التكفير: النشأة التاريخية، الظواهر والعوامل

التكفير: النشأة التاريخية، الظواهر والعوامل

 

التكفير: النشأة التاريخية، الظواهر والعوامل

  

د. صلاح الفضلي

 

مقدمة:

إذا كان هناك قضية تحتل الأولوية في اهتمام المجتمعات في العالم قاطبة فهي بالتأكيد قضية الإرهاب القائم على أسس تكفير وإقصاء الأخر المخالف. ونظرة لخطورة هذه الظاهرة ليست على البلدان التي تجتاحها الحروب والصراعات الدموية مثل العراق وسوريا وليبيا هذا عدا عن نيجيريا وباكستان وأفغانستان والصومال، وإنما تتسع لتهدد العالم بأسره خوفاً من تمدد وانتقال هذا الطاعون المدمر. نظرة بسيطة إلى أعداد من قتلوا وجرحوا وأعداد من هُجروا من بيوتهم وحجم الدمار الذي لحق بالمجتمعات التي ضربها إعصار التكفير تؤكد مدى خطورة هذه الظاهرة وضرورة دراسة أسبابها وجذور نشأتها لعله يمكن الحد من الأضرار التي تتسبب بها.

في العراق وحده وبحسب منظمة "إيراك بادي كاونت" البريطانية في تقرير أصدرته  أن ما يقرب من122 ألف مدني قتلوا خلال أعمال العنف المتواصلة في العراق منذ عشرة أعوام، فيما بلغ مجموع من قتلوا ومن ضمنهم المقاتلين والعسكريين نحو 170 ألف شخص يشكل المدنيون 80% منهم، في حين أن "استطلاع صحة الأسرة العراقية"، الذي دعمته الأمم المتحدة، قدر عدد من قضوا  جراء أعمال عنف فقط في الفترة الممتدة ما بين شهري مارس/آذار2003 ويونيو/حزيران 2006 بـ 150 ألف شخص، في حين يصل عدد الجرحى والمصابين بحسب وزارة حقوق الإنسان بالعراق إلى أكثر من 250 ألف على أقل التقديرات، وأكدت الأمم المتحدة في تقرير لها أن حوالى 47% من الشعب العراقي مهجرون بما يمثل حوالى 148313 عائلة، وأن أكثر من الثلث يعيشون تحت سيطرة الجماعات المسلحة. أما في سوريا فقد بلغ عدد النازحين في الداخل والخارج وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان أكثر من ستة ملايين ونصف المليون شخص، منهم مليونان ونصف المليون نازح خارج سوريا، أما عدد القتلى في الصراع الدائر فقد تجاوز 210 ألف شخص نصفهم من المدنيين. ولم يقتصر إعصار الإرهاب التكفيري على المجتمعات التي تشهد حروباً طائفية، بل أمتد ليضرب دولاً كانت تعد بمنأى عن هذا الخطر مثل الكويت.

أولاً: النشأة التاريخية:

1-   التكفير لغة واصطلاحا: الكفر بالضم نقيض الإيمان، والكفر في اللغة هو الستر والتغطية، ومنه استعير المعنى لوصف الكافر الذي يستر ما عرفه من نعم الله عليه أو آياته وبراهينه، وذلك واضح في العديد من الآيات القرآنية ومنها قوله تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" البقرة 89.  أما التكفير اصطلاحاً فهو نسبة الكفر إلى فرد أو مجموعة أو فرقة من أهل الإسلام، بمعنى إخراجهم من الملة وعدم انطباق أحكام المسلمين عليهم، مما يمهد لاستباحة دمائهم وأموالهم واعراضهم. والتكفير هو الصورة الصارخة للتطرف الفكري. أما التطرف لغة فهو مشتق من "الطـَّرَف" أي "الناحية"، أو "منتهى كل شيء". وتطرّف "أتى الطرف"، و"جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط". وكلمة "التطرف" تتضمن مفهوم "الغلوّ" الذي يعني تجاوز الحد. وهو من "غلا" "زاد وارتفع وجاوز الحد". ويقال الغلو في الأمر والدين: {{ لا تغلوا في دينكم }} (النساء: 171، المائدة: 77).

وإذا كان تاريخ المسلمين حافل بمظاهر التطرف والتكفير فإن ظاهرة "الخوارج" تعد البداية التاريخية لهذه الظاهرة التي زالت المجتمعات الإنسانية تعاني منها. يعتبر بروز الخوارج  في القرن الأول الهجري  الظهور التاريخي الأول لظاهرة التكفير في الحضارة الإسلامية. وقد أطلق مصطلح الخوارج على الجماعة الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع في حربه في صفين ضد جيش معاوية، والذين عملوا على أجبار علي ع على قبول التحكيم ثم خرجوا علٌيه بعد أن جرى أمر التحكيم على خلاف ما يريدونه، وقالوا لعلي ع "لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله، ولذلك سموا بالمحكمة، وأصرت هذه الجماعات من الخوارج على قبول التحكيم، ووصل بها الأمر من أجل ذلك إلى تهديد علي ع بقولهم له: "يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إلٌيه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم"، فلما حصل التحكيم لم يرتضوا النتيجة وخرجوا من معسكر الإمام علي إلى كورة الحرورة بالقرب من الكوفة فسموا أيضاً نسبة إلى هذا الموضع بالحرورية.

وقد فشلت محاولات الإمام علي ع في إقناع الخوارج بالعدول عن موقفهم من التمرد ولذلك رجع علي وابن عباس إلى الكوفة، وراح الخوارج قاعدة التكفير على مخالفٌهم استخدموا مبدأ الاختبار الذي راحوا يمارسونه على نطاق واسع مع مخالفيهم.

الرسول الأعظم (ص) كان سباقاً في التحذير من خطر المتطرفين فكرياً، وحذر الأمة من الانخداع بمظاهر التدين التي عليها هؤلاء، ولذا وصف رسول الله الخوارج -مع كثرة صلاتهم وصيامهم، وقراءتهم للقرآن- بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

 

ثانياً: العوامل:

1-   الفقر: يعتبر الفقر بيئة مناسبة لنشوء ظاهرة التكفير كأحد مظاهر التطرف الفكري، فكما ان هناك علاقة بين نمط تفكير الأفراد والمجتمعات وبين البيئة الجغرافية والحضارية التي يعيش فيها الإنسان فهناك أيضاً علاقة بين البيئة الاقتصادية التي يعيشها الفرد أو المجتمع والحالة الاقتصادية التي يعيشها، وقد يعارض أحدهم هذا الرأي بالقول أن نسبة لا بأس بها من المتطرفين فكرياً يأتون من طبقات متوسطة الدخل أو حتى من طبقات اجتماعية مرفهة. وجود هذه النسبة لا يعني أن الفقر لا يلعب دوراً في ظاهرة التطرف الفكري التي تصل إلى حد التكفير، ويمكن إرجاع وجود نسبة من المنتمين للفكر المتطرف من الطبقات الاجتماعية المرفهة اقتصادياً إلى عوامل أخرى غير الفقر، فالتكفير كأحد مظاهر التطرف الفكري ظاهرة معقدة لا يمكن إرجاعها لسبب واحد.

يذهب كثير من الباحثين الاجتماعيين إلى أن هناك علاقة طردية بين الاوضاع الاقتصادية السيئة وبين الإرهاب الاجرامي. ووفق ذلك تظهر الدراسات بان في معظم البلدان التي ينتشر فيها العنف بشكل متزايد، كان معدل نمو نصيب الفرد من الدخل في أدني مستوي ممكن .في جميع البلدان التي شهدت حالة عدم الاستقرار السياسي في العقود الاخيرة ، كان لها بين اعوام 1960 و 1990 ميلادي نسبة متوسط دخل الفرد اقل من مستوي الفقر، مما يشير إلى علاقة طردية بين الفقر والإرهاب التكفيري.

2-   التسلط والديكتاتورية: في حين أن الإسلام قدم نموذجاً للحكم لا يقوم على توارث الملك والرئاسة كما كان سائداً بين الدول والقبائل قبل الإسلام، فإن هذا النموذج سرعان ما سقط بعد مقتل الإمام علي في السنة الأربعين بعد الهجرة، لتتحول رئاسة الدولة الإسلامية إلى ملك عضوض يتوارثه الآباء عن الأجداد، والأبناء عن الآباء. وقد حدثت أول ردة عن نموذج الحكم الإسلامي عندما عهد معاوية بن أبي سفيان لولده يزيد بالخلافة من بعده، وأمره بأن يأخذ البيعة من عامة الناس بالقوة، وهو ما حدث بالفعل حيث أرسل يزيد بن معاوية جيشاً إلى مكة والمدينة لإجبار الناس على مبايعته بعدما خلعوا بيعته، وولوا على قريش عبدالله بن مطيع، وعلى الأنصار عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر، ولم يقتصر هدف الجيش الأموي على إجبار الناس على مبايعة يزيد كخليفة للمسلمين فحسب، وإنما كانت المبايعة على أن يكون المبايع "قن" ليزيد، أي عبد من عبيد يزيد، وهذا ما وقع في واقعة الحرة المشهورة في سنة 63 للهجرة، وهي الواقعة التي هجم فيها جيش يزيد بقيادة مسلم بن عقبة على المدينة المنورة، وفيها انتهبت المدينة المنورة ثلاثة أيام، وفيها افتضت ألف فتاة بكر في يوم واحد، وقُتل فيها العديد من حفاظ القرآن. وهناك إلى جانب هاتين الحادثتين حوادث أخرى كثيرة تدل على الظلم والجور الذي كان سائداً، ومنها حادثة قتل التابعي الجليل سعيد بن جبير على يد الحجاج بن مسلم الثقفي سنة 95 هـ وسبب قتله الوحيد أنه كان معارضاً لجور وظلم بني أمية. وتاريخ الدول "الإسلامية" عبر عصوره المختلفة حافل بالتسلط والظلم والديكتاتورية وممارسة القمع بأبشع صوره وهو ما ينعكس حتماً على نمط تفكير وسلوك الفرد الذي يعيش في مثل هذه المجتمعات. المتتبع لحالة المجتمعات الإسلامية في طول تاريخ الدول الإسلامية يجد أنها كانت تعيش بشكل عام –مع بعض الاستثناءات- تحت ظل أنظمة استبدادية قمعية، والنظام الاستبدادي بطبعه لا يحب المعارضة، وخاصة إذا أتت من أناس ذوي رأي وعقل يمكن أن يهيجوا الناس ضدهم، وبالتالي فإن هذه الأنظمة كانت تعمل على قمع هذه النوعية المفكرة من الناس، ومنعها من إبداء آراءها بين الناس، وتحاول بدلاً من ذلك استعداء أفراد المجتمع عليهم، ومن جانب أخر كانت هذه الأنظمة تعمد إلى شغل الناس بتوافه الأمور حتى لا يلتفتوا إلى الأمور المصيرية في حياتهم.

لقد مارست الأنظمة السياسية المتعاقبة في المجتمعات الإسلامية بداية من الدولة الأموية وحتى يومنا هذا شتى أنواع الظلم والاستبداد مع معارضيها، ومورست أنواع من القتل والتعذيب لا تخطر على بال أحد، مثل تسميل العيون وقطع الأطراف والرمي من شاهق والصلب على جذوع النخل وقطع الرؤوس والرمي في حوض الزرنيخ (جواد علي، 1969)، ويكفي أنه في أيام الحجاج بن يوسف الثقفي والي الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على العراق كان هناك خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة مسجونين في أحد سجون الحجاج وهم عراة لا يقيهم شيئاً من حر الصيف ولا من برودة الشتاء. وقد اسُتخدمت الأنظمة السياسية ذرائع شتى في قمع معارضيها، فقد استخدمت تهمة الزندقة –والتي تعني المروق من الدين- في تصفية الخصوم، ولم تكن هذه الأنظمة تسمح بالإفصاح عن أي موقف معارض للسلطة، ويظهر ذلك في حالات كثيرة ذهب ضحيتها المعارضون السياسيون، ومن أمثلتهم حجر بن عدي، وسعيد بن جبير، وغيلان الدمشقي. وفي ظل هكذا إرهاب دموي، لم يكن من الممكن أن يتطور نمط التفكير الناقد، فهذا النمط لا يمكن أن يتطور إلا في أجواء الحرية والقبول بالآراء المخالفة.

                   وإذا أردنا أن نختار من بين كل العوامل التي أثرت في التاريخ الإسلامي السياسي والاجتماعي على حد سواء عاملاً واحداً كان له الأثر الأكبر في هذا التاريخ فلن نجد أكثر من عامل الاستبداد أشد تأثيراً وأعظم بلاءً. وكما يقول المفكر السوري الكبير عبدالرحمن الكواكبي (1854-1902) في كتابه القيم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فأن الاستبداد "أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين"، وأن المستبد "يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ" (الكواكبي، 1996، ص 9). ثم يصف الكواكبي أثر الاستبداد في إرهاب العلماء ومنعهم من قول كلمة الحق فيقول: "وإني أُمثِّـل للمطالعيـن ما فعله الاستبداد فــي الإسـلام، بما حجـر علـى العلماء الحكماء من أن يفسِّروا قسمَي الآلاء والأخلاق تفسيراً مدقِّقَاً، لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغُفَّل السالفين أو بعـض المنافقين المقرَّبين المعاصريـن، فيُكفَّرون فيُقتَلون" (المصدر السابق، ص 18). ويصل الكواكبـي إلى نتيجة مفادها أن العلاقة بين العلم والاستبداد هي علاقة خصام دائم، وهو يقول في ذلك: "أن بين الاستبداد والعلـم حـرباً دائمـةً وطراداً مستمـراً، يسعـى العلماء فــي تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ فـي إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العـوام. ومـن هم العوام؟ هـم أولئك الذيـن إذا جهلوا خافـوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّـهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا" (المصدر السابق، ص 21). وكخلاصـة لبحثه في الاستبـداد يصل الكواكبي إلى نتيجـة مفادها أن: "الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء، ومبنـى ذلك أنَّ الباحث المدقق فـي أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشـف أنَّ للاستبداد أثـراً سيئاً فـي كلِّ واد، وقـد سبـق أنَّ الاستبداد يضغـط علـى العقل فيفسـده" (المصدر السابق، ص 25).

3-   الجهل والتجهيل: ذكرنا في معوقات التفكير عند الإنسان ميله للجوء إلى الأساطير والخرافات عندما يعوزه الدليل لتفسير ظاهرة من الظواهر. الإنسان لا يلجأ إلى الخرافة أو الأسطورة إلا إذا افتقر إلى الدليل أو البرهان العلمي، وذلك بسبب الجهل الذي يمنعه من أن ينهج النهج الصحيح الذي يؤدي إلى الحقيقة. من يتعرف على نمط الحياة التي كان يعيشها الناس في الجاهلية ويدرك مستوى الجهل المطبق الذي كان يمنعهم من النظر إلى الأمور بصورة منطقية، من يتعرف على ذلك يدرك أن هذا المجتمع لابد أن تكثر فيه الأساطير والخرافات كبديل عن الدليل العلمي، وهذا بالفعل ما كان حاصلاً في العصر الجاهلي، ولا أدل على هذا الجهل من عبادة أفراد المجتمع الجاهلي لأصنام كانوا يصنعونها بأيديهم، وقد كانوا يصنعونها في الغالب من الحجارة، وإلى جانب الحجارة ربما صنعوها من مواد أخرى، من ضمنها التمر، فكان أحدهم إذا أضر به الجوع ولم يجد ما يأكل عمد إلى أكل "معبوده" المصنوع من التمر. وفي حادثة طريفة تدل على تنبه أحد الأشخاص لسفاهة ما كان يقوم به من عبادة صنم كان يصنعه بيده، حيث نظر هذا الرجل يوماً إلى صنمه وقد وقف أحد الثعالب يبول عليه، فوقف الرجل متأملاً هذا المنظر طويلاً، ثم أنشد بيتاً من الشعر قال فيه:

أربٌ تبول الثعلبان برأسه        ألا ذل من بالت عليه الثعالب

 

تذكر كتب التاريخ التي أرخت للعصر الجاهلي أن العرب عبدت أكثر من 200 صنم من الأصنام التي كانوا يجعلون لها أسماء، وقد ذكر القرآن الكريم بعضها مثل اللات والعزى ومناة. انعكست عبادة أهل الجاهلية للأصنام واعتقادهم بأنها تجلب الخير وتمنع الأذى على تسمية بعض أبناءهم على أسماء هذه الأصنام، فانتشرت أسماء مثل عبداللات وعبدالعزى. بسبب اعتقاد أهل الجاهلية بأن الأصنام والآلهة تضر وتنفع قدم أهل الجاهلية القرابين والنذور لهذه الأصنام تقرباً لها، فكانوا يذبحون لها الذبائح ويعلقون في رقابها الحلى والمجوهرات، وتُمثل هذه النذور المظهر الأبرز للحياة الدينية لأهل الجاهلية، وقد سجل القرآن الكريم في مقام التذكير بهذه العادات المنبوذة بعض نذور أهل الجاهلية مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (جواد علي، 1969).

 لم يقتصر أهل الجاهلية على عبادة الأصنام، بل أن منهم من عبد الشمس والقمر، ومنهم من عبد كواكب أخرى مثل الشعرى حيث عبدتها قبيلتي خزاعة وقيس، وكوكب عطارد الذي عبده بنو أسد، وكوكب زحل الذي عبده بعض أهل مكة. كما كان أهل الجاهلية يعتقدون بتأثير الجن، وأنه ينقل الأخبار إلى بعض الناس، وهم كانوا يعتقدون أن للجن القدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن منتشرة في التراث الجاهلي، كما أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون بأن الجن تسكن المواضع المظلمة وباطن الأرض، وقد اشتهرت منطقة في البادية أسمها "عبقر" بأنها موطن لسكنى الجن، ومنها جاءت تسمية الشخص الذكي في اللغة العربية بأنه "عبقري"، وكانوا يذبحون الذبائح للجن اتقاءً لشرها (المصدر السابق، 1969)، وأثر الاعتقاد بالجن ظاهر في شعر الجاهليين، ومنه قول الأعشى عن النبي سليمان:

وسخر من جن الملائك تسعة        قياماً لديه يعملون محارباً

            ومن بين الأساطير الجاهلية الكثيرة أسطورة الغول، وقد نسجت حوله قصص كثيرة، وأشهرها القصص التي تُروى للغول مع الشاعر الجاهلي ثابت بن جابر الفهمي المشهور بـ "تأبط شراً". كما انتشرت بينهم "التمائم"، وهي القلائد التي تُعلق في أعناق الصبيان يزعمون أنها تقيهم من النفس والعين. وكانوا يعتقدون بأثر العين، وتفننوا في ابتداع وسائل الوقاية منها، وأشهر وسائل الوقاية هذه الخرز والتعاويذ. كما كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين، فقد كانوا يتشاءمون من بعض الطيور من أمثال الغراب والبومة، كما كانوا يتشاءمون من العطسة، فإذا ما عطس أحد أمام من يريد السفر، فإنه يعدل عن سفره لتشاؤمه من آثر العطسة.

إذا كانت واقعة الحرة الدلالة الأبرز على تراجع القيم الإسلامية أمام القيم الجاهلية، فإن ذلك لا يعني أنه لم تكن هناك بوادر سابقة تدل على أن التراجع عن القيم الإسلامية أصبح حتمياً. هناك حادثة تاريخية حدثت في خلافة معاوية تدل على مقدار "التجهيل" الذي مورس بحق الناس لتحويلهم إلى مجرد أدوات يتم الاستفادة منها. الحادثة وقعت مع رجل من أهل العراق كان ذاهباً على بعير إلى الشام للتجارة، وبمجرد أن دخل العراقي إلى الشام إلا ورجل شامي يأخذ بزمام البعير، ويصيح بالعراقي أمام الناس "أترك الناقة فهي لي"، فرد عليه العراقي بأنه بعير وليس ناقة، ثم أن الجدال احتدم بين العراقي والشامي فأخذا إلى معاوية ليقضي بينهما، فلما أدلى كل منهما بدلوه حكم معاوية للشامي بأخذ "الناقة"، ثم أن معاوية أشار إلى العراقي بالاقتراب منه، وقال له: "اذهب وأخبر علياً أني أقاتله بسبعين ألفٍ لا يفرقون بين الناقة والجمل". وفي حادثة أخرى صلى معاوية بجماعة من أهل الشام صلاة الجمعة يوم الأربعاء، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن جهلاً من معاوية بوقت الصلاة بل لبيان طاعة هؤلاء وولائهم له وأنهم لا يعصون له أمراً، وهذا ما كان حاصلاً فعلاً، ولكن هذه الحادثة تدل أيضاً على أي مستوى من التجهيل وصل إليه أهل الشام في ذلك الوقت. هذه الحوادث وغيرها تدل دلالة واضحة على مستوى التجهيل الذي وصلت إليه أحوال أهل الشام في ذلك الوقت، وهو ما ينعكس حتماً على نمط تفكيرهم الذي أصبح يتصف بالسذاجة. وهنا يبرز نموذجان، نموذج العراقي الذي يمارس عملية التفكير والنقاش والجدال، ونموذج الشامي الذي يتعامل مع الأمور بسطحية وسذاجة وتسليم.

لم يقتصر التباين في أنماط التفكير في الدولتين الأموية والعباسية على نموذج "الشامي-العراقي"، بل كان هناك نموذجاً متناقضاً آخراً داخل إطار الدولة الإسلامية الواحدة، وموضوع الاختلاف هذه المرة هو أصول الفقه، وهذا النموذج هو نموذج أهل الرأي في مقابل نموذج أهل الحديث، ففقهاء العراق وعلماؤهم كانوا أهل رأي وقياس واستنباط عقلي، ومثل هذا النموذج أبو حنيفة النعمان، بينما فقهاء الحجاز كانوا أهل حديث، يلتزمون بظواهر النصوص ولا يحيدون عنها قيد أنملة، ومثل هذا النموذج أحمد بن حنبل. مدرسة الحديث هي المدرسة الفكرية التي يقوم فيها المنهج على أن الاعتقاد والتشريع ينحصر في نصوص القرآن والحديث.

نموذج "أهل الرأي-أهل الحديث" كان نموذج التفكير في الجانب السني، أما في الجانب الشيعي فنجد نموذجاً مشابهاً، وهو نموذج أهل الاجتهاد في مقابل الإخباريين، وهو الاتجاه (الإخباري) الذي ظهر جلياً في القرن الحادي عشر الهجري، فالفقهاء أصحاب الاتجاه الاجتهادي كانوا يستخدمون الطرق العقلية إلى جانب الطرق النقلية في الاستدلال على الحكم الشرعي، بينما الفقهاء الإخباريون يرفضون استعمال الطرق العقلية في الاستدلال، لأنهم يعتبرون أنها تفتقر إلى دليل شرعي في صحة الاعتماد عليها، ولذا فهم يقتصرون في استنباطهم للحكم الشرعي على ما توفر لديهم من أحاديث وروايات، ويرفضون الإجماع أو الاجتهاد.

نموذج "أهل الرأي-أهل الحديث" كان هو الأساس في طريقة التعامل مع الأفكار الآتية من الثقافات الأخرى عندما بدأ انتشار الإسلام، فبينما تصدى أهل الرأي للتحديات التي شكلتها هذه الأفكار أمام معتقداتهم الدينية من خلال تطوير علم الكلام، انضوى أهل الحديث جانباً وآثروا عدم الدخول في هذه المعمعة حتى لا يتزلزل إيمانهم. صحيح أن علم الكلام جاء في الأساس كرد فعل على التحديات والإشكالات الفكرية التي أثارها مفكرو الثقافات الأخرى، بل وحتى بعض من دخلوا الإسلام، إلا أن هذا لا يقدح في حقيقة أن علم الكلام شكل نقلة نوعية كبيرة في نمط التفكير العربي والإسلامي من خلال اعتماد النهج العقلي المنطقي في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، ويمكن اعتبار ظهور علم الكلام بداية لبروز التفكير الفلسفي لدى المفكرين المسلمين.

4.    شيوع الفكر السلفي: من الملامح الرئيسية التي لا تخطئها العين في التاريخ الإسلامي شيوع الفكر المعادي للعقل في فترات زمنية عديدة، وهو الفكر الذي يتمسك بالنصوص بشكل حرفي، ولا يحيد عنها قيد أنملة، حتى لو كان ذلك الفهم لا يتناسب مع روحية الإسلام ومنظومته الفكرية، ولنا في الخوارج الذين ظهروا في الصدر الأول من الإسلام خير مثال، حيث كانوا يرفعون شعار "لا حكم إلا لله"، وكان رد أمير المؤمنين عليهم بأن هذا الشعار "كلمة حق يراد بها باطل"، وهو رد يدل على أن الخوارج لم يكونوا يفهمون المعنى الحقيقي للشعارات التي ينادون بها، وفي ذلك دلالة على الفهم السقيم الذي كان يحمله الخوارج للدين. إذا كانت ظاهرة الخوارج أشهر ظاهرة للفكر المتطرف في فهم الدين، فإن الخوارج لم يكونوا سوى البداية لظاهرة التشدد الديني ومعاداة الفلسفة وحرية التفكير التي ظهرت مراراً وتكراراً في التاريخ الإسلامي، وقد كان لتيار الفكر المتشدد هذا ثلاثة خصوم تقليديين: المتصوفة والشيعة والفلاسفة.

ففيما يخص معاداة التصوف كانت الخصومة من قبل الفقهاء من أهل الحديث وكثير منهم ينتمي إلى التيار السلفي، هذه المعاداة لرموز التصوف كانت شديدة وقاسية، فقد حُكم على الفيلسوف شهاب الدين السهروردي بالقتل بدعوى الكفر والخروج عن الدين، وذلك في عام 665 هـ، وقبل ذلك كان أمثال هؤلاء الفقهاء قد حكموا بالقتل أيضاً على الحسين بن منصور الحلاج في القرن الثالث الهجري، حين أتفق مجموعة من علماء عصره على "كفره وزندقته".

  أما معاداة التيار السلفي للشيعة فهي ظاهرة واضحة في التاريخ الإسلامي، وقد تعرض الكثير من علماء الشيعة للقتل على يد فقهاء الفكر السلفي لكون الفقهاء السلف كانوا يعتقدون بأن الشيعة من أهل البدع والأهواء، وقد تجسد ذلك في قتل الفقيه محمد بن مكي جمال الدين العاملي (الملقب بالشهيد الأول) سنة 786 بفتوى من فقهاء دمشق، وكذلك الحال مع الفقيه الحسين بن زين الدين العاملي (الملقب بالشهيد الثاني)، حيث قتل في سنة 909 هـ  بفتوى من قاضي صيدا. وقد حمل ابن تيمية لواء التصدي لمعتقدات الشيعة، مما شكل إرثاً تاريخياً سلفياً معادياً للشيعة، مما جعل من الصعوبة بمكان تجاوز الاختلافات العقدية بين الطرفين فيما بعد.

  أما فيما يخص الفلسفة فيمكن القول جزماً أن العلاقة بين الفكر السلفي والفلسفي هي علاقة خصام دائم وود منقطع، ولم ينفك الفكر السلفي يحارب الفكر الفلسفي عبر عصور الإسلام المختلفة، فإذا ما وجد الفرصة سانحة أنقض على الفكر الفلسفي ودعاته بالتشهير والتقتيل، ولنا في موقف دعاة السلفية مع الفيلسوف الإسلامي الكبير ابن رشد مجرد مثال من أمثلة كثيرة، عندما أحرقوا كتبه وضربوه وحاكموه بتهمة الكفر ثم حكموا عليه بالنفي لمدة سنة.

            الفكر السلفي لا يمثل حالة شاذة أو منعزلة في التاريخ الإسلامي، بل -كما ذكرنا سالفاً- هو نمط يتكرر من حين لأخر في التاريخ، وكما يقول محمد عابد الجابري: "الفكر السلفي في الوطن العربي ليس فكرًا وافدًا طارئًا"، بل هو عميق الأصول متشعب الجذور، وأنه وجه من وجوه تراثنا، بل لعله أبرز هذه الوجوه في الوقت الحاضر" (الجابري، 1996). يلقى الفكر السلفي رواجاً كبيراً بين العامة والبسطاء من الناس، لأنه فكر يركز على ظواهر الأمور وينزع إلى السطحية، وهو ما يجعله يلقى استجابة لدى البسطاء وقبولاً لدى العامة، لأن الإنسان - بشكل عام - يميل بطبعه إلى التبسيط، ولا يستسيغ التعمق في الأمور.

 

ثالثاً: الظواهر:

1-   العمليات الانتحارية: يعد القيام بالعمليات الانتحارية المثال الصارخ لعملية تكفير الأخر، فهي لا تكتفي بتكفير الأخر فكرياُ وإنما تصل إلى حد قتله حتى لو تتطلب الأمر قتل الشخص التكفيري نفسه، وقد شهدنا في السنوات العشر الأخيرة تزايد كبير جداً في هذا النوع من العمليات، حيث بلغت العمليات الانتحارية في العراق وحده منذ عام 2003 أكثر من 6000 ألف عملية انتحارية ما بين تفجير النفس بواسطة حزام ناسف أو عبر سيارات مفخخة. وتوجد عدة تفسيرات لشخصية الشخص الانتحاري، وهي كما يلي:

 أـ تذهب بعض الدراسات إلى أن الشخص الانتحاري،  بما يتميز به من قسوة وقصد ايذاء الأخرين الذين لا يعرفهم ولا تربطه بهم علاقة فإنه يعاني من اضطراب نفسي يسمى اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أو السايكوباتية.

 ب -هناك آراء أخرى ترجع سلوك المنتحر الى عامل الاحباط والنقمة على المجتمع الذي يعيش فيه الذي لم يتح للشخص الانتحاري تحقيق ذاته مما يجعل الانتحاري يجد في العملية الانتحارية انتقاماً من المجتمع من جهة ومن معاناته من جهة أخرى وبمبرر مريح للنفس وهو الفوز بالجنة بذريعة الدفاع عن الدين أو المعتقدات.

ت - دراسات أخرى تركز على كون الشخص الانتحاري في الأساس شخص مضطرب الشخصية  وسهل التأثر والاقتناع بإيحاءات الآخرين، خصوصاً إذا تكلموا باسم الدين والمقدسات، أي أن شخصية الانتحاري بطبعها شخصية حدّية وتحتاج فقط إلى محفز، وقد يكون الانتحاري فريسة لأكثر من عامل من العوامل السابقة مجتمعة.

2-   النزاعات الطائفية: لم يعد خطر الإرهاب التكفيري يقتصر على مجموعات إرهابية تعمد إلى تكفير الأخر وتستحل ماله ودمه وعرضه، بل تحول ذلك إلى حالة عامة في كثير من المجتمعات، بحيث أصبحت ظاهرة تكفير الأخر أو معاداة المخالف فكرياً حالة  اجتماعية عامة، وفي الغالب يكون ذلك من خلال استغلال دول أو أحزاب للعواطف الدينية والمذهبية لتأجيج الصراع الطائفي خدمة لمصالح قوى دولية، ولعل ما يحدث في العراق وسوريا من حروب أهلية على أساس طائفي خير شاهد على المدى الذي يمكن أن يصل إليه التكفير حيث تستمر الحروب لسنوات طويلة تزهق فيها الأرواح وتدمر البيوت وتنتهك الحرمات وتهجر العوائل.

 التمييز على أساس طائفي: يعاني العديد من أتباع المذاهب المختلفة وبالخصوص الشيعة من التمييز الطائفي حيث يتم معاملتهم على أنهم مبتدعون على أحسن الأحوال، فيما يذهب البعض إلى تكفيرهم بأجمعهم واعتبارهم فئة ضالة يشكلون خطراً على الإسلام وهناك خطاب متطرف يعتبرهم أخطر من اليهود والنصارى. ومن المؤسف أن هذه البيئة العدائية يتم تغذيتها في بعض الأحيان من رجال دين يفترض بهم أن يدعوا إلى التوحد ونبذ الخلافات التي تفرق المسلمين، لكننا نجد على سبيل المثال أن ائمة الحرمين المكي والمدني يجاهرون في الدعاء على "الرافضة" ويقصدون بهم الشيعة، وتنقل القنوات الإعلامية الرسمية في بعض البلدان خطباً تدعو على الشيعة وتحرض على قتلهم. وبسبب هذا الشحن الطائفي يواجه الكثير من الشيعة سوء معاملة ومضايقة من السلطات الرسمية ومن عامة الشعب في موسم الحج والعمرة عندما تتبين هويتهم المذهبية، ويتم كذلك التضييق عليهم في أداء الصلاة وزيارة قبر النبي (ص) ومقبرة البقيع وغيرها من المشاهد الإسلامية، وحدث أيضاً في محرم الماضي أن أقفلت وزارة الأوقاف المصرية مسجد الحسين (ع) في القاهرة في التاسع والعاشر من شهر محرم بدعوى أن الشيعة يمارسون بدعاً مخالفة للشرع في المقام.