الابتلاء باتجاهات الجمود والتخلف الفكري والجهل والتعصّب

الابتلاء باتجاهات الجمود والتخلف الفكري والجهل والتعصّب

 

 

الابتلاء باتجاهات الجمود والتخلف الفكري والجهل والتعصّب

 

أ.د. مصطفى أحمد سيسي

الأمين العام لاتحاد الجمعيات الإسلامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله خالق البشرية، فجعلهم سواسية في الحقوق والواجبات مهما اختلفت جنسياتهم وألوانهم والصلاة والسلام على خير البشر سيدنا ونبينا محمّد وآله، وصحبه أجمعين.

أما بعد،

ففي البداية يسرّني أن أقدّم جزيل الشكر والتقدير إلى سماحة الشيخ محمد علي التسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية على الدعوة الكريمة، التي وجّهها إليّ للمشاركة في أعمال المؤتمر الدولي الثاني والعشرين للوحدة الإسلامية.

كما أتقدّم بأخلص آيات التقدير والعرفان إلى الجمهورية الإسلامية قائدا ورئيسا وحكومة وشعبا، على ما تقوم به من الجهود المتضافرة والمباركة من أجل رفع راية الإسلام خفاقة في كلّ مكان، ومناصرة القضايا الإسلامية أمام المؤامرات المتعدّدة التي تحاك ضدّ هذا الدين الحنيف.

إن الوحدة الإسلامية أصبحت ضرورة ملحّة أكثر من ذي قبل، أمام تحديّات العالم المعاصر، والمحاولات اليائسة التي تقوم بها بعض العناصر المعادية للتشويه بالدين الإسلامي الحنيف.

ولا شكّ أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما زالت منذ بداية ثورة 1979م تسعى بكل شجاعة وحكمة ودراية إلى حماية الإسلام والمسلمين في كل مكان.

أيها الإخوة إن للعلماء والمثقفين والكتّاب في العالم الإسلامي دورا هاما في تذويب الخلافات المذهبية كي لا تؤثّر في وحدة المبادئ والأهداف المشتركة. فمنذ أحداث سبتمبر 2001م في نيويورك اتّخذ البعض تلك الأحداث ذرائع لاتّهام الإسلام بعدم التسامح واستعمال العنف كأداة للسيطرة على الآخرين، وحاولوا إضعاف المسلمين عن طريق المذاهب المختلفة بضرب بعضها على البعض، ومحاولة تقسيم الأمة الإسلامية إلى سلفيين وأصوليين ومتطرّفين ومعتدلين وجهاديين ... الخ.

ومن هنا نشيد بإقامة المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي يسعى دائما ليكون المسلمون يدا واحدة فقلباً واحدا، كما أمر به الحقّ سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا).

لذا نعتبر هذا المجمع كصخرة صلبة تتكسّر في جنباتها أطماع العناصر التي تحاول من خلال الغزو الفكري إضعاف المسلمين ثقافيا وحضريا وعلميا وإقتصاديا بترويح عقائد وفلسفات إلحادية... وخاصة في أوساط الشباب المسلم.

إن اختلاف الأمة في المنهج والوسائل لا ينبغي أن يؤثّر في وحدة المسلمين، ولا ينبغي أن يؤدّي إلى شقاق وعدم تفاهم، فتنتج عن ذلك عواقب وخيمة وتجعلنا أذلاء في العالم بعد أن كنا أعزاء وسادة في القرون الماضية.

وينبغي أن نتأمّل في أمرين اثنين لكي نعتصم بحبل واحد في وحدة متينة :

1.وحدة المبادئ: إذا كان إلهنا واحد، وكتابنا واحدا، ورسولنا واحدا، وقبلتنا واحدة، ولغة واحدة، فلماذا لا نوجّه أبصارنا نصب هذه المبادئ السامية، بدلا من أن نرتكز على فهمنا الخاص ووسائلنا.

2.وحدة الأهداف: لا شكّ في أن جميع الجماعات والحركات الإسلامية تتجه نحو مستهدفات موحدة: نشر دين الله الحنيف في أرجاء المعمورة، وإستعادة مجدنا في العالم، وتبرئة ديننا من كلّ طعن يدنّس كرامتنا وسمعتنا...

لكن كل جماعة تريد أن تحقّق هذه الأهداف بمفردها، لتنفرد بشرف أعمالها، غير أن الأعمال الفردية قاصرة وعاجزة... والعالم يسعى الآن إلى تجمّعات واتحادات ولكن الأمة الإسلامية تسعى إلى تصنيف أتباعها وتفريق أبنائها ... فمتى نتّحد لكي نكون سادة وقادة العالم كما كنّا قرونا من الزمن.

أولا- الأمة الإسلامية بين الجمود والوعي.

أ- أنواع الجمود ومظاهره :

تمرّ الأمة الإسلامية برواسب من الجمود الفكري، تتمثل مظاهره في سدّ باب الاجتهاد أمام علماء الفكر الإسلامي المعاصر، وأصبحت تبعية السلف الصالح بمعنى التقليد الأعمى لفتاواهم، حتى الأمر إلى تخلّف الفقه الإسلامي عن مواكبة المستجدات في المعاملات المالية في البنوك المعاصرة والاكتشافات الطبية والتكنولوجية.

إن تراث الأسلاف الذي ينبغي أن يوظّف في خدمة المستجدات المعاصرة، أصبح الوقوف عنده هو غاية دراسة الفقهاء المعاصرين، وهضمه هو غاية العلماء، فلا يتجرأ أحد مجاوزته في الاستنباط الشرعي، فوقفنا عليها بالشرح والاختصار والنظم والتحقيق دون أن نبني عليه ... هكذا صار القديم مقدّسا.. فأصبحنا نعتقد من غير وعي أن فتاوى الأسلاف غاية منشودة، فجمدت عقولنا عن الاستنباط وجمدت عقولنا بالتقليد المقدس، لأن كلّ مسلم ظلّ يبجّل آراء مذهبه، ولا يقدر سوى علماء مذهبه، ولا يقبل أي انتقاد لفتاوى مشائخ مذهبه...الخ.

وجاء الآخرون باسم الصحوة الجديدة فراحوا ينبذون كل قديم، ويرمون تراث الأسلاف في سلة التخلّف والرجعية، وهذا مظهر جديد للجمود الفكري الذي يشتّت ويبدّد شمل الأمة بإسم الصحوة، ودعوا إلى فقه إسلامي جديد !! فكيف يتصوّر التطوّر في بناء فقه جديد من غير سند تراثي ؟!

وأخطر من ذلك أن نفكّر في استبدال أفكار مستوردة بتراثنا الفكري الإسلامي، وأن ندّعي باسم الحداثة أنّ هناك " إسلاما حديثا " بخلاف الإسلام التقليدي لدى الأسلاف، وأن المسلم المعاصر هو الذي يتكيف بدينه مع المستجدات الحديثة، بمعنى آخر: أن الحداثة هي التي تؤثر في إسلام المرء، لا أن يغيّر إسلامه حياته المعاصرة... وبهذا يقلب رسالة الإسلام رأساً على عقب، لأن القرآن الكريم بشريعته السمحة الربانية جاء لتغيير حياة البشر في ظروف حياته الدنيوية.

فكيف يمكن التقريب بين هذين الاتّجاهين، كأنهما يسيران على خطين متوازيين، لا يكاد يستمع أحدهما إلى الآخر، فظلّ الفريق الأول يرمي الآخر بالإلحاد والعلمانية!... وما زال الفريق الثاني يرمي الآخر بالجمود الفكري والتقليد الأعمى!... وبين الفريقين درجات متفاوتة من الجمود التقليدي والتساهل العلماني يتخبط فيها أتباع المذاهب والفرق الإسلامية من غير صحوة ووعي ... فأنّى السبيل إلى وحدة هذه الأطراف المتناحرة ؟!!

ب - دور الوعي في وحدة الأمة :

إذا كانت الأمة قد ابتليت بالجمود الفكري، فتمزّقت صفوفها بسبب الانغلاق الفكري الذي نتج من الجمود، كما نتج منه التعصب والاستبداد الفكري، فإن الوعي الذي يدعو إلى الانفتاح والصحوة والتسامح يعدّ الآن أفضل دواء لهذا الداء العضال الذي تعاني منها الأمة.

الوعي الفكري يلعب دورا كبيرا في انفتاح الجماعات بعضها على بعض، إذ ينبغي أن يلمّ كلّ مذهب بمبادئ نظرائها وأهدافها كي يتبادل معها الخبرات ويتعاون في سد النواقص، ولكي يكون العمل الإسلامي متنوّعا ومتباينا بين جميع المؤسسات الإسلامية.

فإذا الحوار الديني مطلوب بين المسلمين وغيرهم من الأديان السماوية، فإن الحوار والتقارب أصبح ضروريا بين جماعات المسلمين وحركاتهم الفكرية، لأن الهوة تتّسع بين أبناء الأمة أكثر ممّا تتّسع بين الأمة الإسلامية وغيرها من أصحاب الملل الأخرى.

وكيف يمكن أن يتحقّق الحوار بين الجماعات الإسلامية من غير وعي وإلمام بقضايا بعضنا من بعض، ولا شكّ أن الصحوة ستكون أهم ثمرات هذا الحوار الذي يرتكز على الوعي الفكري والانفتاح على جميع المذاهب الفكرية، الإسلامية منها والأوربية، لأن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهي أولى بها([1]).

لأن العالم أصبح اليوم (قرية صغيرة) فلا بدّ أن يكون " الفكر الإسلامي " أرحب صدرا بقبول جميع ما يرد إليه من أفكار، ليغربلها ويفحصها ويهذبها... وهذا يجعل الجمود الفكري منحطّا بين أبناء الأمة.

وكيف يمكن أن يؤدي الوعي إلى التسامح، ثم منه إلى الوحدة ؟!

إن أمراض الانشقاق والتنافر بين مذاهب الأمة التي يرسّخها الجمود، فإن الوعي يعد أحد أدوائها الفكرية، لأن التسامح نتيجة وثمرة للوعي، ودور التسامح في الوحدة ليتمثّل في تقارب وجهات النظر وغضّ البصر عن المسائل الدينية التي تجمع عليها مبادئ مذاهب الأمة.

ثانيا- الأمة الإسلامية بين التخلف الفكري والتجديد.

أ- آثار التخلف في تفرق المسلمين :

لم يعد هناك خلاف بين جماعات الأمة أنّنا نعيش أسوأ عصورنا التاريخية تخلّفا، وقد غلبت آثار هذا التخلف جميع مجالات حياتنا ... الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية... ولا يسعنا الوقت أن أتناول بيان مظاهر التخلف في جميع هذه المجالات، ولكن التخلف الفكري أصبح غالبا على عقلية الجماعات الإسلامية.

والذي يزيد الطين بلّة أن أنواع هذا التخلف الفكري تتباين من جماعة لأخرى ... بمعنى أن تخلف الفكر الصوفي ينقص البعض ويغلب على البعض الآخر، والتخلف الفلسفي أرسخ في بعضها من بعض، والفكر الاقتصادي تفتقر إليها كثير من الجماعات الإسلامية...هكذا دواليك...، بل يتباين أتباع بعض الجماعات في أنواع هذا التخلف، وفي الحين كلّ يدّعى أنها تنتمي إلى الفكر الإسلامي، الذي افترقت عليه الأمة بين قادة الفكر التقليدي والتجديدي، وبين قادة النقل وقادة العقل، وبين قادة العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية...الخ.

من هنا تأتي الحيرة التي أخذت قلوبنا... والتي تعمينا عن رؤية منهج صحيح للعلاج، إذ لا نعرف من أين نبدأ ؟

غير أن هذه الحيرة التي أصابت الأمة...لم توقظ همم القادة والمفكّرين ليحرصوا على وحدة الصفوف، بل وسّعت هوّة الخلاف والتنافر بينهم، والشعوب ضحايا هذا الخلاف الفكري والجدل الديني بين علماء الأمة، الذين ما زال بعضهم يوسّعون هوّة الفرقة بين أبناء الأمة كلّما جاءت فتاواهم في إبراز مواقف مذهبية، تدلّ على تخلّف فكري أكثر مما يدل على وعي سليم يستهدف تقارب وجهات المذاهب الفكرية بين قادة الأمة.

ب - الأمة والفكر التجديدي :

هنا سؤال يطرح نفسه: هل الفكر الإسلامي بحاجة إلى تجديد ؟!

إذا اتفقنا على هناك تخلفا فكريا تعاني منها الأمة !! إذن فلا بدّ من إعادة الفكر الإسلامي، لا لبنائه من جديد لأن لدينا ثوابت فكرية من الكتاب والسنة ما يمكن أن نبني عليها الفكر التجديدي.

أصبحت الأمة تجاه مسألة الفكر التجديدي بين تيارين :

تيّار يرى أن جميع الأفكار المستوردة شرّ على الأمة !! فاتُّهِمَ بالرجعية والتخلف.

وتيّار آخر يستورد جميع الأفكار من الخارج من غير غربلة قبل قبولها وإبلاغها للمجتمع، وهذا يذكّرنا بكتاب " تحرير المرأة " لمّا نشره قاسم أمين في مصر!!

ولكنّ لنا في رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)  أسوة حسنة، إذ أخذ وقبل أفكارا من الصحابة في جنسيات مختلفة: من صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال بن رباح... الخ وفي الشعائر التعبّدية: أدخل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) صوم عاشوراء من الديانة اليهودية !! كما أخذ سنة الأضحية من الديانة الحنفية الإبراهيمية ! وهي ليست من أصول العقيدة الإسلامية، فلماذا تنكر بعض الجماعات المتطرّفة أن يتبنّى إخوانهم بعض الأفكار من الغرب إذا لم يكن هناك ما يمسّ ثوابت الدين.

كما يجب على الأمة أن تستفيد من المستجدات العلمية في تطوير العلوم الإسلامية، ولكن التخلّف الفكري التي تعاني منه بعض الجماعات ما زالت ترى في كل جديد بدعة حتى في الملابس التي تدخل في المعاملات الدينية لا في المعتقدات والعبادات، فيطعنون في عقيدة كلّ من يرتدي الثياب الألبسة الأوربية !!

لذا يرجى من جميع الجماعات والمذاهب أن نضع حدّا نهائيا للتكفير ورمي الآخرين بفساد العقيدة، كما يرجى من أتباعها أن لا نتهم كل ملتزم بالكتاب والسنة بالرجعية والتخلف... ومن هنا سنخطو خطوات واسعة نحو الوحدة وتوحيد الصفوف، كي نظهر لأعدائنا قوة عملاقة وأمة عظيمة لها أهداف وطموحات لتغيير العالم، وإعادة مجد الإسلام.

ثالثا- الأمة الإسلامية بين الجهل والتعليم

أ- انتشار الجهل بين شرائح الأمة :

إنّ شيوع الأمية بين سواد المجتمع أهمّ العوامل لانتشار الطوائف المتطرفة بين المسلمين. ولا أقصد كثرة الأميين فحسب، بل أعني جميع هؤلاء الشباب الذين لم تسمح لهم الظروف لتكملة دراساتهم الجامعية، فانضموا إلى الأميين ليكونوا شريحة أو طبقة معية في المجتمع، فكيف لا ينضمون إلى الطوائف المتفرقة للانتقام من السلطات التي لم تهيّئ له ظروف النجاح في الحياة، فهم يعانون من الفقر والأمراض والجوع... الخ.

وإذا نظرنا إلى الجهل في نظرة شمولية سنجد أن الجهل يشمل بعض المثقفين المتعصبين، الذين يجعلون في آذانهم وقرا لكي لا يطّلعوا على إيجابيات الطوائف ولا على أدلّتهم في المسائل الخلافية، فلا يكتفون بإصدار أحكام جافية وعبارات جريحة عليهم. والأمثلة في ذلك لا تكاد تحصى، وخاصة بين طوائف التصوّف والشيعة وأهل السنة...الخ.

ويعد هذا الجهل الموصوف آنفا جرثومة في جسم هذه الأمة، جرثومة تمزّق الصفوف وتفرّق الأطراف، حتى أصبحت كل طائفة تفرح بمصائب أخواتها وتحزن بمسرّاتها، وبهذا الجهل يرفع أبناء دولة واحدة السلاح ضد إخوانهم الموطنين، لأن الانتماء إلى الطائفية الدينية أو السياسية أهم اليوم في الشرق الأوسط من الانتماء الوطني والعرقي والإسلامي...الخ.

وبسبب الجهل لم نعد قادرين على وضع أيدينا على الأمراض الاجتماعية التي نعاني منها في جماعتنا الطائفية، " لأن الداء في غيرنا لا فينا "، وهذا ما يردّده كل طائفة في وصف الأخرى... فأنّى السبيل إلى دراسة واقعنا الأليم... واقعنا المتفرق... واقعنا المريض... لكي نعيد بناء أمتنا العظمى بناء محكماً مرصوصا في صفوفها... ولا يتأتّى لنا ذلك إذا كانت أهدافنا غامضة، ووسائلنا واهية، وأفكارنا قاصرة.

ب - ضرورة ربط التعليم بالثقافة :

التعلّم من غير ثقافة لا ينتج إلا نوعا من الجهل، لأن الثقافة تصقل العقول وتفتح أمامها وسائل التفكير السليم، لتنظر إلى جميع المسائل والقضايا من زوايا متباينة.

لذا يرجى إعادة النظر في مناهجنا الدراسية في الجامعات، لأنها توجّه الطلاب نحو هضم التراث القديم وعدم ربطها بظروف حياتهم البيئية، ولا مراعاة المستجدات الحديثة. ومن هنا أصبحت غاية الدراسات الإسلامية تتمثل في حفظ النصوص والمتون، التي لم اكتفينا بها من غير (تحديثها) فلا بد أن نقع في أمرين خطيرين :

أحدهما تضييق آفاق تفكيرنا، لأن العقول تتّجه نحو القديم والتنقيب عن درره وتنسى بل تجهل ظروف الواقع، فنتخلف عن مواكبة التطور السريع الذي يشهده العالم في الآونة الأخيرة.

والأمر الثاني يتمثل في تضييع شبابنا ـ أمل المستقبل ـ الذين ينغلقون على أنفسهم في كراهية كل جديد، فيغلب على الأمة الجهل، ذلك المرض العضال الذي لا يؤدّي إلى اندمال الجرح الذي يمزّق الطوائف والجماعات الإسلامية.

لا يستهدف التعليم الفعل في شحن عقول الدارسين بالمعلومات التراثية القديمة، ولكن غايته أن تجعل عقولهم تفكّر تفكيرا سليما لغربلة التراث، وتطويره للاستفادة منه في معالجة الظروف البيئية...

ولكن إذا استهدف جميع الطوائف في جامعاتها إلى دراسة تراثها علمائها، فلن تغرس في الأمة إلا بذور الخلافات والعصبيات المذهبية التي تمزّق الأواصر الأخوية بين المسلمين، وتحرم العقول من الوعي الثقافي الذي يتفرس ملامح الخير في الوحدة ضد الأعداء، الذين يسعون دوما إلى الاتحاد ضد عدو مشترك، كما جاء في الحديث: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» [سنن أبي داودص11/371]

رابعا - وحدة العالم الإسلامي بين التعصّب والتسامح

أ - دوافع التعصّب لدى الجماعات الإسلامية :

يعدّ التعصّب أخطر العوامل تأثيرا في صفوف الأمة، لأنّه يعمي كلّ طائفة في الحكم على غيرها من الطوائف الأخرى أنها في غيّ من الضلال. وفي الوقت ذاته ترى نفسها على الحق في جميع المسائل الدينية، وتأخذ بآراء أئمتها وعلمائها على الرأس والعين من غير تمحيص ولا تحقيق.

وإذا تأمّلنا في أسباب مثل هذا التعصّب المضلّل، فنجدها متمثلة في الجمود الثقافي والتخلف الفكري والجهل العلمي، كما سبق ذكرها آنفا، غير أن هناك دوافع أخرى يمكن تحديدها في ما يلي:

1.ضحالة العلم: لأن معظم الطوائف تقتصر نظرتها إلى المسائل الدينية في فتاوى علمائها دون النظر في كتب علماء الطوائف الأخرى، وتسفّه أحلام أئمّة غيرهم من خلال بعض آرائهم من غير تحقيق.

2.قلة التفقّه في القواعد الشرعية: إذ ربّ زعيم يدّعي العلم لأتباعه وهو يفتقر إلى فهوم عميقة واطلاع واسع لجميع مراجع علماء الأمة في المسائل الخلافية.

3.اعتقاد كل طائفة أنها الفرقة الناجية يوم القيامة، وتكفّر الطوائف الأخرى دون أن تدقّق في أدلّة مبادئها. (وظاهرة التكفير فتنة خطيرة لهذه الأمة)

4.تسيء كل طائفة الظن في أتباع غيرها من الطوائف الأخرى، وتعلل دائماً مواقفها تعليلا خاطئا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).

5.تحرص كل طائفة على استعادة مجد الإسلام، غير أنها تدّعي أنها كفيلة بذلك دون غيرها من الطوائف، ومن المستحيل أن يتحقّق ذلك على يد كل طائفة بمفردها.

6.تنظر كل طائفة إلى القضايا الإسلامية من زاوية ضيقة، فتركّز عليها في منهجها الدعوي على إهمال الجوانب الأخرى في الإسلام: كمحاربة البدعة عند السلفيين، والتربية الروحية لدى الصوفية، والحاكمية الشرعية عند الحركات الإصلاحية، والتثقيف لدى أصحاب الفكر الإسلامي.

ب - أهم وسائل التسامح في تقريب الأمة :

هناك مبادئ ينبغي أن تكون مدعاة إلى التسامح بين طوائف الأمة، حتى تنمحي ظاهرة التعصّب بين المسلمين، وحتى لا يكفّر بعضنا بعضاً :

1.لا تكفير في ما اختلف فيه فقهاء الأمة، وخاصة أن تلك المسائل المختلف فيها تتمثّل في ما لم يرد فيه النص، (إذ لا اجتهاد مع النص). ولم يختلفوا إلا في ما يدخل تحت الشبهات « الحلال بين والحرام بين وبين ذلك شبهات » الحديث([2]).

2.لا تكفير في فروع المسائل، غير أن بعض الطوائف راحت تجعل الفروع أصولا « ولا أعتقد أن أحدا من العلماء المعتبرين يكفر من ترك صوم رمضان مثلا غير مستحل له»([3])، فكيف نكفّر من تركت نقاب الوجه من المسلمات ؟!، أو من ترك تقصير إزاره ؟!.

3.ولا شكّ أن علماء كل طائفة قد اجتهدوا في المسائل الشرعية، واختلفوا مع نظرائهم في الطوائف الأخرى، فكيف يكفّرون بعضهم بعضا، علماً بأن المجتهد لا يكفّر في ما اجتهد فيه([4]).

وقد جاء في كتاب المحصول للرازي قوله : « والمخالف في هذه المسائل الشرعية لا يكفر لأن الرجل إذا اجتهد وأخطأ فيها فله أجر واحد والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره »([5]).

كل هذه العصبيات الطائفية لدليل على أننا خرجنا عن سنّة نبيّنا الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما علّل به محمد ناصر الدين الألباني في قوله:

«فلا يكفي - إذاً - أن يكون المسلم مخلصا وجادا فيما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة والدعوة إليهما، بل لا بدّ ـ بالإضافة إلى ذلك ـ من أن يكون منهجه منهجا سويا سليما وصحيحا مستقيما ولا يتم ذلك على وجهه إلا باتّباع ما كان عليه سلف الأمة الصالحون رضوان الله تعالى عليهم أجمعين»([6]).

الخاتمة

إذا كانت الأمة الإسلامية موحدة في أهدافها فلماذا تختلف في الوسائل؟

     هكذا يطرح هذا السؤال نفسه أمام جميع الطوائف، وقلّما نجد له إجابة مقنعة! غير أنّني أذكّر الجميع في هذا الصدد أنّ كل طائفة تستطيع أن تنفرد باستخدام الوسائل التي تتيسّر لديها مع تقدير الطوائف الأخرى في استخدام الوسائل الأخرى.

إذ ليس من الضروري أن تستخدم جميع الطوائف الوسائل نفسها، لأنها تتباين في القدرات العقلية والمادية كما تختلف في الاتجاهات والمناهج، وإن اتحدت في أهدافها الدينية !!

ومن الأحسن والأفضل أن تتنوّع الطوائف في استخدام وسائل شتّى، لأن التحدّيات التي تهدّد وحدة الأمة كثيرة ومتنوعة، الأمر الذي يفرض على الأمة أن تستخدم جميع الوسائل الإعلامية والاقتصادية والعقدية والفكرية والسياسية والدعوية والروحية ...الخ، كي تستطيع كل طائفة أن تسدّ الثغرات التي تهملها نظيراتها، حتى تصل الأمة إلى الكمال في استخدام جميع الوسائل الضرورية. وفي الوقت نفسه ينبغي أن تقدّر كل طائفة جهود أخواتها، وتحرص على مودّتها، وتحسن بها الظن في العمل الدعوي الإسلامي.

وختاما ...أشكر الجميع على حسن الاستماع، وأنا على أمل في نجاح هذا اللقاء الأخوي، الذي لا شكّ أنه سيعطي أكله النافع في بناء صرح الأمة، وصيانة ما كان فيه من شقوق.

ثم أخص بالشكر الأمانة العامة، التي شرّفني بهذه الدعوة الكريمة، وأقدّر جهود المجمع العالمي في سعيه الدؤوب لتوحيد الأمة الإسلامية في هذه الظروف الخطيرة التي يمر بها المسلمون.

 

 

([7]).

الهوامش:

([1]). يراجع : سنن ابن ماجه ، ج 12 ، ص 205.

([2]). الألباني، محمد ناصر الدين : السلسلة الصحيحة - مختصرة -، مكتبة المعارف، ج 9، ص 141.

([3]). الألباني، محمد ناصر الدين : مختصرة السلسلة الضعيفة، مكتبة المعارف، لا.ط، ج1/ص211، الرياض.

([4]). الآمدي : الأحكام ، ج 3 / ص 132.

([5]). الرازي : المحصول ، ج 6 / ص 11.

([6]). الألباني، محمد ناصر الدين : فتنة التكفير، ج 1 / ص 3.

([7]).