين الناس في الإسلام، كما حددها منهجه، وكما طبقها رجاله، أذهلت الأصدقاء والأعداء على حد سواء. وقد رسم ـ صاحب البحث ـ ذلك بقوله:

«الناس ـ عند الله ـ جنس واحد في الانتماء

لا فضل إلا للتقاة المحسنين الأوفياء

أما الأصول فإن أصل الناس من طين وماء

واللون ليس لهم يد فيه فرب الناس شاء

فعلام يختلفون أو يتفاضلون وهم سواء؟!»

3 ـ إقرار كرامة مميزة للإنسان ـ كل الإنسان، من قواعد الإسلام الأساسية:

لقد شاء الله سبحانه ـ ان يجعل من الإنسان ـ دون بقية المخلوقات ـ خليفة لـه في الأرض ، قال سبحانه وتعالى ـ:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة 30). ولذلك اختصه بكرامات ومميزات ـ دون بقية المخلوقات ـ تتناسب مع كونه خليفة لله في الأرض. قال جل شأنه:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء 70).

ان المنهج الإسلامي ـ بإنسانيته الراسخة ـ يحفظ للإنسان كرامته، ويحترم فيه إنسانيته، بل ويفضله على كثير من المخلوقات، التي خلقت أساسا لخدمته

ـ(379)ـ

وتوفير الراحة لـه. قال ـ تعالى ـ : ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ_ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ _ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ _ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل 5 ـ 8).

ولا يقتصر الأمر على تسخير الأنعام للإنسان رحمة به وإكراماً لـه، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سخر للإنسان أشياء تندّ عن الإحصاء، وتستعصي على الاستقصاء. ومن ذلك ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ما ذكره الله في كتابه الكريم، في معرض تذكير الناس بنعم الله عليهم وإكرامه لهم. قال جل شأنه: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ_ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ_ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(إبراهيم 32 ـ 34)

 وقال ـ تعالى ـ أيضاً: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ_ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ _ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ _ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(النحل 12 ـ 15). وقال جل شأنه كذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ (الحج ـ 65) .

فأي من مخاليق الله غير بني آدم ـ قد خص بهذه النعم ؟ ! أليس في ذلك 

ـ(380)ـ

من التكريم للإنسان ما فيه ؟ ! فالسموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والبحار والأنهار، والكنوز والثروات، والطرق المعبدات، والرواسي الشامخات، ولغير ذلك مما فيه الشراب والطعام، والنور والمواصلات، والراحة لجميع الناس. كل ذلك وكثير غيره قد خلقه الله للإنسان، من باب التكريم والتفضيل. قال رب العالمين جل شأنه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية 13). وصدق في ذلك قول الرازق الوهاب: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل 18).

وإذا كان فيما تفضل الله به على الإنسان، من نعم متناثرة حوله، مظهر واضح لتكريم الله لـه، فهناك مظاهر كثيرة أخرى. منها ما تفضل الله به على الإنسان في ذات نفسه. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ _ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ_ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار 6 ـ 8) وقال ـ سبحانه وتعالى ـ كذلك: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(غافر 64).

ان جمال الصورة واعتدال الجسم، مظهر جميل، كرم الله به الإنسان، وميزه عن الحيوان، تقريرا لا نسانينه وتمييزا لآدميته. وفرق كبير بين ان يمشي الإنسان على اثنتين من الأرجل، أو ان يسبح على بطنه، وهو في كلا الأمرين ضعيف ذليل، وبين ان يمشي الإنسان على اثنتين من الأرجل، وهو مرفوع الرأس ومنتصب القامة، ومتمتع بالأنفة والعزة والجمال والاستقامة، تلك التي قال الله ـ جل شأنه ـ فيها:﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين 4).

ومن تكريم الإسلام للإنسان أيضاً صون كرامته وحفظ عزته. ومن ذلك

ـ(381)ـ

حرص النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على ألا تهون للإنسان كرامة، حين لا يكون لـه رأي مستقل، فقد قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «لا يكن أحدكم إمعّة، يقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت. ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس إن تحسنوا، وأن أساءوا الا تظلموا  (رواه الترمذي). وفي رواية: «وإن أساءوا ان تجتنبوا الإساءة».

لقد كان أفراد القبيلة في الجاهلية مسلوبي الإرادة، ليس لأحدهم من رأي إلا ما تراه القبيلة، خطأ كان أم صوابا، قال شاعرهم  (الاصمعيات ص 107)

وما أنا إلا من غزية ان غوت           غويت وان ترشد غزية ارشد

فجاء الإسلام بمنهجه الإنساني الرائد، فشدد على حرية الرأي وحرية القول، وحريات كثيرة أخرى.

ومن صون كرامة الإنسان أيضاً ترفعه عن ذل السؤال، وعما يجره من إهانة وإراقة لماء الوجوه. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ما أكل أحد طعاما خيرا من ان يأكل من عمل يده، وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»  (رواه البخاري).

وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير لـه من ان يسأل أحداً، فيعطيه أو يمنعه»  (متفق عليه).

هذا؛ ولما كان الإسلام قد قرر للإنسان كرامة متميزة، وشدد على ألا يعتدي عليه أو يهين كرامته أحد من الناس، فقد حرص أيضاً على ألا يتركه يمتهن كرامته أو يهين نفسه بنفسه، بالتذلل أو السؤال، أو ذوبان شخصيته في شخصيات الآخرين. ولذلك لاحقه ـ كما رأينا ـ بالتربية القرآنية أو النبوية، ليصون كرامته ويحافظ عليه. ولعل من تلك الملاحقة قول رب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾(القيامة 36).

ـ(382)ـ

وهكذا يتبين لنا، ان المنهج الإسلامي ـ بكتاب الله جل شأنه، وسنة رسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قد جعل للإنسان كرامة خاصة، تميزه عن بقية المخلوقات، مما يبرز إنسانية ذلك المنهج الكريم، ويبين اهتمامه الشديد بالناس أجمعين. لقد خصهم الله جميعا بتكريمه الذي رأينا، ولم يختص بالفضل منهم أحدا دون أحد.

وقد قال جل شأنه:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء 70). فالتكريم شامل لعنصر الآدميين كلهم، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، صغيرهم وكبيرهم، رجالهم ونسائهم أغنيائهم وفقرائهم، عامتهم وأمرائهم، حتى مؤمنهم وكافرهم. مما يلقي أضواء ساطعة على المساواة التي ينتهجها الإسلام بين بني البشر أجمعين.

قال صاحب البحث في تلخيص ذلك:

«أفلا ترى الإنسان وهو مميز في كل جيل؟

بالخير والبركات أو بالصنع والشكل الجميل

فلدعوة الإسلام بالإنسان ما يشفي العليل

بالعز والإكرام والتفضيل والشرف النبيل

أو بالمساواة التي هي مبدأ فيها أصيل».

4 ـ ظلم الناس في الإسلام، ظلمات يوم القيامة:

ان إنسانية الإسلام، قد اقتضت ان يمنع الناس من ان يظلم بعضهم بعضا، حتى لا تهدر إنسانيتهم التي قررها لهم، أو تهان كرامتهم التي يحرص عليها. وقد اثبت ذلك رب العالمين ـ جل شأنه ـ في حديثه القدسي حين قال ـ فيما رواه

ـ(383)ـ

عنه سيد الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»  (متفق عليه).

ولأن الإسلام شديد الحرص على رفع الظلم عن المظلومين؛ فقد جعله ظلمات يغرق فيها الظالمون يوم القيامة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»  (رواه مسلم). وهو تصوير خطير ترتعد منه فرائص العقلاء، فتردع أصحابها عن أي اعتداء. وقد فصل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في ذلك ووضح أكثر ـ في رواية أخرى ـ حين قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش. وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»  (رواه احمد).

وهو حديث جامع لأمور كثيرة، يرفض الإسلام شيوعها بين الناس، تكريما لإنسانيتهم، وحفظا لحقوقهم. فالظلم والفحش والشح والفجور والقطعية مرفوضة في الإسلام رفضا باتا. فالظلم عدوان على الآخرين، والفحش تبذل وانحلال في المجتمع، والشح أكل الأموال بغير حق، والفجور سقوط وفساد، والقطيعة منع لحقوق الأرحام والضعفاء والمحتاجين. وقد رفض الإسلام ان تشيع تلك الموبقات بين العالمين.

والحقيقة ان كثيرا من الناس، يقدمون نزعة الشر في نفوسهم، على نزعات الخير التي جبلوا عليها. فلا تقف أطماعهم عند حد، ويريدون لحرياتهم ان تنتهك حريات الآخرين. وفي ذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لو يعطي الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن؛ البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»(رواه البيهقي). وهي قاعدة فقهية قضائية إسلامية، لم

ـ(384)ـ

يعرف القضاء أقرب للعدالة منها.

وقد نبه الله ـ سبحانه وتعالى، بأن في النفوس شحا وظلما، وأن المفلحين هم الذين يتجاوزون ذلك، قال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر 9). وقد جاء في الأثر قول بعض العارفين: «إنّما الشح الذي ذكر في القرآن، ان تأكل مال أخيك ظلما»(ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ سورة الحشر».

وحتى لو كان الشح هو البخل، كما هو شائع بين الناس، فهو لؤم يدفع النفس إلى حب المال وبغض الأنفاق، ومنع حقوق الناس عنهم، وهي نقائص ظالمة، يرفضها الإسلام فيما يرفض من الأخلاق الوضيعة.  (انظر: إرشاد العقل السليم، إلى مزايا القرآن الكريم ـ المعروف بتفسير أبي السعود ـ سورة الحشر).

ويمضي الإسلام بإنسانيته التي يؤمن بها العاقلون، ويقربها المنصفون، في تربية الناس ـ كل الناس ـ على حب العدل ورفض الظلم، حتى يسعدوا بذلك أجمعون يقول ربنا ـ جل شأنه ـ في محكم الترتيل: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (يونس 44).

فإذا كان الله ـ جل شأنه، وهو ذو القدرة المطلقة، وهو الذي ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(الأنبياء 23) ﴿لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(النساء 40) فكيف بالناس الذي سيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة مما كانوا يجترحون ؟! وذلك يوم يضع الله الموازين بالقسط ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ _ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ _ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزلزلة 6 ـ 8).

وهكذا يحرص الإسلام على بناء مجتمع عالمي عادل لا ظلم فيه، ﴿يَا دَاوُودُ

ـ(385)ـ

إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(ص 26) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة 8).

تلك هي عالمية الإسلام وإنسانيته. فهو يفرض ان يسود الحق جميع الناس، وهو لا يسمح لأتباعه ان تكون معاداتهم لقوم سببا لعدم العدل بينهم، أو سببا في الشهادة بغير الحق ضدهم. والله جل شأنه، يجعل من ذاته العلية رقيبا على ذلك ﴿ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة 8 والنور 53).

ولا تقتصر حرب الإسلام للظلم العملي وحسب، بل انه يتجاوزه إلى رفض الظلم الكلامي كذلك. فلا تجوز السخرية مثلا، لا بين الرجال ولا بين النساء، كما لا يجوز الغمز واللمز بين الناس، أو مناداة البعض بما لا يحب من الكنى والأسماء. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(الحجرات 11).

بل لقد ذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك في إقرار حق الناس أجمعين في ان يعيشوا سعداء ومكرمين. فهو لم يشدد على حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحسب، بل لقد شدد على حفظ غيبتهم كذلك. فلا يجوز التجسس عليهم، ولا يجوز التحدث عنهم في غيابهم إلا بخير، كما لا يجوز ـ حتى ـ الظن بهم إلا بخير كذلك. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ

ـ(386)ـ

وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾(الحجرات 12). وفي ذلك ما فيه من حفظ للحقوق الآدمية، وصون للكرامة الإنسانية.

ويمزج الإسلام ـ كعادته ـ بين الترغيب والترهيب في معالجة الأمور. فبعد هذه الوصايا التربوية العميقة التي تلين لها القلوب الرقيقة، يردفها بالتهديد والوعيد الشديدين، اللذين يحميانها من عبث العابثين، وعدم استجابة الجاحدين. يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»  (متفق عليه) ويعزز النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ذلك بقوله أيضاً: «ان الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته»  (متفق عليه).

وقد بين رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ألوانا من الظلم بشقيه العملي واللفظي، وبين ان مصير فاعليه إلى جهنم والعياذ بالله ـ وذلك من باب التعليم والتنبيه والموعظة والتوجيه. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «اتدرون ما المفلس ! قالوا: المفلس فينا من لا درهم لـه ولا متاع. فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان المفلس من أمتي؛ من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت قبل ان يقضي ما عليه، اخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»  (رواه مسلم).

أما التهديد الإلهي للظالمين فهو تهديد مرعب مخيف، وقد طبقه الله في الدنيا على عدد كبير من الناس، قال جل شأنه: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾(هود 102). وهذا في هذه الدنيا، أما ما ينتظر الظالمين في الآخرة فهو أشد رعبا وأكثر خوفا. فإن لعنة الله ستحل عليهم من ناحية:﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(هود 18). وسيكون لهم من العذاب ما

ـ(387)ـ

يستحقون: «أن الظالمين لهم عذاب اليم»  (إبراهيم 22).

وقد حرص النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في توجيهاته المتنوعة، على ان يتشرب المسلمون بغض الظلم، وان يتعاونوا على تنظيف المجتمع منه، فقد كان غارقا إلى أذنيه فيه، حتى كانت القاعدة الجاهلية: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوما، فلما جاء الإسلام دين العدالة والمساواة، غسل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ تلك القاعدة من أدران الجاهلية، وعطرها بالاستقامة والإصلاح والرشاد، التي يبني الإسلام المجتمعات عليها.

اخرج الإمام البخاري في صحيحه ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما، أرأيت ان كان ظالما كيف أنصره ؟ ! قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره».

واشرب المسلمون هذا التوجيه الكريم، فجعلوه نصب أعينهم، وتسابقوا في العمل به. ومن أروع ما حفظ لنا التاريخ العطر في هذا المجال، ما قرره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه، في وصيته لولديه الكريمين، رضي الله عنهما، حيث قال: «وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا»  (الإمام الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 36).

وقد أوجز صاحب البحث هذا البند في أبيات قليلات قال فيها:

حق العباد على العباد كبير ___ والظلم مرتعه الوخيم خطير والعدل بين الناس فرض واجب ___ وبذا الإله على العباد يشير فالدين ليس به غني موسر ___ عند الحقوق وليس فيه تفقير كل سواسية أبوهم آدم ___ ولهم مثال واحد ومصير وأمام أمر الله يذعن كلهم ___ ملك وشيخ طاعن وأمير

 

ـ(388)ـ

5 ـ استضعاف الآدميين، والاستقواء على الآخرين، جرائم بشعة يرفضها المنهج الإسلامي

ان التعالي على الناس، واستضعافهم والاستقواء عليهم، لون من الظلم الشديد. وكان مكانه المبحث السابق، وقد أفرد لـه مبحث خاص لشدة خطورته على المجتمع، فهو يقطع أوصاله، ويهلهله ويضعفه، ويجعل من أهله شيعا وأحزابا يعتدي بعضهم على بعض، ويتجرع بعضهم بأس بعض.

وقد نعى الله على المتكبرين الذين يفعلون ذلك، وأظهر عملهم بمظهر مستهجن مرفوض، وفي مقدمة أولئك النفر فرعون وملؤه، قال جل شأنه: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص 4 ). وقد ساعد فرعون على ظلمه كبير وزرائه هامان، كما ساعده جنوده واتباعه، فدمغهم الله جميعا بالخطيئة والإجرام، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾(القصص 8).

وحتى قوم فرعون أطاعوه رغم ظلمه، واستجابوا لأمره رغم طغيانه، فقد ادعى الألوهية فلم يعارضوه، وعربد على أبناء الشعب فلم يقاوموه ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾(الزخرف 54). فنزع الله منهم ملكهم العظيم، وأخرجهم مما كانوا فيه من النعيم، وصدق فيهم قول رب العالمين: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ _ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾(الشعراء 57 ـ 58) كما صدق فيهم قولـه تعالى في سورة أخرى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ _ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ _ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ _ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾(الدخان 25 ـ 28).

ـ(389)ـ

اما فرعون نفسه؛ فقد انتقم الله منه انتقاما يتناسب مع طغيانه وظلمه، ويتواءم مع استعلائه واستقوائه وعدوانه على الناس، قال ـ جل شأنه ـ فيه: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾(الذاريات40).

وقد شدد الإسلام كذلك، على ضرورة التواضع وعدم التعالي على الناس لأن أصلهم واحد. فكلهم من ذكر وانثى، وكلهم من ماء وطين. وتعالي البعض منهم على البعض شذوذ لا يقره الإسلام. وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان الله أوحى الي ان تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد  (رواه مسلم). وينعى صاحب البحث على المتغطرسين غطرستهم بقوله:

يا ناس كلكم لآدم وهو من ماء وطين فإلى متى تتطاولون على العباد الآخرين؟!

ان الشعور بالعظمة والكبرياء الذي يداخل بعض النفوس المريضة، ما هو إلا نقيصة تستجلب غضب الله تعالى، لأن في ذلك إيذاء لبقية عيال الله الذين قال فيهم رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «الخلق كلهم عيال الله، واحبهم إلى الله انفعهم لعياله». وانطلاقا من ذلك فإن ابغضهم إلى الله هم الذين يتكبرون على عباده، ويستضعفونهم ويتعالون عليهم. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء»  (متفق عليه). وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(الإسراء 37) وفي ذلك يقول صاحب البحث:

يا أيها الإنسان لا تشمخ فأنك من تراب وأعمل لنفسك في حياتك فالحياة إلى ذهاب.

فإذا كان المنهج الإسلامي قد رفض الكبر والخيلاء والتعالي على الناس،

ـ(390)ـ

فهل تراه يقبل ظلمهم أو الاعتداء عليهم ؟! اخرج الإمامان الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم». فأمن الناس ـ كل الناس ـ في الإسلام، غاية تجعله يقر بالإيمان لمن يعمل على إرساء الأمن في المجتمع، حتى لا يفزع الناس من عدوان المعتدين وظلم الظالمين، فإنسانية الإسلام تقتضي توفير الأمن لجميع الناس. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة؛ من تركه الناس اتقاء شره»  (رواه البخاري ومسلم).

ومن أجل ذلك حرم الله البغي والعدوان، وقرن ذلك بأخطر الموبقات، كالشرك بالله والافتراء عليه، والفواحش ما ظهر منها وما بطن قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(الأعراف  33). وفي مجال آخر يتوعد الله البغاة بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(يونس 23). فهل وعى أولئك ما ينتظرهم من عذاب الله، انتقاما منهم لما فعلوه بعباده في الحياة الدنيا ؟ ! قال هشام بن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنهما: «اشهد لسمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: ان الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا»  (رواه مسلم).

على ان عذاب الله لن يكون بالدرجة التي يتصورها المتهاونون في حقوق الناس، وذلك لقوله سبحانه: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ _ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾(الحجر 49 ـ 50). وأوقع الأمثلة وأوضحها على غضب الله لحقوق الناس، وشدة عذابه للمعتدين عليها، ما يضاعفه الله من العذاب الأليم لمن يقتل من الناس نفسا بريئة، قال تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي

ـ(391)ـ

إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾(المائدة 32).

بل ان الإسلام يعطي الناس حق الثورة على الظالمين، لردعهم وإيقافهم عن ظلمهم، وانتزاع حقوق الناس منهم ولو بالقوة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه»  (رواه الترمذي). ليس الأمر متروكا ـ إذن ـ لأمزجة الناس، فيرضى بالظلم ضعاف النفوس منهم، ويتهاون في حقوقهم الجبناء، ولكنه عقاب الله الذي ينتظر المتخاذلين. فالساكت عن الحق شيطان اخرس، وإذا نام أهل الحق عن حقهم فقد أذن للباطل ان يتربع.

 ومن هذا المنطلق أذن الله لرسوله ان يتصدى للظالمين بالقوة، ليردهم إلى جادة الصواب، فاشتبك معهم في حروب كانت ـ كما قال عنها العارفون ـ «فريضة لحماية الحق، ورد المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة»  (الغزالي ـ فقه السيرة ـ ص 208). ولذلك طبق النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ الأمر الرباني الكريم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال60) طبق النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ هذا الأمر تطبيقا عمليا، فكان يسهر على إعداد أصحابه لذلك. قال عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه: «سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، إلا ان القوة الرمي، إلا ان القوة الرمي »  (رواه مسلم)، وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا»  (أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد). كل ذلك لقمع المتجبرين، ومنع المعتدين، ورفع الظلم عن المستضعفين.

ـ(392)ـ

 

وفي ذلك من إنسانية الإسلام ما فيه، حين يعتبر الكبر والخيلاء والظلم والاعتداء، والتعالي والاستقواء، من أبشع الجرائم التي يرفضها منهجه، وهو يبني للناس مجتمعات إنسانية عادلة مستقيمة، وقائمة على أسس سليمة من العدل والمساواة، والتواضع والإخاء، وهدم ما كان شائعا قبل الإسلام من تفاخر بالآباء، ومن تعاظم واستعلاء.

6 ـ إصلاح المجتمع الإنساني، ونبذ الفساد والانحلال، من أهم مقاصد التشريع الإسلامي:

الفساد في المجتمع ألوان كثيرة. ففساد في الحكم، وفساد في الإدارة، وفساد مالي، وفساد اجتماعي، وفساد تربوي، وفساد أخلاقي، وغير ذلك. وقد أعلن الإسلام منذ كان، الحرب على كل هذه الألوان، وذلك إقرارا منه بإنسانية الإنسان، وحبا في ان يحيا جميع الناس في مجتمع صالح سليم، خال من عبث العابثين واجتراء المفسدين.

اما الفساد في الحكم فمظاهره كثيرة، منها ان يتقدم الأشرار على الأخيار، أو الادنون على الاعلين، أو يكون الملك وراثيا عضودا، لا رأي فيه لأبناء الشعب، ولا شورى بينهم. والله جل شأنه يقول في مدح المجتمع الصالح السليم: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(الشورى 38). وفي هذه السورة ـ كما هو معروف ـ أمور مهمة كثيرة، ولكنها سميت بذلك لأهمية الشورى في الإسلام، وذلك حرصا على صلاح المجتمع. بل ان الله جل شأنه يأمر رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ بأن يشاور الناس في الأمر: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾  (آل عمران 159) إقرار بحقوقهم من ناحية، وتربية لهم ولأجيالهم على الشورى من ناحية أخرى.

ـ(393)ـ

ومن مظاهر الفساد في الحكم أيضاً؛ الظلم الذي يتصف به كثير من الحكام، أو تهاونهم في حقوق الناس أو في حمايتهم، أو في توفير الأمن لهم. ومن ذلك الدعاء المأثور: «الهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا».

أما الإدارة فإن أهم مظهر للفساد فيها، هو عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مما يقتضي إسناد مناصب الدولة للأصهار والأقربين والأصدقاء والموالين، دون مراعاة للكفاءة أو القدرة أو الخبرة أو المؤهلات. وعندما يكون الأمر كذلك، يصاب أصحاب الكفاءات بالإحباط، ويذوي التنافس الشريف بين الناس، ويحرم المجتمع من اجتهاد المجتهدين وتسابق المجدّين، ويتراكم الإهمال وتفسد الأعمال.

واما الفساد المالي؛ فإن أبرز مظاهره أكل أموال الناس بالباطل، ورشوة الحكام والموظفين لتسهيل ذلك واستساغته. وفي ذلك يقول رب العالمين: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة 188).

اما الفساد الاجتماعي فمظاهره كثيرة أيضاً، منها الغش والتزييف والرباء والتجارة فيما يضر المجتمع كالمسكرات والمخدرات وغير ذلك. ففي الغش عدوان على الناس بإعطائهم ما يحسبونه جيدا وهو فاسد، وقد قال سيد الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «من غشنا فليس منا»، وفي رواية: «من غش فليس منا». وكلتا الروايتين تحرمان الغش، وتنفيان الإسلام عمن يقترفه من المسلمين، وتنفيان الإنسانية عمن يقترفه من غير المسلمين. وليس شرطا ان يكون الغش في الأموال والمبيعات، فقد يكون في الزواج أو التعليم أو الفتوى أو غير ذلك.

والتزييف نوع من الغش، ينسحب عليه ما ينسحب على الغش من منع

ـ(393)ـ

وتحريم، لما يؤديه في المجتمع من إفساد شديد.

أما الربا فقد حرمه الإسلام لأنه يفتك بالضعفاء والأقوياء على حد سواء. وما تفعله مصارف العالم اليوم، من تعامل بهذا الربا القاتل، هو السبب المباشر في الويلات والنكبات، التي يتجرع الناس غصصها، في مختلف أنحاء العالم. وصدق الله ـ جل شأنه ـ وهو يصور أكلة الربا بهذا التصدير المرعب إذ يقول: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾(البقرة 275).

اما التجارة فيما يضر المجتمعات من خمور وحبوب هلوسة وغيرها، فهي في الإسلام ممنوعة منعا باتا، لأن فيها تعديا على عقول الناس وصحتهم، ولذا فقد حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كثيرها وقليلها بقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

وجاء في الأثر: «العقل السليم في الجسم السليم». ومنهج الإسلام بسماته الإنسانية، يبني الأجسام السليمة والعقول السليمة.

وأما الفساد التربوي فهو تحديد مناهج منحرفة، وتنشئة الأجيال عليها، كما هو حال مناهج كثير من دول العالم اليوم، فهي تعمل على تنشئة أجيالها تنشئة صالحة في داخل أوطانها، فإذا كانت خارج الأوطان عربدت واستعمرت واحتلت وغزت، وظلمت مختلف العباد، وعاثت في الأرض الفساد.

اما الإسلام فإن منهجه التربوي ينشئ الإنسان الصالح، في داخل الوطن الإسلامي وفي خارجه. فلا صدام إلا مع المعتدين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وفي غير ذلك يفرض الإحسان على المسلمين إلى جميع الناس، المؤمنين منهم والكافرين: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة 8).

ـ(395)ـ

وأما الفساد الخلقي فهو أجلى مظاهر الفساد في المجتمع، فقد تختفي آثار الفساد فيما ذكرنا من أمور على كثير من الناس، اما الفساد الخلقي فهو ظاهر للعيان. ومن مظاهره التعهر والتبذل والانحلال والفجور، سواء أكان ذلك بظهور النساء في المجتمع كاسيات عاريات مائلات مميلات، مما يثير الغرائز ويحرض على اقتناص الشهوات الحرام، أم كان بالأغنيات الساقطة والمسرحيات الرقيعة، والتمثيليات والأفلام الهابطة.

وقد أعلن الإسلام ـ كما قلنا ـ الحرب على كل ذلك. فقد غضب الله على المفسدين وأخرجهم من دائرة رحمته، وحذرهم بشدة حين قال:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص 77). وفي ذات السورة يتوعدهم بسوء العاقبة والإهمال في الدار الآخرة، حين يخصص متعها وخيراتها للمتواضعين والمصلحين إذ يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص 83).

بل ان القرآن يدمغ المفسدين في الأرض بلعنة الله التي ستحل بهم، فتحيل مصيرهم إلى أسوأ المصائر، وتجعل آخرتهم سوء الدار، وذلك حين قرنهم بمن ينقضون العهود والمواثيق، أو يقطعون الأواصر والأرحام، قال جل شأنه: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(الرعد25).

والتزم الخيرون والمرشدون ودعاة الإصلاح على مدى التاريخ، وفي مقدمتهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، التزموا دعوة الله الناس لإصلاح مجتمعاتهم، والابتعاد عن الفساد أيا كان لونه ونوعه، وذلك بقوله الصريح جل شأنه:﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾(الأعراف 56).

التزم المصلحون ذلك، وجعلوه أساس دعوات الإصلاح التي جاءوا بها إلى أقوامهم على مدار الزمان فكانوا يحذرون الناس من المنحرفين الذين يحاربون الإصلاح ويكرسون الفساد، كما قال صالح عليه السلام لقومه: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ _ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(الشعراء 151 ـ 152). أو كانوا يكررون دعوتهم إلى أقوامهم بأن يتجنبوا الفساد ويحذروه، وكما قال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(هود 85، والعنكبوت 86). أو كانوا يقررون ـ بوحي من الله ـ ضياع المفسدين وضياع أعمالهم هباء، كما قال موسى عليه السلام: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس81).

فإذا استيأس الرسل من إصلاح المفسدين، بعد طول وعظمه فيهم ودعوتهم إليهم، لجئوا إلى الله يطلبون نجدته ونصره، كما جرى مع لوط عليه السلام، فإنه ـ حين استيأس من صلاح قومه:﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾(العنكبوت 30).

وقد جعل الله فساد الأعمال دليلا على فساد النفوس، بغض النظر عن معسول الكلام الذي قد يصدر عن المفسدين. قال سبحانه:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ _ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾(البقرة 204 ـ 205).

ومن ذلك يتضح ان الإسلام قد جعل إصلاح المجتمع وتنظيفه من الفساد والمفسدين، من أهدافه الأساسية. وذلك حتى يعيش الناس حياة صالحة، ترتفع بهم عن الفوضى والفساد، اللذين ينتقصان من انساينتهم، ويسيئان إلى آدميتهم.

ـ(397)ـ

وصدق الشاعر حين قال:

«أخلاقنا نحيا بهن معززين مكرمين على الزمان طويلا

وإذا أصيب الناس في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا»

وقد شخص الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ ذلك بقوله: «وسط نماذج لا حصر لها من الضلال والغفلة، اخذ الإسلام رويدا رويدا ينشر اشعته. فأخرج أمة من الظلام إلى النور، بل جعلها مصباحا وهاجا يضيء ويهدي. والدروس التي أحدثت هذا التحول الخطير، والتي رفعت شعوبا وقبائل من السفوح إلى القمم، ليست دواء موقوتا أو مخصوصا، بل هي علاج أصيل لطبيعة الإنسان إذا التاثت، وستظل ما بقي الإنسان وبقيت الحياة، تكرم الإنسان وتجدد الحياة».  (محمد الغزالي ـ فقه السيرة ـ ص 24).

7 ـ إرساء الفضائل، ومحاربة الرذائل، من أولويات عمل الدعاة في الإسلام:

ومن مظاهر السمت الإنساني الشمولي للإسلام؛ انه وضع الحلول لكل المعضلات، التي قد تواجه الناس في حياتهم الطويلة، ومجتمعاتهم المتعددة فقد اقتضت حكمة الله ـ جل شأنه ـ ان يختم الرسل بسيد الخلق رسول الله محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فأوحى إليه وأنزل عليه منهجا تتكفل تشريعاته السمحة الشاملة، بمعالجة مشكلات الناس معالجة كاملة، بحلول تصف الدواء لكل داء.

وقنن الإسلام هذه الحلول في قنوات أساسية خالدة على مر الزمان. وأمر الناس بالاحتكام إليها والاعتماد عليها ليسعدوا ويسودوا. ورأس هذه القنوات كتاب الله الكريم، وما فيه من تشريع حكيم. قال عنه الذي أنزله بالحق ـ سبحانه و

ـ(398)ـ

 تعالى ـ :﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾(الإسراء 9).

وثاني هذه القنوات حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وفيه تفسير كتاب الله، وتفصيل مجمله، وتوضيح تشريعاته. وكأنه ـ بلغة هذا العصر ـ المذكرة التفسيرية لذلك القانون الرباني الكريم، مضافا إلى ذلك ما أوحاه الله لرسوله فعبر عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ بالحديث القدسي أو بالحديث الشريف. وفي ذلك يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ : «إنّما أوتيت القرآن ومثله معه». ويقول رب العالمين: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(الحشر 7).

وبقية قنوات المنهج الإسلامي هي الإجماع والقياس والاجتهاد. وقد شرع الإجماع لأن الأمة الإسلامية في مختلف الانحاء، يستحيل ان تجمع أو تجتمع على الخطأ. كما شرع القياس ليستفاد من تجارب السابقين وخبراتهم. وفتح باب الاجتهاد ليجد علماء الإسلام النابهون، حلولا مناسبة لما يواجه الناس من المعضلات، التي لم يسبق لها مثيل، ولا يوجد لها حل في كتاب الله أو في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولم تعرض للعلماء السابقين. فقد ترك أمر مثل هذه المعضلات للمجتهدين من العلماء المحدثين.

يؤيد هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما بعثني النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى اليمن قال لي: كيف تقضي ان عرض قضاء ؟ قال: قلت: اقضي بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما قضى به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسول ؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو. فضرب صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لما يرضي رسول الله»  (انظر ـ الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ 1 / 448).

ـ(399)ـ

وبهذا فقد رسم الإسلام للناس منهجا يقوم عليه الدعاة والعلماء، لإرساء الفضائل في المجتمع، ومحاربة الرذائل التي تستهدف وجوده وصلاحه وأمنه واستقراره، وذلك بعد ان ختم الرسل عليهم السلام بالنبي العظيم، وختمت الكتب السماوية بالقرآن الكريم.

ومن هذا المنهج التوجيه الرباني الصريح: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(النساء 114). وفي ذلك ايحاء واضح للعلماء بواجبهم في الإصلاح وإرساء الفضائل، ليسعد مجتمعهم في الدنيا، وينالوا الأجر العظيم على ذلك في الآخرة. أما تربية الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ للأجيال على حب الفضائل والترفع عن الرذائل، فقد شهدت بها الأحاديث الكثيرة التي علم بها أصحابه العظام، وآل بيته الكرام.

ولما كان الصدق من أرفع الفضائل، وكان الكذب من أسفل الرذائل، فقد قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ان الصدق يهدي إلى البر، وان البر يهدي إلى الجنة، وان الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. وان الكذب يهدي إلى الفجور، وان الفجور يهدي إلى النار، وان الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»  (متفق عليه).

وللكذب قرينات متعددات من الرذائل، كالغدر والخيانة وما إليهما. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»  (أخرجه الترمذي وأبو داود). وفي ذلك ما فيه من توصية برفيع الأخلاق كالصدق والوفاء والأمانة، وتحذير شديد من وضيع الأخلاق كالكذب والغدر والخيانة.

اما الفحش والبذاءة وإساءة الأدب؛ فهي من الرذائل الممقوتة كذلك.

 

ـ(400)ـ

ويقابلها الحياء الذي يزين الإنسان، حتى جعله رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من شعب الإيمان. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه»  (أخرجه الترمذي). وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ  فيما أخرجه الترمذي أيضاً ـ : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء». وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ كذلك: «الحياء لا يأتي إلا بخير»  (متفق عليه).

ويمزج الإسلام ـ كعادته ـ بين الترغيب والترهيب، في إرساء الفضائل ونبذ الرذائل من المجتمع. وذلك لتحبيب الناس في عالي الأخلاق ورفيعها، وتحذيرهم من سفيه الأخلاق ووضيعها. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ فيما رواه معاذ رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»  (أخرجه الترمذي).

ان إنسانية الإسلام وامميته وشموليته، تتجلى بوضوح في هذا الحديث الشريف. فالخوف من الله وتقواه، والالتزام بالاستقامة في كل مجال من مجالات الحياة، يجب ان ترافق المسلم على الدوام، سواء أكان في وطنه ام كان خارج وطنه، وسواء أكان في جماعة ام كان بمفرده، وسواء أكان بين المؤمنين أم كان بين غيرهم من الآدميين. كما يفرض على المسلم ان يتخلص من السيئات التي اجترحها، بعمل الحسنات وتقديم الخير للناس، سواء أكانت السيئة التي اجترحها مع المسلمين ام كانت مع غير المسلمين.

«وخالق الناس بخلق حسن»، وفي ذلك فرض الخلق الحسن مع جميع الناس، لا ان يخالق الأمريكي والإنجليزي وغيرهما مواطنيهم بخلق حسن، فإذا خرجوا من أوطانهم برزت أخلاقهم الشيطانية المتغطرسة المعتدية. وفيما يفعله هؤلاء اليوم بالشعوب المستضعفة تأييد واضح لما نقول. ذكر التاريخ الحديث انه

ـ(401)ـ

بينما كان الإنجليز يعربدون في كينيا وإفريقيا الوسطى قال أحد جنودهم لزميله ـ في وصف الأفارقة: «انهم وحوش، تصور ان أحدهم عضني وأنا اقتله» (محمد الغزالي ـ فقه السيرة ص 214).

ومن ترغيب الإسلام الناس في عمل الخير قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (أخرجه الترمذي). ومنه أيضاً قولـه ـ صلى الله عليه وآله ـ: «تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع لـه عليها متاعه ـ صدقة، والكلمة الطيبة صدقة. وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (متفق عليه).

ومن ذلك ـ أيضاً ـ قولـه ـ صلى الله عليه وآله ـ: «إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (متفق عليه). وفي هذا ما فيه من الترغيب في عمل الخير لجميع الناس.

وأما الترهيب من الشرور فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أحاديث كثيرة كذلك، ومنها قولـه ـ صلى الله عليه وآله ـ: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).

ان الإسلام لا يدع الأمور تتجه نحو الفساد وانتشار الرذائل في المجتمع؛ دون ان يعزز منهجه في محاربتها بالقوة، إذا لم يفلح الوعظ والإرشاد، وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله ان يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (رواه الترمذي).

أما انحراف الحكام والسلاطين، ونزوعهم إلى الظلم والفساد، فقد جعل

ـ(402)ـ

الإسلام مقاومة ذلك في مرتبة الجهاد في سبيل الله. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ: «افضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة).

فالظلم الذي يلجأ إليه بعض السلاطين في العالم، يفسد المجتمعات، ويحيلها إلى غابات يستقوي فيها الأقوياء على بقية الموجودات. ومن أخص واجبات علماء المسلمين ودعاة الإصلاح فيهم، ان يتصدوا لهذا الظلم، وان يحموا الناس من تأثيراته الأليمة وعواقبه الوخيمة. قال الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ في كتابه (الحكومة الإسلامية ـ ص 37): «فواجب العلماء وجميع المسلمين، ان يضعوا حدا لهذا الظلم، وان يسعوا من اجل سعادة الملايين من الناس».

ان العلماء هم ورثة الأنبياء، وعلماء المسلمين اليوم مدعوون لان يعطوا هذه الوراثة حقها فهم ورثة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وهو لم يترك درهما ولا دينارا ليرثوه عنه، ولكنه ترك ـ فيما ترك ـ الخلق العظيم، الذي شهد لـه به القرآن الكريم، في قول رب العالمين: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم 4). بل ان الله قد بعثه ـ صلى الله عليه وآله ـ متمما للأخلاق الكريمة وقدوة فيها، كما أخبر بذلك ـ صلى الله عليه وآله ـ حين قال: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

ان مسؤولية علماء المسلمين اليوم؛ هي مواصلة هذه الرسالة الأخلاقية السامية، والعمل على استمر أريتها، لإرساء الفضائل في مجتمعات الناس ـ كل الناس ـ، ونفي الرذائل ومحاربتها في تلك المجتمعات كذلك.

ـ(403)ـ

8 ـ تبليغ الدعوة الإسلامية لجميع الناس، فريضة على علماء المسلمين

لم ينزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ كتابه الكريم على نبيه الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ، ليتلى في المآتم والحفلات، أو على المقابر والأموات، كما يفعل كثير من المسلمين في هذه الأيام، ولكن الله أنزله ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(النحل 89). فيهتدي به المهتدون، ويستبشر به المحسنون، ويحتكم إليه الناس أجمعون.

وقد انتشرت الآيات الكريمة في القرآن الكريم، وهي تتحدث ـ بإفاضة مقصودة ـ عما فيه من هدى ورحمة وبشرى، أو إنذار وموعظة وذكرى. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة 2 ) وقال سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ _ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾(لقمان 2 ـ 3).

ولما كان هذا القرآن: ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء 9)، ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(النمل 77) وكان الله كما قرر سبحانه:﴿إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(البقرة 143). اقتضت مشيئة الله وحكمته ان يجتبي رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ لينذر الناس بتبليغهم ذلك الكتاب العظيم. قال جل شأنه على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(الأنعام 19). جاء في زبدة التفاسير في تأويل ذلك: «لأجل ان أنذركم به، وانذر به من بلغ إليه من الناس جميعا، بجميع شعوبهم واصنافهم، من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة.

فأحكام القرآن شاملة للبشر والجن جميعاً، من كان منهم موجودا يوم الرسالة، أو يوجد بعدها إذا بلغتهم دعوة الإسلام وسمعوا بهذا القرآن، وهو نذير لهم بأنهم مسؤولون عن استجابتهم لدعوة الله، وعن أعمالهم في الدنيا عند لقاء الله »

ـ(404)ـ

(محمد الأشقر ـ زبدة التفاسير ـ سورة الأنعام آية 19).

ومن ذلك تتضح الحكمة من إصرار القرآن على ضرورة تبليغه للناس أجمعين، فإن فيه رحمة الله بهم، وحرصه على هدايتهم. يقول رب العالمين في هذا المجال لرسوله الأمين: ﴿ َا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(المائدة 67).

ان اللمحات الإنسانية في حرص الإسلام على تبليغ القرآن لجميع الناس؛ لمحات واضحة لأنه يحرص على توزيع الخير على جميع الناس، ولا يحصره في عنصر من عناصر هم. ومصداق ذلك قول الله جل شأنه لنبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي كلفه بحمل هذا القرآن إلى الناس أجمعين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء 107). ذلك انه يحمل إلى الناس الشفاء والرحمة والبصائر والهدى. يقول سبحانه:﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(الإسراء 82).

ويسهب القرآن الكريم، وهو يذكر الناس بما أنزل الله إليهم، من المواعظ والهدى والشفاء لما في الصدور فيقول :﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(يونس 57) وإلى جانب هذه الموعظة والشفاء والرحمة والهدى، يضم القرآن الكريم بين دفتيه إنذارات شديد للظالمين والمنحرفين والمفسدين. يقول الله جل شأنه:﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾(الأحقاف 12).

ذلك ـ أذن ـ هو المنهج الإسلامي، وتلك هي مواصفاته الإنسانية. وقد شاءه الله للخلق أجمعين، الذين وجدوا منهم حين مجيئه وبزوغ فجره، والذين سيأتون من بعدهم. أما بالنسبة للذين بزغ فجر الإسلام عليهم، فقد تولى رسول

ـ(405)ـ

الله ـ صلى الله عليه وآله ـ تبليغهم ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى في قولـه المبين: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ _إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾(الحجر 94 ـ 95) وقد روي أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يزل مستخفيا بالدعوة، حتى نزل هذا الأمر الكريم، فخرج هو وأصحابه يصدعون بذلك، غير عابئين بما يواجههم من المشركين.

أما المستهزئون الذين ذكروا في الآية السابقة، فهم خمسة من زعماء مكة، وأهل الشوكة فيها. وهم: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن الطلالة. وقد كفى الله رسول ـ صلى الله عليه وآله ـ شرهم بأن أهلكهم جميعا في يوم أحد.

وأما الأجيال المتعاقبة، فكان لابد من أن يكون فيهم حملة لرسالة الإسلام، ودعاة لتبليغ دعوته للناس على مر العصور. وقد نزل القرآن بتكليف طوائف من الأمة على تتابع أجيالها، للقيام بهذه المهمة المقدسة. يقول ربنا جل شأنه في سورة آل عمران (آية 104): ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ويقول ـ سبحانه ـ في سورة التوبة (آية 122): ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.

وانطلاقاً من ذلك فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «بلغوا عني ولو آية». وهي قاعدة مشهورة في الإسلام، لو سار عليها علماء الإسلام في هذه الأيام، لما بقيت آية من كتاب الله مجهولة لدى أحد من الناس. ان بيننا في العالم الإسلامي من العلماء أعدادا رهيبة، فلو انهم وزعوا آيات القرآن الكريم بينهم، لما حظي كثير منهم بأي نصيب منها لأن آيات كتاب الله بالآلاف، أما العلماء بيننا فهم بالملايين.

ـ(406)ـ

إذن؛ فأين يكمن الخلل في جهل الناس بالقرآن الكريم؟! انه يكمن ـ بالتأكيد ـ في عدم تحمل علماء المسلمين اليوم لمسؤولياتهم، في تبليغ هذا الكتاب الكريم إلى الناس أجمعين. يقول الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ: «وإذا قلنا: ان الإسلام دين العالم ـ وهذا واضح وبديهي ـ كان لزاماً على علماء الإسلام ان ينشروا ويبثوا ويذيعوا أحكام هذا الدين في العالم كله (آية الله الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 58).

ان تقاعس علماء الإسلام عن القيام بمسؤولياتهم، وحمل الأمانة التي أوكلت إليهم، هو الذي جرّأ الظلمة في المجتمعات على العبث بحريات الناس وأرواحهم وممتلكاتهم، كما هو مشاهد في مختلف ساحات العالم اليوم. وفي ذلك يقول الإمام الخميني ـ رحمه الله: «فينبغي توجيه أكبر قدر من الأمر والنهي، إلى العابثين بأرواح الناس وأموالهم وممتلكاتهم» (الإمام الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 113).

فإذا كان العلماء ورثة للأنبياء ـ كما هو معروف ـ فهم أيضاً حماة الإسلام، ودروع الإسلام، وحصون الإسلام، التي تقف حاجزا دون إجهاض مشروعه الحضاري الإنساني، وقد وضعت فيهم الثقة من سلفنا الصالحين وأئمتنا الأكرمين. جاء في ـ الحكومة الإسلامية ـ ما نقله الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ عن الكافي من كتاب فضل العلم ـ قول الإمام أبي الحسن (موسى بن جعفر) رضي الله عنهما: «لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام». فإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد أمر كل من رأى منكرا أن يغيره، بيده أو بلسانه أو بقلبه ـ حسب قدرته ـ فكيف يكون الحال مع العلماء والفقهاء والدعاة ؟ ! أظن ان الأمر سيكون بالنسبة إليهم فرضا من الفروض، التي سيحاسبون عليها، حين يقفون بين يدي القوي العزيز.

ـ(407)ـ

ان الله لن يغفر لهؤلاء العارفين هذا التقصير الخطير، وهو الذي نعى على الأحبار والرهبان الذين سكتوا عن المفسدين في مجتمعاتهم. وقد تطرق إلى ذلك الإمام أبو عبدالله الحسين، سيد شباب أهل الجنة ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ حين وجه للناس في منى في أيام الحج ذات سنة ـ خطاباً جاء فيه: «اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه، من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾(المائدة 63).

ويتابع الإمام ـ رضي الله عنه ـ خطابه بقوله: «وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم ـ المنكر والفسادن فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون. والله يقول:﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾(المائدة 44). ويواصل الإمام رضي الله عنه خطابه إلى ان يقول: «وذلك ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء الإسلام، مع رد المظالم ومخالفة الظالم» (الإمام الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 103 ـ 104).

وأنى لله جل شأنه ـ ان يغفر للمقصرين هذا التقصير، وهو الذي يمتدح ـ بالتصريح ـ أولئك الذين يؤدون هذا الواجب المقدس، كما يتوعد ـ بالتلميح ـ الذين يقصرون في ذلك، يقول جل شأنه:﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾(الأحزاب 39) بل ان الله سبحانه وتعالى ـ يتابع الأنبياء والمرسلين أنفسهم:﴿لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾(الجن 28).

ولما كان القرآن الكريم قد أنزله الله رحمة للعالمين ـ كل العالمين ـ، فقد تكفل الله بحفظه، حتى لا يصل إليه عبث العابثين، أو يغير من منهجه افتراء

ـ(408)ـ

المفترين. ذلك ان المتآمرين عليه كانوا كثيرين. منهم الذين اتهموا النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بتدبيج القرآن من عند نفسه. وقد رد الله عز وجل هذه الفرية بشدة حين قال:﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾(يونس 37).

ومنهم المقتسمون ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾(الحجر 91). وهم ستة عشر رجلا من قريش بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الحج فاقتسموا فجاج مكة وشعابها واستقبلوا الحجيج يحذرونهم من الاستماع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، فما هو إلا ساحر أو شاعر أو كاهن. كما اقتسموا القرآن الكريم، فجعلوا بعضه شعرا وبعضه سحرا وبعضه كهانة. فأنزل الله عليهم العذاب الذي يستحقون، وأنزل فيهم ما يرتعب منه المتقون. وذلك في قولـه تعالى: ﴿ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ_الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾(الحجر 90 ـ 91).

ومنهم الذين طلبوا من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ العبث بالقرآن الكريم، سواء بتبديله بقرآن غيره أو حذف ما لا يعجبهم من آياته. وقد رد الله عليهم قولهم هذا، وحذرهم من العقاب الشديد الذين ينتظر العصاة الذين يفعلون مثل هذا بكتابه الكريم. قال عز وجل: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(يونس 15).

ثم أعلن رب العالمين تعهده الذي لا ينقض، ووعده الذي لا يخلف، بحفظ كتابه من كل عبث أو تحريف أو تزييف. وذلك مهما حاول المحاولون أو تطاول المتطاولون.﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(الحجر 9)

وخلاصة القول؛ ان المنهج الإسلامي الذي يمثله القرآن الكريم وسنة النبي

ـ(409)ـ

الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ، يجب ان يجد طريقه إلى الناس، فإن فيه رحمة الله بهم، وموعظته إليهم، وهداه الذي تفضل به عليهم. وعلماء المسلمين في هذه الأيام هم الذين يجب ان يحملوا تلك الرسالة، ويؤدوا تلك الأمانة. وعليهم ألا يختصوا بها أحدا دون أحد من الناس، بل عليهم ان يشملوا بها جميع البشر. وتلك هي اللمسات الإنسانية الحانية في المنهج الإسلامي، الذي حمله رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بأمر الله جل شأنه إلى الناس أجمعين ـ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء 107).

 

9 ـ إقرار الحقوق لكل الأمم والشعوب، هو منهج إسلامي ثابت:

هناك فرق شاسع وبون واسع، بين جور الأديان وعدل الإسلام، وبين ضيق الدنيا وسعة الدنيا والآخرة، وبين عبادة العباد وعبادة رب العباد. فالأولى منهج الأديان التي حرفها الشياطين من اتباعها، ومنهج المعتقدات الوضعية والقوانين الأرضية، التي أوحى الشيطان بها إلى أوليائه من البشر.

والثانية هي منهج الإسلام، الذي شرعه الله لبني آدم أجمعين، فجعل فيه الرحمة بهم، والهداية لهم، والعدل بينهم، والمساواة في الحقوق والواجبات، التي لا تعرفها المناهج الأخريات، بل وتنكرها المحرفات من الديانات.

فالصليبية الحاقدة، تجعل من الأمريكي أو الإنجليزي أو الغربي بصفة عامة ـ إنسانا مميزا عن بقية الناس يجوز لـه بل ويفرض عليه، ان ينتهب خيراتهم، ويدنس مقدساتهم، ويعتدي عليهم كلما عنّ لـه ذلك.

وتذهب الشيوعية الملحدة نفس المذهب مع المؤمنين بها، والمنضوين تحت لوائها الإباحي البغيض وتزيد عن قرينتها الصليبية بما تستبيحه في

ـ(410)ـ

مجتمعاتها من الأعراض والأموال والدماء.

وأما الصهيونية الجشعة، فهي تجمع سيئات الصليبية والشيوعية، بزيادة واضحة في الحقد على جميع الناس، وتحيز مقيت ضد معتقداتهم وحضاراتهم وثقافاتهم، بل وضد وجودهم من الأساس.

وفي هذه الأحوال المؤلمة، والأجواء المظلمة، يبرز المنهج الإسلامي بلسما يزيل الآلام، ونبراسا يزيح الظلام، وأملا يحقق للإنسانية إنسانيتها، ويدافع عن كرامتها وآدميتها.

فهو يقرر المساواة التامة بين الجميع حين وقف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فتح مكة يخطب الناس فقال: أيها الناس؛ كلكم من آدم، وآدم من تراب لا فخر للأنساب، لا فخر للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، ان أكرمكم عند الله اتقاكم» (الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 280).

وتعددت أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ حول هذا الموضوع، نظرا لأهميته في المنهج الإسلامي. ففي صحيح البخاري ومسلم قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، كلكم أبناء آدم». وفي زاد المعاد رواية موسعة لهذا الحديث هي: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى».

ولعل من أبرز مظاهر المساواة التي يقررها المنهج الإسلامي بين جميع الناس قول رب العالمين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾(البقرة 168). ففي هذه الآية مساواة تامة في إطعام الناس ـ كل الناس، أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم، بل حتى مؤمنهم وكافرهم. وفيها كذلك توجيه الدعوة بالهداية والابتعاد عن الغواية ـ لجميعهم

ـ(411)ـ

أيضاً بلا تفريق أو تمييز. فإذا استمعنا إلى قول رب العالمين: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البقرة 186) أحسسنا بلمسات ربانية حانية رقيقة، موجهة إلى جميع خلق الله ـ من بني آدم ـ من غير تمييز، وذلك بنسبتهم إلى ربهم، واستجابته السريعة لدعوة من يدعوه منهم.

ان المساواة بين الناس هي إقرار لإنسانيتهم، وحفظ لكرامتهم. ولذلك فقد جعلها المنهج الإسلامي فرضا مما افترض على أبنائه، وقاعدة مهمة في بنائه. قال رب العالمين؛ ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل 90). فالعدل والإحسان مفروضان، والظلم والعدوان مرفوضان، كما يبرز بوضوح من هذه الآية الكريمة.

ومن المساواة الإشارة بأصل الناس الواحد، وان تفرقهم إلى أمم وشعوب لا يلغي حقوقهم في المساواة، فالهدف من ذلك هو التعارف لا التمايز، لأن التمايز إنّما يكون بتقوى الله وخدمة عباد الله. قال رب العالمين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات 13).

ومن إقرار حقوق الناس ـ بمختلف أممهم وشعوبهم ـ رفض التكبر عليهم. فإن التكبر والاستعلاء والاستقواء يستتبع الانتقاص من حقوق الآخرين أو العدوان عليهم. وقد حذر المنهج الإسلامي من ذلك اشد التحذير حين حرم الجنة على المتكبرين والمتعالين والمتغطرسين قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (رواه مسلم). واما المعتدون؛ فإن القرآن الكريم يتوعدهم بالعذاب الأليم، وذلك بقول الله جل شأنه:﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ

 

ـ(412)ـ

عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(الشورى 42).

حقوق الأمم والشعوب في المنهج الإسلامي ـ إذن ـ مكفولة بقوة القانون الذي حدّدته آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي العظيم ـ صلى الله عليه وآله ـ ولعل من حرص المنهج الإسلامي على ذلك، تشدده في حفظ الحقوق، وعدم الاجتراء عليها.

يقول رب العالمين: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(الشعراء 183).

وإذا كان في ذلك أمر الهي بالحفاظ على ممتلكات الناس واشياءهم، فهنالك أمر الهي للمؤمنين بالمنهج الإسلامي، الحريصين على تطبيقه وتنفيذه ـ بضرورة الحفاظ على العهود التي يقطعونها للناس، حفاظا على حقوقهم التي يضمنها المنهج الإسلامي يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(أول سورة المائدة).

ثم ان حرص الإسلام على حفظ حقوق الأفراد، هو مظهر من مظاهر الحرص على حقوق الأمم والشعوب. وقد تنوعت مظاهر حرص الإسلام على حفظ حقوق الأفراد، ومن ذلك حفظ الدماء والأموال والأعراض التي عرض لها هذا البحث بما تستحق في حينه. ونكتفي هنا بالتذكير بقول الله جل شأنه: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ_ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ_ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ_ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ _ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ  _يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(المطففين 1 ـ 6).

ان حرص الإسلام على حفظ حقوق الأفراد، اقتضى هذا التهديد الإلهي المرعب، كما يبدو من هذه الآيات الكريمات، فإذا كان ذلك في مجال التعامل

 

 

ـ(413)ـ

التجاري بين الناس، فهناك تشريع إسلامي يحفظ حقوق الأفراد كذلك في مجال التعامل الحرفي، فقد رأى الإمام علي رضي الله عنه، ان الصانع إذا أعطى شيئاً لصنعه، سواء أكان قماشا للخياطة، أو ذهبا لصنعه حليا، وضاع هذا من الصانع أو تلف، كان على الصانع أن يؤدي قيمته.

ووافق الصحابة رضوان الله عليهم ـ أمير المؤمنين ـ عليا رضي الله عنه، على هذا الرأي الاجتهادي الصائب، ووضع القانون المقرر لذلك في التشريع الإسلامي. وكان من حيثيات هذا القانون أنه لو اعتبر الضياع أو التلف للسلعة سهوا وغفلة، فقد يتهون الصانع في حفظ أشياء الناس (انظر: الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 238).

ان إقرار حقوق الأفراد، وحقوق الأمم والشعوب، هو منهج إسلامي ثابت، تعبيرا عن إنسانيته وشموليته. وقد عبر الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ عن ذلك بقوله: «أحكام الشرع تحتوي على قوانين متنوعة، لنظام اجتماعي متكامل. وتحت هذا النظام تسد جميع حاجات الإنسان، أخذا من علاقات الجوار، وعلاقات الأولاد والعشيرة، وأبناء الوطن، وجميع جوانب الحياة العائلية الزوجية، وانتهاء بالتشريعات التي تخص الحرب والسلم، والعلاقات الدولية، والقوانين الجزائية، والحقوق التجارية والصناعية والزراعية» (الإمام الخميني الحكومة الإسلامية ـ ص 27).

 

10 ـ الإسلام يعترف بالأديان السماوية الأخرى، ويأمر إتباعه بحسن التعايش معها:

ومن أرقى سمات الإسلام الإنسانية، إكرامه من سبقه من الرسل والكتب

 

 

ـ(414)ـ

والأديان السماوية، بل واشتراطه على اتباعه الإيمان بها. يقول رب العالمين:

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ_ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة 3 ـ 4). وليس ذلك متروكا لاختيار المؤمنين ولكنه فرض عليهم أجمعين. قال رب العالمين «جل شأنه»: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة 136).

وهذا اعتراف كامل بالأديان والكتب السماوية السابقة، وتكريم واف لأنبياء الله السابقين، صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتكرر معنى الآية ومحتوياتها وتعليماتها، ولكنها موجهة مباشرة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ نفسه:﴿قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران 84).

وهناك إلى جانب الاعتراف بالديانات السابقة والأنبياء السابقين، تنويه واضح بالمساواة بينهم في الحب والتقدير والإكرام، يقول سبحانه وتعالى:﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(البقرة 285) وفي الآية الكريمة امتداح واضح لما قام به النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ والذين آمنوا معه، من الاعتراف بالأديان السابقة، والإيمان بالرسل السابقين، وعدم التفريق بينهم في التبجيل والإجلال.

وكيف يقبل الإسلام التفريق بين الرسل السابقين، أو إنكار رسالاتهم وقد

 

 

ـ(415)ـ

جاء الإسلام نفسه من ذات المشكاة التي جاءت منها تلك الرسالات. فالمصدر واحد وهو رب العالمين، والهدف واحد وهو هداية الناس أجمعين، وصدق رب العالمين وهو يبين ذلك بقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾(النساء 163)، ثم يؤكد الله ذلك بقوله:﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾(الشورى 13).

وترسيخا لهذا الاعتراف في نفوس اتباع المنهج الإسلامي يقول رب العالمين: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (يونس 47).

أما النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فيغرس في نفوس المسلمين حب الرسل الاقدمين، والاعتراف بما جاءوا به من الحق، وذلك بقوله فيما أخرجه البخاري ومسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضوع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون لـه ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين».

ويزيد القرآن الكريم على ذلك بأن يوجه اتباع المنهج إلى التسامح مع أصحاب الديانات الأخرى، ويربيهم على ذلك بقوله: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ

 

ـ(416)ـ

الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(المائدة 5)، بل ويطلب إليهم برهم والإحسان إليهم، ماداموا غير محاربين ولا معادين. يقول رب العالمين: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ (الممتحنة8) وحتى إذا كانوا محاربين، ثم جنحوا للسلم من غير عدوان على المسلمين، أو انتقاص من حقوقهم، أو تعد على أراضيهم، فعلى المسلمين ان يستجيبوا لتلك الدعوة، وان يجنحوا للسلم الذي جنح إليه الآخرون. يقول رب العالمين: ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال61) وليس المقصود بذلك هذا السلام الأعرج الذي يدعو إليه الصهاينة والأمريكان اليوم. وهم يحتلون أرض المسلمين ويستترفون خيراتهم ويدنسون مقدساتهم في فلسطين وفي غير فلسطين. ثم يدعون العرب والمسلمين إلى السلام. فهذه اذا دعوة مرفوضة، حتى يرحل القوم عن أرضنا، ويكفوا عدوانهم عن أهلنا وشعوبنا.

ومن الاعتراف بالأديان السابقة، واحترام رسل الله الاكرمين الأقدمين، ان سوى المنهج الإسلامي بين المؤمنين من اتباع الرسل، ولم يفضل منهم اتباع أحد على أحد، فلكل جزاؤه ونتاج عمله، ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾(الأنعام 48) ومن ذلك أيضاً إقرار الله جل شأنه بأنه ـ كمال انزل القرآن الكريم ـ كان قد انزل التوراة والإنجيل، وهي لفتة مقصودة، ليربي المؤمنين على الاعتراف باديان الآخرين.

اما ما وصلت إليه تلك الكتب السماوية من التحريف والتزييف والزيادة

 

 

ـ(417)ـ

والنقصان، فهو موضوع آخر، فإن الإيمان المطلوب بها هو الإيمان بأصولها ومنابعها، وشكلها الذي نزلت عليه من السماء ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ _ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ _ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ _ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ _ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(المائدة44- 48).

ومن سماحة الإسلام المتناهية، إقرارا منه للإنسانية وتكريما لمبادئ المساواة والعدالة والحرية البشرية، يتجاوز بإحسانه أصحاب الديانات إلى المشركين والكافرين. فلا يجعل حتى للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ نفسه ـ سلطاناً عليهم، وعليه ان يلتزم الرفق والإحسان وهو يدعوهم إلى الإسلام، وعدم اللجوء إلى أي نوع من أنواع القوة في هذا المجال. يقول رب العالمين: ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن

ـ(418)ـ

سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(النحل 125). فإذا آمنوا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإذا لم يؤمنوا فذلك شأنهم، إذ: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة 256).

وحذر الله ـ جل شأنه ـ رسوله الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ من التدخل فيما بين الله وعباده الذين لم يؤمنوا إلا بتمني الهداية لهم أو ما إليه، اما نهايتهم ومجازاة الله لهم، فليس للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في ذلك من شيء رغم انحرافهم وظلمهم لأنفسهم أو للناس. فعن انس رضي الله عنه ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كسرت رباعيته يوم أُحد، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟! فأنزل الله عز وجل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ_ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(آل عمران 128 ـ 129).

ان الإيمان أو الكفر، على ما فيه من حرية للإنسان إلا انه مرتبط بمشيئة الله، ولذلك فليس لأحد ان يعتدي على أحد بسبب كفره ـ قد تبين الرشد من الغي ـ وعلى الدعاة ان يدعوا الناس إلى الهداية، وليس عليهم ان يحاسبوهم على شركهم أو كفرهم فذلك أمر متروك لرب العالمين، وليس لغيره من المؤمنين ولا حتى لأحد من المرسلين بمن فيهم سيد الخلق أجمعين الذي قال الله لـه: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾(الأنعام 107).

ان مسألة الكفر والإيمان مسألة حساسة، ويجب ان يكون التعالم معها، باحتراس شديد وحساسية تامة، فمن آمن واصلح فقد حصن نفسه واحترس لدينه. وعليه بعد ذلك ان يلتزم أوامر الله في الدعوة إليه بالحكمة والموعظة

 

 

ـ(419)ـ

الحسنة. وقد شدد الله ـ جل شأنه ـ على هذا الأمر في مواطن كثيرة من كتابه الكريم، ليترك للناس حرية الاختيار دون أي ضغط من أحد. وفي ذلك يقول ـ سبحانه وتعالى ـ وهو يخاطب رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(يونس 99)، بل ان الله جل شأنه يأمر نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ بنجدة من يستنجد به وإجارة من يستجيره من المشركين تنفيذا لذلك المنهج الكريم:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾(التوبة 6).

أين ـ في غير المنهج الإسلامي ـ احترام الآخرين ونجدة المخالفين وتامين الخائفين من أصحاب الرأي الآخر؟

ان ممارسات الصليبيين والصهاينة والشيوعيين، وكل أصحاب المعتقدات من غير المسلمين ـ تبرز ما غرسته تلك المعتقدات في نفوسهم من الحقد والبغض والعدوان. وأحوال المسلمين في الهند أو في روسيا أو في الصين، لا تنم عن احترام للإنسانية، أو توفير للآدمية، أو اعتراف بحقوق الآخرين.

أما تعامل الغرب بصفة عامة مع المسلمين، فهو التعامل الذي نراه في الغابات، بين الوحوش الضاريات، وبين بقية المخلوقات.

ان الإسلام ـ فقط ـ هو رمز التسامح الديني، وهو رمز حب التعايش الاجتماعي، وهو رمز الإنسانية التي تحب الخير للناس أجمعين، وتعترف بحقوق الآخرين، ولو كانوا مخالفين أو حتى مشركين.

 

 

ـ(420)ـ

11 ـ شواهد تاريخية على إنسانية الإسلام:

ليس ما أثبتناه في البنود السابقة من مظاهر إنسانية الإسلام، غير أمثله قليلة، لم يكن الهدف منها حصر تلك المظاهر، فإن حصرها بالعقل البشري مستحيل.

فالإسلام قد بني أساسا على قواعد إنسانية لم تهيأ إلا لـه، ولا توجد إلا فيه.

وفي كتاب الله جل شأنه، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ، من تلك القواعد والمظاهر والأمثلة؛ ما يصعب حصره كذلك. فمغفرة الله ورحمته وجنته، تنتظر الذين يعفون عن الناس، وينفقون عليهم، ويحسنون إليهم. قال الرحمن الرحيم: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ_  الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأنعام 133 ـ 134).

نعم ! إن الله يحب الذين يحسنون لعباده، بأي نوع من الإحسان كان، حتى ولو بالكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة ـ في منهج الإسلام ـ صدقة. ومن إنسانية الإسلام كذلك، حرصه على حسن العلاقات بين الناس، وذلك بتبادل التحايا الطيبة، وردها بأحسن منها قال جل شأنه: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(النساء 83).

واستوعب المسلمون آيات القرآن الكريم، وأشربوا ما فيها من روح إنسانية عالية. وضرب لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمثلة رائعة في حسن تطبيق تلك الآيات الكريمة، والعمل بتلك الروح الإنسانية العظيمة.

وقف النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم بدر ينظم صفوف المقاتلين من المسلمين، وكانت بيده جريدة نخل يهش بها عليهم، فأصابت بطن واحد منهم كان متقدما في

 

 

ـ(421)ـ

الصف عن أقرانه، فقال: آلمتني يا رسول الله، فكشف النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ رداءه عن بطنه وقال: هذا بطني تعال فاقتص منه، فهجم الصحابي رضي الله عنه على بطن سيد الخلق يقبله وهو يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ: وما حملك على ذلك ؟! قال: علمت بأنها المعركة، وقد تكون نهايتي فيها، فأحببت الا أخرج من الدنيا إلا وقد مس جلدي جلدك، عسى الله ان يحرم جسدي بذلك على النار. فقبله النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ودعا لـه.

نعم ! بل ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يكن يختص بنفسه بشيء دون أصحابه، ولا دون أحد من المسلمين. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير ـ أي يتعاقبون ـ كان أبو لبابه وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ زميلي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، قال: فكانت عقبة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقالا لـه: نحن نمشي عنك، ليظل راكبا ـ فقال: ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».

على أن هذه الإنسانية النبوية، لم تكن مقصورة منه ـ صلى الله عليه وآله ـ على أصحابه وحسب، ولا حتى على المسلمين، بل كانت تعم الناس أجمعين. كان ليهودي دين عليه ـ صلى الله عليه وآله ـ، وكان اليهودي حاقدا وغير مؤدب فجاء يطالب المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ بدينه وهو يجلس في نفر من أصحابه، فجذبه من ثوبه حتى بان أثره في رقبته الشريفة وقال: يا محمد ! لِمَ لا تؤدي ما عليك ؟ ! أم أنكم هكذا يا بني عبد المطلب، مطل في الأداء ؟! فغضب الصحابة رضي الله عنهم، وكاد عمر يفتك باليهودي. فنهره النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقال: ما هكذا يا عمر ! ولكن مره بحسن الطلب، ومرنا بحسن الأداء.

هذا المشهد يقطر إنسانية كما نرى، فقد تجاوز النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عن غلظة اليهودي

 

 

ـ(422)ـ

وسوء أدبه وتعديه على السيد المختار. ونهر ابن الخطاب حين أراد ان يؤدب ذلك اليهودي الوقح. بل لقد ساوى بين نفسه الشريفة ـ صلى الله عليه وآله ـ وبين اليهودي في المعاملة، حين أمر عمر بأن يتلطف مع اليهودي في النصح بحسن الطلب والتأدب فيه، وطلب إليه أيضاً ان يوجه النصيحة إلى سيد الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ليؤدي ما عليه من دين.

ولو أن هذا المشهد قد حدث مع واحد من رجال السلطة في هذه الأيام في أي بلد كان، لقامت الدنيا على المطالب بحقه، ولعوقب على تعديه على رجل السلطة، ولربما اختلقت لـه الاتهامات، فضاع حقه، واعتدي عليه من الزبانية المتسلطين، دون أن يجد من ينقذه من براثنهم؛ فضلا عن ان يرد إليه حقه.

على ان اليهودي عندما رأى ذلك تحركت إنسانيته لهذه الإنسانية، وذهل لهذا العدل وهذه المساواة، فشهد الا اله إلا الله وان محمدا رسول الله.

وفتح الله على المسلمين مكة المكرمة، وكان أهلها من قريش قد آذوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأصحابه إيذاء شديدا. أخرجوهم من بيوتهم وممتلكاتهم واستولوا عليها، ولاحقوهم في مهجرهم بالمدينة المنورة، وحاولوا في أكثر من معركة ان يستأصلوهم ويقضوا عليهم. فكان من الطبيعي ان ينتظروا العقاب المناسب حين أمكن الله رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأصحابه منهم أجمعين، وأدخلهم أم القرى فاتحين ومنتصرين.

وجرى زعماء قريش من المشركين إلى ساحات البيت العتيق، وهم يرتجفون في انتظار ما سينزل بهم من العقاب. وطاف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالكعبة الشريفة وهو يتلو قول رب العالمين: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(الإسراء81) ومن حوله أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وبعد ان أنهى طوافه،

 

 

ـ(423)ـ

وحطم ما حول الكعبة من الأصنام، التفت إلى زعماء قريش وقال: «يا معشر قريش؛ ما ترون إني فاعل بكم ؟! قالوا: خيرا، أخ كريم وابن اخ كريم. قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لاخوته: لا تثريب عليكم اليوم، أذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه ابن اسحق وابن هشام في السيرة النبوية).

أية إنسانية هذه ؟ ! وأي تسامح هذا من سيد المرسلين وخاتم الأنبياء ؟! ومع من ؟! مع ألد الأعداء، الذين وقفوا في وجهه وناصبوه العداء. فهل في مذاهب الناس ـ غير هذا الدين ـ، مثل ما فعل مع قريش سيد المرسلين ؟ ! ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسرت هذه الإنسانية في نفوس أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وآل بيته رضوان الله عليهم، سريان الماء السلسبيل في الجداول الطيبة. لقد شربوها مع مباديء الإسلام، كما تشرب الأشجار الطيبة مياه الغمام، فكانوا مثلا رائعا في تطبيقها، على بني قومهم أو اتباع دينهم وعلى غيرهم من الناس.

لقي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يهوديا عجوزا يتسول في حواري المدينة، فسأله عما ألجأه إلى ذلك فقال: الحاجة يا أمير المؤمنين. فقال عمر قولته التي تنبع من إنسانية الإسلام ورحمته بكل العالمين، سواء أكانوا من اتباعه أم كانوا من المخالفين: «ما أنصفناك ! أخذنا منك الجزية شابا، وتركناك شيخاً. ثم أمر لـه بما يكفيه من بيت مال المسلمين.

وإذا كان الإسلام عادلا هذا العدل ومتسامحا هذا التسامح مع اليهود، فقد كان أشد عدلا وأكثر تسامحا مع النصارى. وقصة عمر بن الخطاب مع الفتى القبطي من مصر، قصة يتغنى بها التاريخ. فقد تسابق ذلك الفتى القبطي مع ابن عمرو بن العاص ـ والي مصر في ذلك الزمان - ولما سبق الفتى القبطي، اعتدى

 

 

ـ(424)ـ

عليه ابن الوالي بالضرب وهو يقول: كيف تسبق ابن الاكرمين ؟! وصمم القبطي على اخذ حقه، فسافر إلى دار الخلافة في المدينة المنورة، ورفع شكواه إلى أمير المؤمنين.

وأرسل الخليفة في طلب والي مصر مع ابنه المقصود، وفي مجلس الخليفة ناول عمر درته إلى الفتى القبطي وقال لـه: اضرب ابن الاكرمين. فلما أخذ بحقه قال لـه عمر: أدرها على صلعة عمرو. قال الفتى القبطي بأدب: ضرب من ضربني يا أمير المؤمنين. فتناول ابن الخطاب منه الدرة، وضرب بها عمرو بن العاص ـ والي مصر ـ على رأسه وهو يقول ما سطره التاريخ بأحرف من نور: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!».

فهل في الأرض عدل كهذا العدل، وهل في مذاهب الناس إنسانية كهذه الإنسانية ؟! وإلي مصر يضرب لأن أبنه ضرب فتى من عامة الناس، ونصراني المذهب، وليس من القوم الحاكمين ! انها إنسانية الإسلام وعدل الإسلام اللذان يتفقدهما الناس في هذه الأيام.

أما قصة الأعرابي مع جبلة بن الابهم، فشاهد آخر على إنسانية الإسلام. فقد كان جبلة بن الأهم هذا أحد كبار زعماء القبائل العربية، وكان ذا عظمة وذا ثراء.

وكان يجر ثوبه من باب التعاظم والكبرياء. وبينما كان يطوف بالكعبة المشرفة، داس أعرابي على ثوبه بغير قصد. فلطمه جبلة على وجهه. فرفع الأعرابي أمره إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فقضى عمر للأعرابي بأن يلطم جبلة كما لطمه سواء بسواء. فاستشاط ابن الأيهم غضبا وقال: ولكنني من الزعماء وهو من السوقة. قال عمر: الإسلام سوى بينكما. قال جبلة: فأمهلني إلى الغداة، فأمهله. وفي عتمة الليل فر من المدينة في خمسمائة من أصحابه، ولحق بالروم. فيالهذا

 

 

ـ(425)ـ

الإسلام العجيب، يرتد عنه زعيم كبير ومعه خمسمائة من الرجال، فلا يأبه بهم في سبيل ان يقيم العدل ويحقق المساواة.

وربما انصرفت الأذهان إلى أن حب العدل والمساواة والتسامح، مقصور على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والحقيقة مغايرة لذلك. فهذه سمات إسلامية عامة، وإنّما برز كثير منها في عهد عمر لطول مدة خلافته. بيد انها سجايا رموز الإسلام على مر الأزمان.

ها هو ذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، يخطب المسلمين وهو خليفة فيقول: «ما أمرتكم به من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وما كرهتم وما أمرتكم به من معصية الله فلا طاعة لأحد في معصية. الطاعة في المعروف» (الإمام المودودي الحكومة الإسلامية ـ ص 386).

أرأيت هذا التواضع الذي كان الإمام مثلا فيه ! وهل نسينا ما كان منه مع أحد قضاته حين رفض الإمام ان يعامله القاضي بغير ما يعامل خصمه، وكان من أهل الذمة (انظر ص 6 من هذا البحث) أليس ذلك شاهدا على إنسانية الإسلام التي يمثلها الإمام!

وتقوم في عهده ـ رضي الله عنه ـ فتن كقطع الليل المظلم، وتضج الأرض من بذاءات الخوارج عليه، ومن إساءاتهم إليه، فلا يخرجه ذلك عن عدل الإسلام الذي استيقنته نفسه الكريمة، ولا يبعده عن إنسانيته العظيمة. «وحدث ان قبض على خمسة منهم، وهم يسبونه ويتوعدونه، ومع ذلك أطلق سراحهم» الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 408).

 

ان الشواهد على إنسانية الإسلام، لا تتسع لها المجلدات الضخمة. وان ما سبق من أمثلة عليها ما هو إلا قطرات من لجج متلاطمة.

 

 

ـ(426)ـ

هذه الإنسانية هي المصدر الأساسي لقوة هذا الدين، وتميزه عن غيره من المذاهب والأديان. وهي ليست مقصورة على جانب دون آخر من جوانب الحياة، وإنما تتناولها جميعاً، لأنها تتمثل في الحق الذي أراد الله ان يخرج الناس به من الظلمات إلى النور» فهي تتمثل في الإيمان بالله إيمانا يحرر الضمير والوجدان. وفي الاستعصام بالحق استعصاما يزهق أمامه الباطل ويندحر. وفي معرفة الضعف النفسي والتطهر منه، حتى تأخذ النفس طريقها إلى العزة والسمو الروحي. وفي العلم المقوم لشخصية الإنسان، والكاشف لـه عن حقائق الوجود المادي، وما وراء هذا الوجود من عالم ما وراء الطبيعة. وفي الثروة وتعمير الأرض واستثمار قوى الكون، والانتفاع بما في الطبيعة من بركات الله وخيراته، وتوزيعها على أفراد الأسرة الإنسانية بالكفاية والعدل. وفي إقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة والمساواة، والتشريع السمح والعمل الجاد، والمعاشرة الحسنة والحكم الصالح، الذي تكون فيه السيادة للأمة. وفي السلام العام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه. وفي احترام العهود والحفاظ على المواثيق. وفي التضحية النبيلة، والاستشهاد في سبيل الحق، ومن أجل الحياة الحرة الكريمة » (السيد سابق ـ عناصر القوة في الإسلام ـ ص 3 ـ 4).

ألا فليت الذين بعماهم طيشهم عن هذا الإسلام العظيم، واجتالتهم شياطينهم عن منهجه القويم وطريقه المستقيم، فلوثوا الآدمية، ودنسوا الإنسانية، ولجوا في الحياة البهيمية، فلا عدل ولا مساواة، ولا استقامة في أي اتجاه، ولا معرفة لمنهج الله، فقامت الصراعات والحروب، وتوالت الويلات والخطوب، واظلمت المسالك، والدروب، لم يعد أحد يأمن على عرضه أو أرضه، أو ماله أو عياله، أو خيراته أو مقدساته، وتحولت الأرض إلى غابة للأقوياء، وسحقت فيها

 

 

ـ(427)ـ

إنسانية الضعفاء، واستشرى الظلم في انحائها صباح مساء، وتحقق فيها قول العليم الخبير ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم 41).

ليت هؤلاء يلوذون بحمى الإسلام كما لا ذبه العقلاء والمخلصون، فيسعدوا كما سعد الأولون، ويحظوا بالأمن الذي ينشدون، ويتحقق فيهم قول رب العالمين:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(النور 55).

 

12 ـ خاتمة المطاف:

◙ يتميز الإسلام بخصائص إنسانية فريدة، تجعله إلا صلح ليكون دين الناس كافة. ومن هذه الخصائص إقرار الإنسانية لجميع الناس، وتوخي الرحمة بهم في مختلف مجالات الحياة قال رب العالمين ـ جل شأنه: ﴿وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران 30) وقال سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وآلـه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء 107).

◙ المساواة بين الناس في الإسلام، دين من الدين، وهي من خصائصه الإنسانية التي يتمتع بها جميع الناس في ظلاله، وذلك انطلاقا من قول رب العالمين ـ جل شأنه ـ: ﴿النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات 13). ومن ذلك أيضاً قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو يخطب الناس يوم

 

 

ـ(428)ـ

فتح مكة ـ: «أيها الناس؛ كلكم من آدم، وآدم من تراب. لا فخر للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، ان أكرمكم عند الله اتقاكم» (الإمام المودودي ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 280).

◙ ان المساواة بين الناس في الإسلام - كما حددها منهجه وكما طبقها رجاله - أذهلت الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

◙ إقرار كرامة مميزة للإنسان، وتفضيله على بقية المخلوقات، من مظاهر إنسانية الإسلام. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء70). والإنسانية - في هذه الآية - ظاهرة ظهور الشمس في وضح النهار، فالتكريم الرباني شامل للعنصر الآدمي كله، عربه وعجمه، أبيضه وأسود، بل حتى مؤمنه وكافره.

◙ ومن إنسانية الإسلام رفض الظلم الذي قد يقع من بعض الناس على بعضهم الآخر، حتى لا تهدر للناس كرامتهم، أو تهان إنسانيتهم. جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» (متفق عليه). وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة». (رواه مسلم).

◙ استضعاف الناس والتعالي والاستقواء عليهم، لون من الظلم الشديد، لأنه يقطع أوصال المجتمع، ويجعل من أهله شيعا وأحزابا، يبغي بعضهم على بعض، ويتجرع بعضهم بأس بعض. وفي مقدمة الظلمة التاريخيين فرعون الذي استمرأ الظلم، وهامان الذي أيده فيه، وتعاون معه عليه. قد جعلهما الله في عداد المجرمين بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾(القصص 8).

 

 

ـ(429)ـ

◙ امن الناس في الإسلام من غاياته الأساسية، حتى لا يفزعوا من ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين. والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء شره.

◙ ومن مظاهر إنسانية الإسلام ورفضه الظلم، ان الله قد شرع الثورة على الظالمين، وأوشك أن ينزل عقابه الأليم على المتخاذلين والمتقاعسين ـ كما قر ذلك رسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ بقوله: «ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه» (رواه الترمذي).

◙ إصلاح المجتمع الإنساني، ووقايته من الفساد الحكومي والإداري والمالي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي، من أهم مقاصد التشريع الإسلامي وذلك تنفيذا لأمر الله ـ جل شأنه، الذي تكرر في كتابه الكريم: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (البقرة 60 والأعراف 74 وهود 85 وغيرها).

◙ كبح جماح الظالمين، ورفع الظلم عن المظلومين، وشكم المتكبرين والمتغطرسين والمتعالين، مما يحرص الإسلام عليه، ويجعله نصب عينيه.

◙ الرشوه والغش والتزييف والربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والتجارة فيما يضرهم، وكذلك الفساد الخلقي، و التبذل والانحلال، ومعاقرة المسكرات والمخدرات، واقتناص المحرمات من الشهوات، كل هذه المباذل مرفوضة في المنهج الإسلامي، لأنها ألوان من الفساد الذي يعلن الإسلام الحرب عليه بقول رب العالمين: ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص 77).

◙ تشريعات الإسلام ربانية المصدر، إنسانية الفائدة. وهي تستقى من قناتين أساسيتين، وثلاث قنوات تنبع منهما، اما القناتان الأساسيتان؛ فهما كتاب الله رب العالمين، وسنة نبيه الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ وفي الأولى يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا

 

ـ(430)ـ

الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء 9). وفي الثانية يقول جل شأنه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(الحشر 7). واما القنوات الثلاثة الأخرى فهي القياس والإجماع والاجتهاد.

◘ من مظاهر الإنسانية في التشريعات الإسلامية، تكريسها للأخلاق الرفيعة، كالصدق والصبر والبر والأمانة والوفاء، وأدب الحديث وكف الأذى وحسن الخلق والتسامح والحياء. ورفضها للأخلاق الوضيعة، كالكذب والفجور والخيانة والغدر، والبذاءة والأذى وسوء الخلق والأنانية والتعهر وغيرها.

◘ تناثرت الآيات التي تتحدث عن الأخلاق في كتاب الله، تناثر الورود في الخميلة الغنّاء، كما تكاثر أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في الموضوع ذاته، تكاثر النجوم في كبد السماء فمن الآيات قول رب العالمين: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾(النساء 114).ومن الحديث الشريف: «اد الأمانة إلى ائتمنك، ولا تحن من خانك» (رواه الترمذي وأبو داود).

◘ ان العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دراهم أو دنانير، ولكنهم ورثوا دعوات لهداية العباد، وتنظيف مجتمعاتهم من الظلم والانحراف والفساد.

وقد انتشر اليوم بين الناس ظلم متنوع الأشكال، فظلم الناس لأنفسهم كما اثبت رب العالمين بقوله: ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(يونس 44). كما انتشر ظلم الناس لبعضهم البعض، وهذا الظلم شائع ووخيم العواقب على المجتمع.

◘ واجب علماء المسلمين بل وجميع المسلمين، ان يهبوا لإصلاح المجتمع، ورفع الظلم عن المظلومين، قبل ان يجتاح الطوفان جميع العالمين. قال الإمام الخميني ـ رحمه الله ـ: «فواجب العلماء وجميع المسلمين ان يضعوا حدا

 

 

ـ(431)ـ

 

لهذا الظلم، وأن يسعوا من أجل سعادة الملايين من الناس» (الحكومة الإسلامية ـ ص 37). ولذلك فإن مسؤولية علماء المسلمين اليوم؛ هي مواصلة رسالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية العالمية، وذلك بإرساء الفضائل وإشاعتها، ونبذ الرذائل ومحاربتها.

◘ كما ان من واجب علماء المسلمين، ان يبلغوا دعوة الإسلام إلى الناس أجمعين، ليسعد بها المؤمنون، ويستظل بظلها الخلق أجمعون. وقد أمر الله ـ تبارك اسمه ـ نبيه الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾(المائدة67) وعلماء المسلمين هم ورثة نبيهم وذلك فإن واجبهم ان يبلغوا دعوته، ويواصلوا رسالته.

◘ ان علماء المسلمين اليوم؛ هم الأمة التي عناها الله جل شأنه بقوله: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران104). فيجب على علماء المسلمين ان يقتدوا برسولهم الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ، في الدعوة إلى الله والصدع بأمره مهما تكن المعوقات، كما ان عليهم ان يتحملوا النتائج مهما تكن التحديات. فهم ورثة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي قال الله لـه: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾(الحجر 94).

◘ ان تقاعس علماء المسلمين اليوم عن تحمل مسؤولياتهم، هو الذي جرأ الظلمة في المجتمعات المختلفة على العبث بحريات الناس، والاعتداء على أرواحهم وممتلكاتهم. فأين هم العلماء المخلصون:﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾(الأحزاب 39).

◘ وقد نعى الله على الأحبار والرهبان من علماء بني إسرائيل، الذين تقاعسوا عن الدعوة إلى الله، وهم يرون الكثيرين من قومهم، يقترفون الآثام

 

 

ـ(432)ـ

  ويسارعون إلى الحرام. وفي ذلك يقول رب العالمين: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾(المائدة 63).

◘ يجب أن يتعظ المسلمون ـ والعلماء منهم على وجه الخصوص ـ بما فعل الله بالذين كفروا من بني إسرائيل الذين لم يكن أحد منهم ينهى أحدا عما يقترف من المحرمات، أو يجترح من الآثام والسيئات. ولذا فقد صب الله عليهم غضبه، والحق بهم لعنته. قال تبارك اسمه:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ_ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾(المائدة 78 ـ 79)

◘ ان المنهج الإسلامي المتمثل في كتاب الله جل شأنه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ، يجب ان يجد طريقه إلى الناس أجمعين، فإنه رحمة الله بهم، وموعظته إليهم، وهداه الذي تفضل به عليهم. وان مسؤولية ذلك تقع على عواتق علماء المسلمين، فهم ورثة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وهم العارفون بكتاب الله. وقد انتدبهم الله لحمل رسالته. فإذا التزموا بذلك فازوا بخير الجزاء واجزل العطاء، وإذا نكصوا أوشك الله ان يجازيهم بما جازى به أحبار بني إسرائيل، الذين عاب الله ذلك عليهم، لأنهم ـ كما قال الإمام أبو عبدالله الحسين ـ رضي الله عنه: «كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون» (الإمام الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 104).

◘  لقد حرص الإسلام على تبليغ منهجه الرباني للناس جميعاً. وفي ذلك ما فيه من اللمسات الإنسانية الحانية ففيه العدل الذي لا يستقيم أمر الناس إلا به، وفيه الحرية والمساواة اللتان لا يستغني الناس عنهما. وباختصار: فيه رحمة الله

 

 

ـ(433)ـ

بعباده أجمعين، مصداقاً لقوله ـ جل شأنه ـ لرسوله الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾(الأنبياء 107).

◘ المناهج الأخرى تميز أتباعها عن بقية الناس، كما تفعل الصليبية والشيوعية والصهيونية، التي تجعل الأمريكان والإنجليز وبقية الغربيين، أو الصهاينة والشيوعيين وغيرهم من الملحدين، تجعل منهم أناسا متميزين عن المسلمين وغيرهم من الأفارقة والآسيويين فدم هؤلاء مهدور، ودم أولئك محروس ومخفور، وذنوب هؤلاء تستحق شديد العقاب، وجرائم أولئك ليس عليها أي حساب.

◘ أما المنهج الإسلامي فهو منهج إنساني، يحفظ لجميع الناس حقوقهم، ويقف حربا على الذين يظلمون العباد، أو يعيثون في الأرض الفساد فالمساواة بين الناس ـ مثلا ـ هي إقرار بإنسانيتهم، وحفظ لكرامتهم، وتكريم لآدميتهم، ولذلك جعلها الإسلام فرضا من فروضه، وقاعدة من قواعده ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل90).

◘ وكما يحرص الإسلام على حقوق الأفراد والجماعات، فهو يحرص على حقوق الأمم والشعوب، ويجعل من اتباعه أناساً متسامحين مع البشر أجمعين، كما يجعل من منهجه رحمة للعالمين. وفي هذا مظهر مضيء لإنسانية الإسلام ورحمته، وتعبير واضح عن شموليته وعالميته. فهو القانون الذي تصغر أمامه بقية القوانين، وهو المنهج الذي تتضاءل عنده مناهج الآخرين.

◘ ومن أرقى سمات الإسلام الإنسانية وصفاته العالمية؛ إكرامه للرسل والأنبياء السابقين، واعترافه بالكتب والأديان التي أنزلها الله للناس الأقدمين. بل

 

 

ـ(434)ـ

واشتراطه على اتباعه ـ حتى يقبل منهم الإيمان، ان يؤمنوا بتلك الكتب وأولئك الرسل، الذين جاءوا للناس في قديم الزمان. قال رب العالمين في صفة المؤمنين الصادقين: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾(البقرة 4).

◘ ثم ان الإيمان بالرسل السابقين والكتب التي نزلت عليهم من رب العالمين، ليس متروكا الاختيار المؤمنين، ولكنه فرض عليهم أجمعين. وفي ذلك يقول لهم رب العالمين: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة 136).

◘ ولا يكتفي الإسلام بدعوة اتباعه إلى الإيمان بالرسل السابقين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - بل انه يأمرهم ويغرس في نفوسهم ألاّ يفرقوا بينهم، إشاعة لإنسانية الإسلام، وتكريسا لشموليته، وتقريراً لعالميته: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(البقرة 285).

◘ وكيف يقبل الإسلام التفريق بين الرسل ومصدر رسالاتهم واحد، هو الوحي الإلهي الكريم ؟! ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾(النساء 163).

◘ ان الإسلام دين إنساني عالمي، يحب الخير للناس أجمعين، ويأمر نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ وجميع المسلمين، بأن يسالموا الذين يسالمونهم: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(الأنفال 61).

 

 

ـ(435)ـ

◘ وليس المقصود بذلك هذا السلام الأعرج، الذي يدعو إليه الصهاينة والأمريكان اليوم، فهم يحتلون ارض المسلمين ويستترفون خيراتهم، ويتآمرون عليهم في فلسطين وفي غير فلسطين، ثم يدعون العرب والمسلمين إلى السلام.

وهي دعوة مرفوضة حتى يرحلوا عن أرضنا، ويكفوا عدوانهم عن أهلنا.

◘ ان الإسلام يرفض عدوان المعتدين، كما يرفض الاعتداء على الآخرين، فهو رمز التسامح الديني، ورمز حب التعايش الاجتماعي، ورمز الإنسانية التي تحب الخير للناس أجمعين، وتعترف بحقوق الآخرين، حتى ولو كانوا مخالفين.

◘ وقد عج التاريخ بالشواهد الحية على إنسانية الإسلام، التي مثلها رموزه الكرام في تعاملهم مع الناس أجمعين. فها هو ذا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ينصف اليهودي من نفسه، رغم انه أساء إليه وهو يطلبه بدين عليه.

◘ وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يجعل لليهودي العجوز نصيبا من بيت مال المسلمين، حيث وجده بلا معيل. كما ينصف الفتى القبطي من ابن أحد ولاته الكبار، ويطلق قولته التي أضاءت جنبات التاريخ: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار ؟ !»

◘ وها هو ذا أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ يساوي نفسه أمام القضاء بخصمه اليهودي، مما سطره تاريخ القضاء بأحرف من نور، لرموز الإسلام الذين يمثلهم الامام، وها هو ذا ـ رضي الله عنه ـ كذلك، يظفر بعدد من الخوارج الثائرين عليه المسيئين إليه، فتتحرك جوانب الإنسانية الإسلامية في نفسه الزكية، فيطلق سراحهم ويحسن إليهم، تطبيقا عمليا رائعا لقول الرحمن الرحيم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 134).

◘ ألا فليت الذين أعماهم طيشهم عن هذا الإسلام العظيم، واجتالتهم

 

 

ـ(436)ـ

شياطينهم عن منهجه القويم، فلوثوا الآدمية، ودنسوا الإنسانية، ولجوا في الحياة البهيمية، فلا عدل ولا مساواة، حتى قامت الصراعات والحروب، وتوالت الويلات والخطوب، وأظلمت المسالك والدروب، ولم يعد أحد يأمن على عرضه أو أرضه، أو ماله أو عياله، أو خيراته أو مقدساته. وتحولت الأرض إلى غابة للأقوياء، وسحقت فيها إنسانية الضعفاء، واستشرى الظلم في انحائها صباح مساء، وتحقق فيها قول العليم الخبير: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾(الروم41).

◘ ليت هؤلاء يلوذون بحمى الإسلام، كما لاذ به العقلاء والمخلصون، فيسعدوا كما سعد الأولون، ويحظوا بالأمن الذي ينشدون، ويتحقق فيهم قول رب العالمين: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور 55).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

 

 

ـ(437)ـ

مراجع البحث:

1 ـ القرآن الكريم.

2 ـ الحديث الشريف.

3 ـ إرشاد العقل السليم، إلى مزايا القرآن الكريم. المعروف بتفسير أبي السعود (المتوفى سنة 951 هـ).

4 ـ تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير (المتوفى سنة 774 هـ).

5 ـ الحكومة الإسلامية ـ الإمام آية الله الخميني ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ أبريل: نيسان 1979م.

6 ـ الحكومة الإسلامية ـ الامام أبو الأعلى المودودي ـ ترجمة احمد إدريس ـ الدار السعودية للنشر والتوزيع 1404 هـ: 1984م.

7 ـ زبدة التفاسير ـ الشيخ محمد الأشقر.

8 ـ السيرة النبوية ـ لابن هشام (المتوفى سنة 218 هـ)

9 ـ سير أعلام النبلاء ـ للذهبي (المتوفى سنة 748 هـ) الطبعة الرابعة مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1406 هـ 1986م .

10 ـ عناصر القوة في الإسلام ـ السيد سابق ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1403 هـ / 1983 م.

11 ـ فقه السيرة ـ محمد الغزالي ـ دار القلم ـ دمشق، والدار الشامية ـ بيروت الطبعة السادسة 1416 هـ 1995م.