السنّة وموازين ومعايير الكتب الستّة والأُصول الأربعة ومجال التقريب

السنّة وموازين ومعايير الكتب الستّة والأُصول الأربعة ومجال التقريب

 

 

السنّة وموازين ومعايير الكتب الستّة والأُصول الأربعة ومجال التقريب

 

زهير الشاويش

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ لـه، ومن يضلل فلا هادي لـه.

وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾(1).

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(2).

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا {33/70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾(3).

وبعد: فقد سُرِرْت بدعوة كريمة للمشاركة في المؤتمر العالمي الثامن للوحدة

_______________________________________

1 - سورة آل عمران: 102.

2 - سورة النساء: 1.

3 - سورة الأحزاب: 70.

ـ(370)ـ

الإسلامية، الذي يُقيمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب في شهر ربيع الأول (1416 هـ).

ووقع الاختيار على أنّ أكتب في الفقرة الثانية من القسم (ب)، وهي المعايير العلمية لنقد الحديث، والرؤية العامّة للصحاح الستّة، والكتب الأربعة.

ونظراً لسابق معرفتي ومشاركتي البسيطة في التقريب بين المذاهب، ومنها اتّصالي بالعلماء الذين باشروا ذلك في مصر سنة (1952 م). واستمرار التواصل في هذا الموضوع مع أستاذي العلامة الشيخ محمّد بهجة البيطار، وما بينه وبين الإمام الخالصي، ثمّ بيني وبين أبنائه، وبعد ذلك بيني وبين الصديق السيّد مجتبى نواب صفوي، وسماحة السيد موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى السابق، والعلامة الشهيد الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية السابق رحمه الله ومع غيرهم من أهل العلم رحمهم الله.

فقد قبلت المشاركة في هذا المؤتمر الحافل، آملا أنّ ننجح اليوم بما لم يُقدَّرْ لنا سابقاً الوصول إليه.

وأسهمت بهذا البحث الموجز جدّاً – لضيق الوقت – مقدّماً شُكري للجنة المؤتمر، وللشخصية الكبيرة التي عليها معقد الأمل في التقريب الصحيح في لبنان: سماحة رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين لاقتراحه مشاركتي في هذا المؤتمر، والمداخلة في بحوثه ودراساته بناءً على حسن ظنّ بي عنده.

فجزاهم الله كلّ خير. وكتب الله بفضله وكرمه نجاح المساعي الخيّرة في التقريب بين المسلمين، والتوفيق والسداد لهم في أُمور دينهم ودنياهم.

راجياً أنّ أكون قد ساهمت بجزء نافع في هذا المشروع الكبير والموضوع الخطير في جميع الأُمّة الإسلامية على كلمة سواء، تمنع التنافر والتنابز والاستفزاز. ولعلها في أيّام مقبلات تتوحّد على قواسم مشتركة يكون المرجع فيها الأصول الثابتة من كتاب الله

ـ(371)ـ

سبحانه وسنة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ذاك على الله بعزيز.

﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي $ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي $ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي$ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾(1).

تمهيد:

لا بدّ للباحث في الأمور التي كانت معتمد مذاهب الناس ومرتكز أدلّتهم واعتقادهم، من النظر في القواعد الأساسية التي بُُنيت عليها تلك المذاهب، وشكّلت أصولاً لكلّ فريق، وكيف كان اعتمادهم عليها، واختلافهم فيما بعدُ فيها، وما نتج عن ذلك من تبعات.

ولا تبحث تلك الأمور إلاّ بتجرّد وإخلاص وبُعد عن التأثّر بالعصبية التي كانت في الماضي مسيطرة على تصرفات بعض منّا، ويجب أنّ يكون هذا النظرُ بعيداً أيضاً عن التحيّز للرأي المسبق لقسم من الأُصول، أو الرفض والتشنيج ضدّ القسم الآخر.

وعلى هذا المعتمد وذاك المرتكز قامت الكتب الستّة في الحديث النبوي الشريف والسُّنة المطهّرة، التي سنتحدّث عنها، إذ إنّ مصنّفي هذه الكتب ما كانوا أصحاب هوىً، ولا أتباع فكرة مسبقة، وما عرفوا العصبية المذهبية مطلقاً، بل لم تكن شائعة في مجتمعنا المسلم أصلاً، وإنّما كان مثالهم مثال المؤرّخ والمسجل لما بين يديه من الحوادث والأخبار يتتبعها في مظانّها من أفواه الرواة الثقات، ويسجّلها بأمانة مشهودة ملموسة، ثمّ يُلقيها على مسامع الناس، من بعد أنّ يدوّنها في كتبه، ذاكراً السند ورجال كلّ خبر، ضمن معايير خاصّة به، أو ما كان منها محلّ اتفاق مع غيره من العلماء.

ثمّ يضع المتن المنقول تحت البحث الدقيق المجرّد، فإذا وجد فيه علةً ظاهرة أو خفيّة

_______________________________________

1 - سورة طه: 25 - 28.

ـ(372)ـ

رجع إلى السند مرة أُخرى لينظر مكامن تلك العلّة فيه، وما أقلّ الأحاديث والأخبار التي كانت علّتها في المتن، بعد سلامة السند في الطريقة التي اتّبعها أسلافنا من أهل الحديث رحمهم الله فأوصلت إلينا تلك الأُصول سليمة في الجملة.

والناظر في تلك القواعد – المعايير والموازين – يجد أنّها من أعظم وأدقّ ما عرفه البشر حتى يومنا هذا في ضبط أخبارهم وعلومهم وحوادثهم، بل وأديانهم وآدابهم.

وقد شهد لهم بذلك من ليس منهم، حتى المخالف لهم في النتائج التي وصلوا إليها صرّح بالإقرار بدقّتهم، وتقصّيهم العلمي وسلامة قواعدهم، وصحّة منهجهم، ووضوح سبيلهم.

والمخالف المتعنّت لم يكن أمامه إلاّ العجز عن الاعتراض عليهم، أو اللّجوء إلى تمحّلات لا تسمن ولا تغني من جوع، وتفضح قاتلها وتنادي عليه بالجهل.

وممّن شهد لهم بذلك – على سبيل المثال: المؤرخ النصراني المنقطع بعد ذلك لخدمة كنيسة الأرثوذكسية – الدكتور أسد رستم في كتابه «مصطلح التاريخ» الذي اعتمد فيه القواعد التي وجدها أمام عينيه عند علماء الحديث والأثر من نقد الأُصول للوصول إلى الوقائع الحقيقية والتأكّد من صحّتها ودقّتها. وممّا قال في مقدّمته ما ملخصه:

«سبق علماء المسلمين سبقاً أوليّاً في مجال تنظيم نقد الروايات التاريخية... وأوّل من وضع القواعد لذلك، علماء الدين الإسلامي.. فانبروا لجمع الأحاديث ودراستها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا».

وقال أيضاً: «ممّا يذكر مع مزيد الإعجاب والتقدير، ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في مصنفاتهم، في مجال التثبّت من عدالة الراوي وضبطه، نورده بحروفه وحذافيره - تنويهاً - بتدقيقهم العلمي، واعترافاً بفضلهم على التاريخ...» ثمّ راح يُثني على

ـ(373)ـ

جهود علماء الحديث في هذا الشأن ناقلاً عن غير واحد منهم!

 

تقديم:

وإنّنا إذا أردنا عرض كتب (السنّة والحديث) بمعايير النقد الجديد، فلابُدّ لنا من سرد تاريخي لهما (لأنّهما شيء واحد في النتيجة)، وأكتفي في هذه العجالة بنقاط أشرح فيها بعضاً ممّا تدعو الحاجة إليه.

إنّ السنّة والحديث – في الكتب الستّة وغيرها – جمعت أقوال وأفعال سيدنا رسول الله محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإقراراته لأفعال الناس، أو صفات سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خلقيّة كانت أو خُلقية، أو سيرته قبل البعثة أو بعدها.

وفيها – أيضاً – التطبيق العلمي والعملي لما فهمه الصحابة (كلّ الصحابة) من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما قد يكون من اختلاف بينهم في الفهم ودقّة الاستنباط، وهذا اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ، وذلك بالنسبة إلى أفراد مسائل من أفراد الصحابة، من غير أنّ يجتمع قوم منهم على مسائل تكون مذهباً لهم، يقابل مذهباً أو مذاهب لجماعات أُخر منهم.

وإذا أردنا تطبيق معايير حديثة في اعتماد الحكم على الأحاديث، أو تجديد كتابة التاريخ بقواعد ومناهج ومعايير وموازين غير التي اعتمدها أسلافنا – كما يزعم ويريد بعض الناس – فلا بدََّ من أنّ نقع في هوّة سحيقة تبعدنا عن الحقيقة، مادامت الأُصول التي ستكون محلّ البحث هي بعينها التي كانت – سابقاً – بين أيدي أسلافنا، ولا سبيل لأيّ زيادة في التوضيح والتصحيح، إلاّ إذا اعتصمنا بالوسائل الأصلية التي اعتمدها الأقدمون بالجملة، بعد دراسة الأُصول والقواعد.

ثمّ نأتي إلى أفراد الأخبار لنرى ما فيها من خلل – يصحّ لدى الاختبار أو لا يصح

ـ(374)ـ

أو اختلفت فيه الآراء – يتصادم مع تلك الأُصول المعتمدة أو مع المعايير القديمة، أو حتى الموازين الحديثة المخترعة المقترحة هذه الأيام.

علماً أنّني لا أقول هذا لأُضفي العصمة على ما بين أيدينا من كتب مثل الصحيحين: البخاري ومسلم، أو السنن الأربعة: لأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه – التي جاءت في ورقة البحث تحت اسم: الصحاح الستّة – أو سواها من المسانيد والسنن والمصنّفات والصحائف الكثيرة.

 

التسليم للمعايير السابقة:

إنّني أدعو جمعكم الكريم وفيه هذه النخبة من أهل العلم والجهاد والفضل إلى التسليم – بالجملة – للدراسات التي قامت عليها قواعد نقد الحديث عندنا، وكانت الكتب الستّة محلّ اختيارها، ومجلى اختبارها، وإبعاد أهل الأهواء والفتن عن إثارة ما لا فائدة منه.

وإذا لم يكن بُدّ من إعادة النظر في شيء منها فيقوم به المؤمنون بها؛ وهم بفضل الله كُثر بيننا – الآن – وبين أيديهم للمساعدة والمعاونة ممّا نشر وحُقّق وفُهرس من تراثنا العظيم ما يكفي ويغني ويمتع ويقنع... وفي صحوتنا ورجوعنا إلى ديننا ما يدفعنا إلى العمل بإخلاص.

 

كتب الأُصول الأربعة:

وقد أغضيت طرفي عن الكتب الأربعة المعتمدة عند أخواننا الشيعة – وهي: الكافي للعلامة محمّد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة (329 هـ)، ومن لا يحضره الفقيه للإمام محمّد بن بابويه القمّي المتوفى سنة (381 هـ)، والتهذيب والاستبصار كلاهما للشيخ

ـ(375)ـ

محمّد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (460 هـ) – التي ذُكِرَتْ في ورقة البحث، لأنّ لها منهجاً خاصاً يفترق عن مناهج الكتب الستّة في التلقّي، والتدوين، والعرض، والاستدلال، وعلى الأخص عند نهاية سند كلّ خبر إلى إمام في الكتب الأربعة أو إلى صحابي في الكتب الستّة لذلك رأيت أنّ يبحثها غيري فالدمج بينها يؤدّي إلى اضطراب في المعايير السابقة، والموازين المقترحة، فإذا جرى بحث كلّ مجموعة على حِدة، كان التطابق بين الكتب والمنهج على ما ارتضاه أصحابه من علماء أهل السنّة والجماعة، أو من إخواننا علماء الشيعة خاصّة.

 

الصحيحان:

وسأتجاوز التوسع في وصف صحيحي البخاري ومسلم، فإنّهما بلغا عندنا من الدقّة والالتزام بالمنهج الذي ارتضاه كلّ منهما لكتابه ما يجعل النقد لهما محاولة من العبث الذي نُكرِم مجلسنا عن الخوض فيه، وأُعلن توقّفي عن البحث فيه، كما أعجز هذا الأمر الكبار من قبل.

اللّهم إلاّ إذا كان البحث في حديث ما، أو راو معيّن، أو تصحيح وهم في لفظ، فإنّه محتمل ولا يتجاوز خطّ التقارب الذي نسعى إليه، ولا يكون بعيداً عن معايير الدقة القديمة أو المناهج الحديثة، إذا حسُنت النيّات، وأتقن البحث، وأُلقينا بعيداً الأُغلوطات التي يثير غبارها بعض أهل الادّعاء والتطاول والغرض بين الفينة والفينة.

واسم صحيح البخاري «الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسننه وأيامه».

وقد بلغت أحاديثه قرابة التسعة آلاف من المكرّرات والمتابعات، وأما المعلّقات منها (1341) فقد وصلها الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه الماتع «تغليق التعليق»،

ـ(376)ـ

كما أنّ عدداً من العلماء رتّبوا أحاديثه على أبواب الفقه (3450) باباً، وقد بلغت ثلاثيات صحيح البخاري (23) حديثاً.

وقام الشيخ الألباني باختصاره على طريقة مبتكرة، طبعنا منه الجزء الأول، وللصحيح شروح كثيرة أهمّها «فتح الباري» للحافظ ابن حجر رحمه الله.

وُلد الإمام البخاري سنة (194 هـ) وتوفي سنة (256 هـ).

هذا، وبلغت أحاديث صحيح مسلم (3033) حديثاً بترتيب فؤاد عبدالباقي رحمه الله ولبعض أهل العلم تحفّظات على طريقته في العدّ التي اتّبعها.

وقد اختصره عدد من العلماء ومنهم الحافظ المنذري، وقد طبعنا مختصره وفيه (2179) حديثاً، وله شروح متعدّدة، أكثرها تداولاً شرح الإمام النووي رحمه الله.

ولد الإمام مسلم بن الحجاج سنة (206 هـ) وتوفي سنة (261 هـ).

وقد جمع بين الصحيحين بعض العلماء؛ منهم: العلامة الجوزقي (388 هـ) والمحدِّث أبو مسعود الدمشقي (401 هـ) والحافظ البرقاني (425 هـ) والعلامة الحميدي (488 هـ) والمحدِّث عبيدالله بن الأصبهاني الحدّاد (517 هـ) ولعل أعظمها كتاب عبدالحق الاشبيلي (581 أو 582 هـ) – ويقوم أحد العلماء بتحقيقه في المكتب الإسلامي منذ سنوات، ولما ينته بعد – والحافظ أبو عبدالله محمّد الأنصاري (582 هـ).

ولأبي حفص عمر بن بدر الموصلي جمع لهما رتّبه على نسق «جامع الأُصول» للعلامة ابن الأثير، وقد يسّر الله لنا طبعه في مجلدين، وقد بلغت أحاديثهما فيه (2879) حديثاً.

 

كتب السنن الأربعة:

وأما كتب السنن الأربعة، فهي ليست عندنا من الصحاح على إطلاقها، وبذلك

ـ(377)ـ

نخفّف من التجاذب الذي قد يكون عند بعض الناس، وإنّما هي كتب جمعت الصحيح الكثير والضعيف القليل، حيث إنّ أصحابها لم يلتزموا الصحيح فيها التزام البخاريّ ومسلم في كتابيهما، وأحاديثها تساند وتستند إلى ما في البخاري ومسلم وكتب الحديث المعتمدة الأُخرى، كما أنّ فيها مساندة بعضها بعضاً، الأمر الذي سهّل على المؤلفين الذين جاؤوا من بعدهم فجمعوا بينها، وأفردوا زوائدها وزوائد الكتب الأخرى بما يبعث الاطمئنان في نفوس كلّ من تتبّعها علماء كانوا أو متعبّدين.

علماً بأنّ كتب السنن – عندنا – كثيرة، إلاّ أنّ كلامنا سينصبّ على السنن الأربعة: «أبي داود، الترمذي، النسائي، وابن ماجه».

وأصحاب هذه السنن الأربعة، وإن لم يدّعوا أنها صحاح فقد بذلوا في سبيل تقديمها أبلغ ما عندهم من الجهد الكبير، والعلم الغزير، والمعرفة المستمدّة من الممّارسة الصادقة، وجعلوا تقوى الله نصب أعينهم في كلّ كلمة ضمّنوها كتبهم، وأحاديث سننهم... ولو أرادوا الادّعاء بصحتها لما استطاع أحد ردّ دعواهم بسهولة، لأنّ في كتبهم ما يجعلها صحاحاً على التغليب – كما هو الغالب على كلام الناس – لكثرة ما فيها من الصحيح، وسوف نرى النسبة الكبيرة من الصحيح فيها عند الكلام على كلّ كتاب منها.

ولكن منعهم من ذلك أمورٌ هم أعرف بها، ولكنّنا نلمس منها أوّل ما نلمس تقوى الله وخشيته سبحانه، والتهيّب من أنّ يكون أحدهم قد أخطأ بكلمة في حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يعلم قوله:

«من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار»(1).

أو خوفاً من أنّ يكون ممّن لم يبلّغ ما سمعه من كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كما سمعه ووعاه، وقد رغب الرسول عليه الصلاة والسلام بنقل الحديث عنه بدقّة وأمانة وبألفاظه الشريفة

_______________________________________

1 - صحيح الجامع الصغير: 6519 – بترتيبي.

ـ(378)ـ

في أكثر من حديث ومنها:

نضر الله امرأً سمع منّا حديثاً، فحفظه حتى غيره يبلغه (1).

وممّا لا شكّ فيه فقد كان نصب أعينهم تجنّب مقالة السوء من الناس عنهم؛ فقد كان عندهم من الحياء ما يمنعهم من الوقوع فيما سقط به أعداء الإسلام من التهجّم على القرآن والحديث من غير دليل قديماً وحديثاً، وما نراه من بعض الناس في زماننا من الجرأة على الحقّ، ومنهم أُناس يُنسبون إلى أهل العلم، ويا للأسف.

وفي هذه السنن الأربعة وغيرها من كتب الحديث الشريف الكثير الكثير من الصحيح، بل المتواتر، إذا اتّخذنا الميزان الأسهل والأقرب للصواب في تعريف التواتر.

وأكثر ضعيفها قابل لأن يُجبر فيكون حسناً بل صحيحاً، وما كان ضعفه شديداً، فإنّه قليل وقليل جداً، وعلى المسلمين – كل المسلمين وبالأخصّ أهل العلم – الأخذ بهذه الكتب لأنّها المراجع المعتمدة قطعاً للأسباب الآتية:

1 - إنّها نقلت من رواتها ومدوّنيها إلى الصدر الأوّل من الصحابة بالسند الصحيح المتصل غالباً، وما لم يكن كذلك منه، استند إلى طرق أُخرى، أو اتُّفق على تركه.

2 - إنّ رواة هذه الكتب لم يكونوا من أهل الأهواء، ولا ممّن كان لهم في تفرقة المسلمين يد ولا سيف، ولا دواة، ولا قلم، ولا فعل ولا إشارة.

3 - إنّ أصحاب هذه الكتب الأربعة وباقي السنن والمسانيد والمصنّفات – مُذْ وجدت واعتمدها أهل السنّة – لم يكن عند من يقابلهم من الفرق الإسلامية الأخرى الرادّين لها – أو لبعضها – شيء من الأدلة المساندة لهذا الرد، ولم تقدّم ما يماثلها من الكتب المستندة إلى المنهج نفسه للكتب الأربعة وتنقل عن رواة من الفريقين.

وهذه الكتب كانت تروي عن أصحاب تلك الفرق على قدم المساواة مع من

_______________________________________

1 - صحيح الجامع الصغير: 6763 – بترتيبي.

ـ(379)ـ

تروي عنهم من أهل السنّة والجماعة، والكثرة والقلّة لم يكن سببها رفض أصحاب هذه الكتب النقل أو الرواية عنهم، وإنّما كان لابتعاد أهل تلك الفرق عن التحديث بما عندهم على الطريقة التي كانت متّبعة في الرواية والتدوين، أو أنّ الراوي كان أحياناً ممّن فقد الثقة المتمثلة بإخوانه الذين نقل عنهم من المذهب نفسه.

ولذلك نرى أنّ من ترك حديثه أمّا أنّه من الغلاة، أو ممّن رُمي بالفسق الظاهر، أو التكفير والكذب والحيدة، فلم يُقبل حديثه لهذه الأسباب، ويكون غالب هذا لنصرة مذهبه.. وأمّا إذا كان الحديث لا يتعلق بذلك... أُخذت روايته للاعتبار.

خدمة السنن الأربعة:

ولعلّ من أواخر ما قُدّم للناس خدمة للحديث هو تقسيمنا للسنن الأربعة بفصل ضعيفها عن صحيحها، وهو عمل متميّز نحمد الله عليه، وقد تولّى طبعه مكتب التربية العربي لدول الخليج.

وإنّ الذين جمعوا الحديث والسنّة في كتبنا كلّها لم يكونوا مؤمنين بعصمة أحد ممّن رووا عنهم، ولذلك عاملوا أحاديثهم معاملة دقيقة بملاحظة من يروي عنهم ويروون عنه، وفيما لو خالف الثقة من هو أوثق منه، وقد رجّح بعضهم جانب فقه الراوي فيما يتّصل بالأحكام الشرعية، مع عناية تامّة بنقد المتون حين معارضتها للأُصول الشرعية الكلية، فكان من نتيجة ذلك الحرص الشديد في التثبت.

وإنّنا حتى اليوم نقوم بعرض ما عندنا على معايير العلم والنقد ونقابل وندرس ونصحّح ونضعف، مع تقديرنا واحترامنا لجهود علمائنا في ذلك منذ أيام الحديث الأولى.

وفي عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبتوجيه وتعليم منه، وعندنا تعليمه للزبير أنّ يلتزم اللفظ عينه «ونبيّك الذي أرسلت»، وسيجيء بيان ذلك تفصيلاً.

فإذا أصبحت المذاهب بعد ذلك مدارس مغلقة على بعض، فلا يجوز أنّ يكون هذا

ـ(380)ـ

الإغلاق مانعاً لمن أغلقته، أو أغلقها على نفسه، من أنّ يعود ويأخذ بها، ولن يضرّه ذلك شيئاً، ولن يكون ذلك شيئاً – إنّ شاء الله – بل هو مفتقر إليها حتماً.

وإخواننا الذين انفردوا بالأخذ عن مجموعة واحدة، فإنّنا لا نتابعهم بهذا الانفراد، لأنّنا كنّا معهم شركاء في مرويّات تلك المجموعة عن سيّدنا علي عليه السلام مع مشاركتنا لهم في محبّة جميع الذين أحبّوهم، وانفرادنا عنهم بزيادة علم الذين تركوهم، بل ونشاركهم الحبّ والتأثّر على ما أصاب بعض تلك المجموعات والأفراد من ظلم ونكبات، وننفرد عنهم بالحزن والإنكار لباقي الظلم الذي أصاب الآخرين، والمظالم يأخذ بعضها برقاب بعض، ولهذا أثره في المرويّات قطعاً كما هو مشاهد.

واليوم إذا أردنا السعي لتوحيد المسلمين، فعلينا الأخذ من هذه الكتب، تاركين وراء ظهورنا الغلو بتكفير أو تضليل الذين نقلوا هذه الأحاديث – يعني هذا الدين – لأنّهم خالفونا في قضية أو عدّة قضايا، سواء كانت فرعية أم أصلية عند أصحابها، ولم يُسلّم لهم غيرهم بأنها من الأُصول.

 

الرواة من السنّة والشيعة:

وفي هذا التقديم لا بُدّ لي من أنّ أُبيّن أنّ قواعد أصحاب السنن الأربعة، وكذلك قواعد صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحاح كتب الحديث العامّة، كانت تقبل الرواية عن كل مسلم من أيّ مذهب، إذا كان ثقة صادقاً عدلاً، فلم يكن موضوع المذهب والتمذهب ذا أثر إلاّ في جزئيات قليلة ما أظنها أضاعت علينا أيّ حديث في تشريعنا أو تاريخنا ممّا نحتاج إليه.

وأما أحاديث الأحكام والعقائد فقد تكّفل الله بحفظها بقوله جل شأنه:

ـ(381)ـ

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(1).

ولذلك نجد في الصحيحين والسنن والمسانيد ما لا يحصى عدداً من الروايات عن آل البيت وشيعتهم متّبعين شروطاً تنطبق على جميع الرواة، ونرى في الكتب الستّة وغيرها من أُمّهات مصنّفات الحديث، عدداً لا بأس به من الآراء التي قد يظنّ من ليس لـه اطّلاع واسع بانفراد مذهب الشيعة بها – بعدما وجد التمايز بين المذهبين – مثل: «حيّ على خير العمل» في الأذان و«رفع اليدين عند كل رفع وخفض» و«أنّ القصر في الأسفار» و....

 

مؤلفات مصنّفات السنّة بعضهم نُسب إلى التشيع:

بل إنّ أكبر المصنّفات عند أهل السنّة تنسب لمن قيل عنهم: إنّهم شيعة، مثل: الإمام عبدالرزاق الصنعاني صاحب كتاب «المصنف»، والحاكم النيسابوري صاحب كتاب «المستدرك على الصحيحين»، ومحمّد بن إسحاق صاحب كتاب «السيرة» تلميذ الإمامين: محمّد الباقر، وجعفر الصادق عليهما السلام.

ولماذا نبعد ونفتّش في الأفراد وآحاد الرواة ونترك أصحاب السنن أنفسهم، فنرى أنّ منهم الإمام النسائي صاحب أكبر كتاب فيها موصوف بالتشيع، بل والعنف في المواقف، فيصل به الأمر أنّ يقال: إنّ موته كان قتلاً بين أشخاص من المذهب الآخر بحادثة مأساوية، وإن كانت الحادثة لم تصحّ عندنا، ولكن الدلائل على تشيّعه – بمعنى الانتصار لمواقف سيّدنا علي وتخطئة مخالفيه – معروفة عند علماء ذلك الزمن ومن جاء بعدهم، والنسبة للتشيّع أيامهم لم تكن قدحاً ولا ذمّاً.

ونجد عند الترمذي مخالفة اصطلاح عند ذكر سيّدنا علي بن أبي طالب عليه السلام، إلى حتى لبعض التابعين من أتباعه، فضلاً عمّا في اختيار نصوص الروايات ما يلحق

_______________________________________

1 - سورة الحجر: 9.

ـ(382)ـ

صاحبه بالتشيّع، وظنّي إنّ عدم ذكر مؤرّخي الشيعة لترجمته ضمن أعلامهم راجع إلى تمسّك أسلافنا من أهل السنّة به وبكتابه والثناء عليه، وتوهّم الرشد في ذلك! والإمام ابن ماجه داخل ضمن هذا الإطار مع الإمامين الترمذي والنسائي.

ومن الطريف أنّ نذكر هنا أنّ أصحاب السنن الأربعة كلّهم من بلاد فارس، والأفغان، وما وراء النهر! وكذلك غيرهم من أهل الحديث.

وأما أبو داود صاحب أول كتاب في السنن، فإنّه تلميذ الإمام المبجّل أحمد بن محمّد بن حنبل، وعند أحمد من المواقف المؤيّدة للقواعد الكلية الموجودة في أُصول الفقه الشيعي أوائل أمره الشيء الكثير، وذلك قبل ظهور التعصّب لكلّ مذهب.

وأما الرواة والروايات في السنن الأربعة عن سيّدنا علي وأصحابه – وحزبه إنّ كان لـه حزب غيرنا – فلا سبيل لحصرها ولو حرصنا، فلجميع أهل العلم والأخبار من الذين قاتلوا مع عليّ عليه السلام أحاديث في كتب السنن، ولن نسمح لأحد بالانفراد بعليّ وآله عنّا، للولاية التي نُقرّ أصلها لجميع المؤمنين.

 

محاولات تهديم السنّة:

ولمّا كانت السنّة في المكان السامي من شرع الله ودينه، مع القرآن الكريم كلام الله جلّ وعلا، وكان التمسّك بها هو العاصم من الضلال والهلاك. و(رواية «أهل بيتي» تدخل في السنّة والحديث في نهاية الأمر).

لذلك استهدفها المشكّكون بهذا الدين، الطاعنون في شريعة الإسلام قديماً وحديثاً، وكان للمستشرقين وأتباعهم الباع الطويل، والدور البارز، والجهد الواسع، والدأب المتواصل(1). _______________________________________

1 - من أمثال الشيخ محمود أبي رية صاحب كتاب «أضواء على السنّة المحمّدية». وهذه الأيام ظهرت نبتة جديدة هي نصر حامد أبو زيد يحمل ما عند الماضين والحاضرين!

وقضيّة نصر حامد أبي زيد هذه لا تعدو في أصلها أنّ مدرساً تقدم ببحث عن أُصول الفقه عند الإمام الشافعي - زعم أنّه علمي – ليرتقي به في سُلّم الرتب الجامعية.

وقامت لجنة من الأساتذة في تلك الكلية بدراسة البحث، كما هي العادة المتّبعة، وتبيّن لها أنّ البحث المقدّم أقلّ من أنّ يكون بحثاً علمياً ينال به مقدّمه الترفيع إلى الدرجة التي يريد، ووجدت في البحث التهجم السفيه على القرآن الكريم والسنّة النبوية، وتاريخ الصدر الأول، والدعوة إلى معاملة القرآن على أنّه أثر أدبي مثل الشعر الجاهلي وأساطير الأولين. وكان قرار الجامعة عدم ترفيع هذا المتهجم غير أنّ أبا زيد هذا أخذ تقرير اللجنة وأشاعه في الناس على أنّه عدوان على حرية الفكر - ولو قال: «الكفر» لكان أصدق!.

وناصره اخرون فرُفع الأمر للقضاء فحكم بردّته، وقامت قيامة الكفر والإلحاد، وانتصر لـه المهوشون ممن لم يطلعوا على قوله، وبعضهم لو اطلعوا ما فهموا مراده لجهلهم في الموضوع. وجعلوا منه «طه حسين» جديداً و«سلمان رشدي شهيداً! والله غالب على أمره.

وقد رافق كلّ ذلك الدسّ في أُصولنا ومصادرنا لتضليل الناس وإبعادهم عن مقوّمات حياتهم وإقامة قواعد دينهم وتأمين سعادتهم في دنياهم وآخرتهم:

ـ(383)ـ

ردّ العدوان:

وقد قام أهل الإسلام بردّ العادية عن دينهم وحماية سنّة نبيّهم صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم من حين قيام تلك الهجمات من المعتدين، حتى يومنا هذا؛ باذلين جهوداً كثيرة من أجل بيان غلطهم وردّهم للصواب بالحجج الواضحة، وكان للحقِّ- دائماً – النصر والحمد لله.

فكلما قام هادم ومخرّب هيّأ الله لهذا الدين من يبني ويُعمِّرُ ويسدّ الثغرة ويرفع البناء وكان كلّ ذلك بفضل الله – بالعلم الصحيح، وبتطبيق القواعد الراسخة واستخراج الردود المفحمة في المجالس والكتب والرسائل، وبالخدمة المتتابعة لموسوعات الحديث الشريف وكتب الفقه – السنّي والشيعيّ والزيديّ – التي بنيت على تلك الأُصول، فكان عندنا ثروة فقهية كبيرة لم يجد العالم قديمه وحديثه مثيلاً لها.

ـ(384)ـ

ومعركة الإسلام هذه لن تنتهي مادام في الدنيا خير متمثّل بالمؤمنين، وشرّ متلبّس بالكافرين والمرتدّين والمنافقين.

وكما كان الأمر سابقاً، نجد في حاضرنا من تأثّر بهم من أبنائنا عن جهل، فردّدوا أقوالهم وتلمّسوا لذلك شبهات بعض أهل الأهواء والضلال؛ ونحن إذ نردّ عليهم نسأل الله تعالى أنّ يلهمهم العودة إلى الحقّ، فرجوعهم يُفرحنا ويشرح صدورنا، لأنّنا نحبّ لهم الخير كما نحبّه لأنفسنا.

ولولا الجهل عند بعض أبنائنا لما انخدعوا بأُولئك الذين شكّكوهم بأُصولهم، بما سهّلوا لهم من طرائق العلم، وبعض النفع المادّي فقلّدوهم في نقد كتبنا... واليوم وقد هيّأ الله لنا تيسير طرائقنا ومناهجنا، وأمدنا بوسائل مادّية وتقنية لم تكن متاحة لنا من قبل، كما امتنّ علينا بابتعاد الكثير من علمائنا عن التعصّب الذميم، والتقليد الأعمى، فلا عذر لأحد الآن من الاستمرار على ما كان عليه من التبعية، مع أنّ ما قدم الغرب لنا عبر أبنائنا فإنه مسروق منّا بإضافة السمّ إلى الدسم، ويكفي أنّ نذكر اسم ذاك اليهودي الحاقد (كولد تسهير) لنعرف مقدار تأثيره على العدد الكبير من الدارسين الذين نرى ونلمس في كتاباتهم مدى ذلك التأثر.

وأن ما زعمه هؤلاء من استخدام (معايير النقد العلمي) فإنّه ادعاء كاذب ما دعاهم إليه إلا العقيدة المسبقة وما في نفوسهم من حقد دفين لمحاربة ما عندنا وصولاً إلى أغراضهم للقضاء على هذا الدين.

وإنّني على يقين بأنّ مجتمعنا – هذه الأيام – بعيد عن الانسياق وراء تلك الدعوات، وليس غافلاً عن أغراضها وأبعادها ومراميها بعد أنّ أظهرت أميركا والغرب والشرق الكافر – مجتمعين ومتفرّقين – العداوة والبغضاء لكلّ مسلم ومستضعف، وأمامنا مواقفهم من القضية الفلسطينية، والجزائر، وتونس، والبوسنة، والهرسك، والشيشان وكل

ـ(385)ـ

مجاهد وجهاد في أيّ مكان.

 

عود إلى جديد العناية بكتب السنن:

وقد خدمت كتب السنن الأربعة منذ اليوم الأول لوجودها، حتى يومنا هذا خدمات لا تُحصى، فتجد المؤلفات بزوائدها، والزوائد عليها، وشروحها المطوّلة والمختصرة، وتلقّيها بالروايات المتّصلة المسندة وهي عمدة الإجازات الحديثة حتى يومنا هذا، وكذلك حفظ نسخها المخطوطة، وأخيراً العناية بطباعتها، وفهرستها وشروحها.

 

صحاح السُّنن الأربعة باختصار السند:

ولعلّ من أواخر ما قدّم للناس من خدمة للسنن الأربعة هو تقسيمنا لها بفصل ضعيفها عن صحيحها، في عمل متميّز نحمد الله عليه.

وإليكم عرضاً موجزاً لكلّ كتاب منها:

سنن الإمام أبي داود:

لقد جمع أبو داود هذه السنن مقتصراً في كلّ باب على حديث أو حديثين، وأصبح كتابه الثالث بعد صحيحي البخاري ومسلم عند العلماء لمحسّنات وجدوها فيه، فاستحقّ التقديم على باقي السنن الثلاثة، والكثير من كتب الحديث.

مع أنّ سننه كانت الأكثر في الأحاديث الضعيفة بتقسيم الشيخ ناصر الألباني، فإنّ أحاديث سننه الصحيحة (5273) وكانت ضعافها (1127) وهي تعادل (35 ر 21 % ) وضعافه أكثرها من الحديث الحسن على طريقة الإمام أحمد بن حنبل.

أبو داود ذكر في رسالته إلى أهل مكة، وفيما نقل عنه في غيرها، أنّه قد يوجد في

ـ(386)ـ

كتابه أحاديث فيها وهن – ولكنه بيّن ذلك – وأنّه لم يورد فيه أيّ حديث عمّن أجمع على أنّه متروك الحديث.

وفي رسالته لفتات كريمة منه تدلّ على أمانته وتواضعه مثل قوله: «فربّما تركت الحديث إذا لم أفقههُ، وربّما كتبته وبيّنته».

وقال إنّ كتاب سننه هذا اقتصر فيه على أحاديث الأحكام، تاركاً أحاديث الزهد وفضائل الأعمال(1).

وقال أبو داود ما ملخّصه:

«ألّفته نسقاً على ما وقع عندي ]و[ لم أكتب في الباب إلاّ حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح».

وقال: «وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنّما هو من زيادة كلام فيه».

وقال: «وربّما اختصرت الحديث الطويل لأنّي لو كتبته لم يعلم موضع الفقه منه».

وقال في غير رسالته:

«ما ذكرت في كتابي حديثاً اجتمع الناس على تركه»(2).

وقال:«وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بيّنته، ومنه ما لا يصحّ سنده».

ولي هنا ملحوظة أذكرها لأستخلص منها أنّ رسالته إلى أهل مكة كانت قبل أنّ يتمّ كتابه بشكل نهائي – وصل إلينا – فقد ذكر فيها أنّ أحاديث كتابه هي (4800) حديث وكلّها في الأحكام، وهي في ترتيبي بطبعتنا (5273) حديثاً، والتكرار والتقسيم

_______________________________________

1 - انظر رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه، تحقيق العلامة الدكتور محمّد بن لطفي الصباغ.

2 - دراسة الشيخ الصباغ لسنن أبي داود: 286.

ـ(387)ـ

لا يحتمل هذا إنّ لم يكن من المؤلف زيادة في كتابه بعد رسالته.

سنن الإمام الترمذي:

فالأمر فيه أوضح، لأنّ الإمام الترمذي مشهور معروف بالتساهل في التصحيح، وما أدخل فيها من إشارات إلى روايات أخرى لأحاديث لم يروها في سننه. وما أضاف إليها من فقه الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم.

ومع ذلك فإنّ ضعاف سننه كانت (833) مع أنّ أحاديثها وأحاديث الملحق وشفاء العلل كانت (430) حديثاً، ومع ما عرف عن الشيخ الألباني من تشدّد فقد رفع عدداً من أحاديثها إلى أعلى من درجتها عند من سبقه من العلماء، عندما اقتصر على المتن فقط في بحثه وعمله – تنفيذاً للمطلوب منه – باعتماد طرق تلك الأحاديث في السنن الأُخرى.

فكانت النسبة للأحاديث الضعيفة هي (25 ر19 %)، وفي كتابه حديث واحد من الأحاديث الثلاثية.

ولا يخفى على أحد من أهل العلم أنّ الحديث قد يُلحق بالضعيف لأدنى علّة في السند، كتغيير راو بغيره، أو ما يعتري الراوي من حذف أو سهو، أو تغيّر في حفظه، أو تبدّل زمن الرواية عنه... أو ما يُصيب المتن من تبديل لفظة بغيرها سهواً، أو لشبهة تصيب أغلب الناس، إنّ لم أقل كلّهم، أو لتغيّر اجتهاد العالم مع الزمن.

والإمام الترمذي كان يعقب كلّ حديث ببيان درجته عنده، ولذلك نرى فيه – مع التصحيح والتحسين – أحاديث لم يرفعها عن درجة الضعف أو النكارة؛ فمن كان هذا عمله في كتابه فلا يصحُّ تجاوز فعله وتسمية كتابه بـ«صحيح سنن الترمذي».

ـ(388)ـ

سنن الإمام النسائي:

يظهر لنا أنّ الإمام أحمد شعيب النسائي رحمه الله المتوفّى سنة (303 هـ) ألّف كتابه السنن على ثلاث دفعات. هي على النحو الآتي:

1 - السنن الكبرى، وقد طبع مؤخراً.

2 - المجتبى، النسخة المهذّبة المختصرة التي اختارها من سننه الكبرى، أوّل الأمر.

3 - المجتبى، أو النسخة المهذّبة، وهذا الثالث هو أحد كتب السنن الأربعة، وثالها في الترتيب حسب ما اصطلح عليه العلماء.

والمجتبى رواه عن الإمام النسائي الإمام ابن السُنّي، وقولهم هذا لا يصحّ بوجه من الوجوه، وإن تابعهم عليه بعض الدخلاء على العلم والنشر.

وهذا القسم المجتبى هو أقلُّ الأحاديث ضعفاً من السنن الأربعة، لقيام مؤلفة بالمراجعة والعرض على مشايخه، وقد بلغ عدد أحاديثه في طبعتنا (5743) وكانت الأحاديث الضعاف منها (447) فقط، ونسبته (75 ر 7 % ).

ولو أنّ الشيخ الألباني تأنّى لقلّ هذا العدد الضعيف، حسب قواعد المصطلح الذي جرى عليه من قبل؛ كتب الله لنا وله الحفظ والسداد، وألهمنا وإياه الخير والرشاد.

ويحقُّ لنا هنا أنّ نؤكد مكررين ما قاله أهل العلم منّا بأننا مع كلّ تطبيق صحيح صادق للمعايير العلمية بالنظر في كلّ حديث من أحاديث السنن الأربعة، بل وفي غيرها من كتب الحديث على أن نضع نصب أعيننا أنّ ما نصل إليه هو في غالبه تأكيد لدقّة علمائنا وحسن صنيعهم في تقديم أحسن ما عندهم وما وصلت إليه أيديهم من خدمة دين الله بحفظ حديث رسول الله الذي هو أحد الوَحيين العاصمين من الضلال.

ـ(389 )ـ

سنن الإمام ابن ماجه:

وكتابه هو الرابع في ترتيب أكثر العلماء لكتب السنن، وإن كان بعضهم قدّم عليه «سنن الإمام الدارمي» الذي فيه (22) حديثاً ثلاثياً، وله ميزات واضحة.

وقد بلغت أحاديثه في ترتيبي (4336)، وبلغ عدد الأحاديث التي ضعّفها الشيخ الألباني (947) ونسبتها (85 ر21 %).

وقد اهتمّ بهذا الكتاب العلماء فقاموا بخدمته شرحاً وتحقيقاً وترجمة لرجاله خاصّة، الأمر الذي جعله مع باقي السنن مقبولاً معتمداً، وأصلاً من أُصول السنّة، والمتروك من أحاديثه قليل، مع أنّها ممّا نصّ العلماء على ضعفها أو تركها، أو العدول عنها إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة، وفي كتابه خمسة وعشرون حديثاً ثلاثياً.

وقد نُسب إلى ابن ماجه الكثير من الأحاديث التي فيها ما يخرج عن الجادّة؛ ولدى قيامنا بتحقيق الكتاب ومراجعة أُصوله المخطوطة تبيّن عدم صحّة ما كان يُشاع ويُنسب لابن ماجه، ومنها على سبيل المثال:

«اسألوا الله بجاهي فإنّ جاهي عند الله عظيم»، وحديث: «أوّل ما خلق الله نور نبيّك يا جابر» وغيرهما. وقد نزّه ابنُ ماجه عنها كتابَه.

إنّ عدد أحاديث السنن الأربعة بلغ (19673) وفيها – طبعاً – المكرّر الكثير، الذي ورد في جميعها، أو في بعضها، وقد بلغ عدد الضعاف فيها (3354) وهي نسبة تعادل (17 %) مع أنّ المخرج قد رفع عدداً كبيراً من أحاديثها إلى رتبة الصحّة أو التحسين، عندما اتّبع طريقة اعتبار المتن بطرقه المتعددة المختلفة في باقي السنن أو في الصحيحين، وهذا من فضل الله علينا بترك التقليد والاستمرار في التتبّع والنقد، وإلاّ لبقي الحكم على تلك الأحاديث بالضعف.

وبهذه المناسبة أقول بأنّ الأحاديث الموضوعة لا تقوم بها حجّة في العقيدة والفقه

ـ(390)ـ

ونظام الحياة، وان ظنّ – وادّعى – بعض الناس أنّ فيها تعظيماً لشعائر الدين، ولعل أغلب من زَيَّنَ هذا للناس مخادعون لا يريدون سلامة التوحيد من لوثات الوثنية والشرك والجهل.

والواجب على من علم شيئاً منها أنّ يبيّنه للناس بكلّ وسيلة يستطيعها، ولا يجوز أنّ يُنسب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ ما صحّ عنه.

وهذا البيان من أعظم أمور الدعوة إلى الله سبحانه، وأشرف ما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا مع العلم بأن الشيخ الألباني وأنا في إشرافي وعملي في هذه الكتب الأربعة لم نعمل إلاّ في المعايير التي كان عليها أسلافنا رحمهم الله، وهي معايير علمية قطعاً، ولم يحتج الأمر منّا إلى موازين ومعايير جديدة اخترعها من لا يوثق بعلمه، أو يُطمأَنُّ لغرضه.

 

طريقة الدراسة:

وإن قام أيضاً إخواننا من أهل العلم الشيعة بدراسات حول الكتب الأربعة يكون حسناً وفي محلّ التقدير، ولا بُدَّ أنّ يكون ذلك مثل دراسات علماء الحديث من أهل السنّة بعيدة عن الانخراط في مسيرة المستشرقين وأتباعهم الذين لا فارق عندهم بين أُصول أهل السنّة والجماعة، وأُصول الشيعة، بل قصدهم القضاء على الجميع.

وإنّني أُصرّح أمامكم بأنّ الأفضل لنا جميعاً أنّ يتولّى فريق من كل مذهب دراسة الأُصول التي يؤمن هو بها كليّاً أو جزئيّاً، ويقدّم تلك الدراسات إلى علماء مذهبه، أوّلا لتأخذ تلك الدراسات مستنداً يحميها من الاهتزاز والاضطراب، وهذا لا يكون إلاّ بعد مراجعة أهل العلم والمعرفة والوعي الراسخ، ممّن عركتهم التجارب.

وبعد ذلك تؤلّف لجنة تضمّ علماء المذاهب الأُخرى لتعرض عليها تلك الدراسات

ـ(391)ـ

وما فيها من نقد، وبعد البحث والمقارنة تقدم إلى أهل العلم والاختصاص لتكون من مراجعهم، وتعرض بعد ذلك على الناس؛ وتكون للناس كافّة، لأنّ دين الله وعلوم القرآن وبحوث السنّة المشرّفة والفقه المستمدّ منهما هو لنفع الخلق كُلِّ الخلق.

وأما الذي يجري - الآن -  وما كان يجري قبل الآن ، من أخذ نُتَف من أدلة كلّ مذهب ومصادره وتجريدها من سياقها وعرضها مع شيء من التقديم والتعليق والبهرجة والتزيين وإثارة عواطف الذين لا علم عندهم في هذا الأمر أصلاً، فإنّه لا يؤدّي إلى نقد علمي، ولا إلى إقناع فكري، وما هو إلاّ التهويل والتهوين لأمر الله، ممّا يبعدنا عن الوحدة التي ندعي أنّنا نسعى إليها.

 

الحديث ومصطلحاته:

وإذا نظرنا إلى هذه الأُلوف المؤلفة من كتب الحديث ومصطلحه وشروحه، نجد أنّها تحقّقت من كلّ كلمة في الحديث، وحكمت عليه بما يناسبه من التواتر، أو الشهرة، أو الآحاد، وما هو عليه من الصحّة، أو الحسن أو الضعف أو الوضع، وفق قواعد ثابتة وموازين علميّة دقيقة؛ فكان منهم الاتفاق في الحكم على أكثر الأحاديث، وكان بينهم خلاف حول جزئيّات أو كلمات أو حروف في عدد قليل نسبياً من الأحاديث، وأما التباين الكلي، فإنّه قليل جدّاً قطعاً.

ولذلك فإنّنا إذا جئنا اليوم لنعيد النظر في الأحاديث على معايير جديدة، فلن نصل إلى غير ما وصل إليه أسلافنا بالجملة إذا كنّا متقنين، وهل باستطاعتنا - اليوم - أنّ نتحلّى بما كان عند أسلافنا، أو نتخلّى عمّا ترسّب فينا من عكر الأيام والأزمان؟!

وما أظنُّ أنّني بحاجة إلى أنّ أسرد عليكم ما في تلك الكتب من القواعد

ـ(392)ـ

والمصطلحات التي اعتمدوها في الوصول إلى تحقيق كلّ كلمة من كتب الحديث والسنّة، وقد تكلّموا حول جميع الأحاديث – أو التي قيل: إنّها أحاديث – ولو كانت في الكتب غير المعتمدة، مثل كتب الأدب، والمغازي، والرقائق وما إليها.

واليوم أصبح العالم يستطيع معرفة الحديث بمجرّد معرفة الكتاب الذي ذكر فيه، مع أنّ علماءنا تساهلوا في تتبّع ما في هذه الكتب، إيماناً منهم بأنّ مجرّد روايتها منسوبة إلى تلك الكتب يظهر أنّها ليست من حديث من أُوتي جوامع الكلم، وأحسن البيان، وأجمل القول وأبلغه، وأقام الدين وبلَّغه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ومع ذلك نجد عند من يتطلّع إلى تجديد كتابة التاريخ الفكرة المخترعة من المستشرقين، والنابتة من اتباعهم، بحجّة أن يعرف ماذا في التاريخ على طريقته! ووجدنا من يدعو إلى دراسة جديدة للقرآن الكريم، تكون ناسفة لجذور قواعد التلاوة، وأُصول التفسير، وصولاً إلى تعطيل الأحكام الشرعية بحجة الزمان والمكان، وتغيّر الأحوال!

وما ذلك إلاّ مكابرة بالمحسوس الملموس، وإصرار على ما هم فيه من خبث مسوس! ولله در القائل:

لقد هُزِلَت حتى بدا من هُزالِها $$$ كلاها وحتى سامها كلُّ مُفلس

وسبق أنّ أشرت إلى كتب الحديث المعتمدة وفي مقدّمتها صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، وموطّأ مالك، وباقي الصحاح مثل صحيح ابن خزيمة، والمسانيد، مثل مسند أحمد، والمصنفات مثل مصنفي ابن أبي شيبة، وعبدالرزاق الصنعاني، حيث لا يوجد فيها حديث إلاّ وصدرت في حقّه أحكام للعلماء وأغلبها متوافقة، والمختلف فيه قليل، وتحتمل الخلاف فيه طبائع البشر، واختلاف طرائق الأخذ، وتنوّع مناهج البحث!

وهذه خصيصة اختص الله هذه الأُمّة الإسلامية بها، فلم ينلها كتاب منزل أو

ـ(393)ـ

حديث أيّ نبيّ أو رسول من قبل نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان هذا الدين محفوظاً، مصاناً بتعهد من الله جلّ شأنه بقوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(1).

وقد شمل هذا الحفظ السنّة فوصلتنا كلّ تفاصيل أحواله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقواله، وطعامه وشرابه ويقظته ومنامه، وكأنّه لم يُترك شيء ممّا صدر عنه إلا حفظ وسُجّل بما أُلهم الحفاظ من طرائق الرواية، وتطبيق أدقّ مناهج علم النقل والدراية، الأمر الذي لم تعرفه أُمّة قبلنا، فليس ثمة فراغ زمني أو انقطاعٌ ما بين الحادثة وتدوين السنّة، ولم نجد أحداً ضبط الحادثة بأكثر ممّا في الكتب الستّة، أو ما كان عوناً لها من الكتب المساعدة الأخرى.

وهذه الكتب المساعدة قد تجاوزت الأُلوف، ما بين صغير وكبير وصحائف انصبَّ ما فيها من علم وتحقيق في هذه الكتب المعتمدة، فكانت هذه الكتب وتلك هي البرهان الساطع، والدليل القاطع على أنّها بلغت الذروة في الحفاظ على سُنّة وحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وإنّ كلّ تبديل أو تحريف أو تغيير أو شكّ أصبح مُلقىً وراء ظهورنا، لا ينقله إلاّ مغرض هالك ولا يستند إليه إلاّ مفسد من دُعاة الفتن والتفلت، وعلى الأخص طوائف المستشرقين والمستغربين الذين لا همّ لهم إلا محاولة هدم الإسلام، والتهجّم على القرآن حيناً بالتحريف والتأويل الباطل، وحيناً بدعوى عدم صلاحية أحكامه للتطبيق في كلّ زمان ومكان، ومن أتباعهم من ينفي أنّ يكون في القرآن أحكام وتشريعات أصلاً، وهذه هي نوابت الكفر، وثوابت الضلال.

وكذلك التهجّم على السنّة المطهّرة حيناً بالتشكيك في وصولها الينا صحيحةً، وحيناً بالدسّ فيها، وحيناً بالطعن برواتها من الصحابة ومن تبعهم، إلى الادّعاء بأن السنّة لم تدوّن إلا بعد القرن الثالث إلى غير ذلك من الادّعاءات.

_______________________________________

1 - سورة الحجر: 9.

ـ(394)ـ

وقد تولّى ردّ كلّ هذه المزاعم علماء كلّ زمن حتى يومنا هذا؛ فكلّما تقوم الشكوك تأتي الردود الدامغة، كما في السابق من الذين حفظوا علم السنّة.

العناية بنقد المتن:

وأما زعم هؤلاء الأعداء وأتباعهم، بأنّ النقد الداخلي للمتن ما جاء إلاّ في زمن عبقريّتهم فأمر يردّه الواقع، عند كلّ من يتتبّع كتب الحديث.

والحقُّ الذي يراه كلّ منصف أنّ علماء الحديث وجهوا العناية اللازمة للنقد الخارجي للحديث، وبلغوا الغاية القصوى في النقد الداخلي لـه، إذ إنّهم ساروا في الطريقين معاً لأنّ أحدهما لا ينفصل عن الثاني، كما يعرف بالمدارسة والممّارسة.

وليس بعيداً أنّ نقول: إنّ المتن في أغلب الأحيان كان هو الذي حرَّض على مراجعة السند للتأكد من صحة الحديث، وإنّ أحاديث الأجر الكبير على العمل الصغير كانت الدافع لمزيد البحث في سندها، إذ إنّ غرابة المتن كانت الكاشف عن علّة السند، وكذلك الكثير من أحاديث الفضائل، والأطعمة، والمغيّبات.

ومثلها مخالفة متن الحديث للواقع والمشاهد من أحوال الناس، وأمثلة ذلك كثيرة، والمتتبّع يجد أنّ الصحيح منها لـه تخريج حسن يبعده عن مقاصد أعداء السنّة وسوء فهمهم، وأما غيرُ الصحيح منها فقد تولّى جهابذة هذا العلم ردّه من غير تردّد، وعندما لا يثبت فلا حاجة للتعليل. وهذه كتب الأحاديث الموضوعة على الخزائن تحت أيدي أهل العلم تنفي عن الحديث الدخيل والمكذوب.

وكان تقسيم الأحاديث من المتواتر والصحيح، إلى الضعيف والموضوع يعتمد في نظرهم على ما في السند والمتن، وإذا اقتصر بعضهم على السند فقط يكون ذلك عنده لسبب اصطلاحي خاص به، ولكن حاجته إلى صحّة هذا المتن كانت تدفعه إلى الرجوع

ـ(395)ـ

لرواة الأسانيد الأخرى وينصرف بالكلّية إلى سنده ولا يتعرّض لمتنه، لأنّ متنه ثابت عنده.

ونقد المتن كان أول ما التفت نظر الصحابة إليه، فإنّهم عندما اعترضوا على بعض الأحاديث كان اعتراضهم على متونها، ولم يكن فاشياً عندهم وبينهم الكذب، وما اعترض على أحد منهم بذلك على التحقيق وإنّما اعتُرِض على ما قد يُصاب به أحدهم من نسيان أو وهم.

فقد ورد عن عمر أنّه ردَّ حديث فاطمة بنت قيس، وورد عن علي عليه السلام ردّه لحديث من مات عنها زوجها. وهذا الفعل منهما نقد لمتن الحديثين، وما كان ردّهما لكذب الراوي، وإنّما لمخالفة حكم أو عمل معروف عندهما.

 

تدوين الحديث:

وإذا أردنا سرد الأدوار التي مرَّ بها تدوين الحديث لطال بنا الأمر، ولكن ممّا لا شك فيه أنّ التدوين بدأ في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تقدم، ثمّ في عهد الصحابة من بعده، وما كاد القرن الثاني ينقضي حتى كان التدوين قد جمع أغلب الحديث في الكتب والصحف المفردة، يرافق ذلك اتقان الحفظ والرواية على قواعد مقررة.

والذي كان في القرن الثالث هو تجميع الحديث بأنواع مفردة على أبواب الفقه؛ مثل موطأ الإمام مالك، والمسندات للصحابة والمصنفات؛ كل على نمط ومنهج وأسلوب خاص به.

وبعد ذلك استمر العمل في التوسع بالتقسيم والتجميع والشرح، مع مراعاة القواعد التي كانت تزداد تأصيلاً كلما أحسّ أهل العلم بالحاجة إليها، لضبط علوم السنّة والحديث وردّ الدسّ والدخيل، وهذا مستمرّ حتى يومنا هذا.

ـ(396)ـ

علوم الحديث:

والمتتبع للجهود العلمية المبذولة في سبيل معرفة الحديث ودرجاته يجد أنّ علوم الحديث تشعّبت حتى كانت أنواعاً كثيرة قارب عددها المائة نوع، وكلّ نوع تفرّعت عنه شعب متعددة، حتى شملت كل ما يخطر على البال من بحوث يحتاج إليها الراغب في معرفة هذه الأحاديث، وقد جمعت ذلك كتب كثيرة متعددة كبيرة وصغيرة يتعذّر حصرها، وأضيف إليها في مختلف كتب الأصول والشروح ما لا يحصى من العلوم.

وإنّنا إذا راجعنا الكتب المخرجة على الصحيحين نرى أنّ أكثر أحاديث السنن الأربعة قد جُبر ما فيها من خلل، لوجودها في الصحيحين، أو في الكتب المخرجة على غير الصحيحين، وهي كتب كثيرة جدّاً، وفيها من الدقة والنفع ما يفوق حدّ الوصف.

وإذا زدنا على ذلك الكتب التي وضعت للصحيح من الحديث في رأي أصحابها – وإن كان فيها بعض الضعيف برأي غيرهم – مثلُ: صحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، ومختارة الضياء المقدسي وغيرها، لوجدنا أنّ أحاديث البخاري ومسلم مقطوع بصحتها، وتلقّي الأُمّة لهما بالقبول جعل أحاديثهما في الدرجة العليا، بعد استدراك ما كان في حكم الوهم والغلط المحتمل وبيانه، وهو في البخاري ومسلم، بأحرف يسيرة نصّ عليها العلماء بما لا مجال لردّه.

وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا الاتفاق عليهما من الإجماع، وأنّ الأُمّة معصومة من الخطأ.

وهذا الرأي بالإجماع محلّ اعتبار عندما يقابل وما بذل من جهود الذين أرادوا الانتقاص من قدرهما، والتوسّط هو ما عليه أكثر المحقّقين من المحدّثين: أنّ أحاديث البخاري ومسلم وصحاح السنن الأربعة كلها تفيد العلم والعمل.

ـ(397)ـ

وكلّ علوم الحديث نافعة دقيقة، وإذا وجد بعض الخلاف في النتائج بين عالم وآخر، فهو من طبيعة الأشياء. وأبرز ما نجد هذا عندنا في علم الجرح والتعديل، وإن كان اعتماد رجاله على النقول، فإنّ لهم فيه من الاجتهاد، وملكة التحليل، وتنوّع الذوق الخاصّ بكل ناقد، العذر بالتسليم لـه، والاجتهاد لا يردّ بمثله، ولكنهم كانوا أُمناء في نقل الأقوال من الجرح والتعديل مبيّنين لذلك، تاركين لمن بعدهم المشاركة في الحكم، أو المخالفة، وربّ جرح لا يكون جرحاً، أو تعديل لا يثبت، ولا يعتمد عقلاً ولا نقلاً، وهذا منهم الغاية في الإنصاف.

 

الصحابة الكرام وروايات الأحاديث:

وأمّا من استشكل عدالة الصحابة، فإنّه مطالب بإثبات الأحاديث التي كذب الصحابة في روايتها، وإنّ هذه الأحاديث في الكتب الستّة هي محلّ التسليم ولم يعترض عليها جهابذة العلماء.

بل إنّ جميع الأحاديث التي كانت محلّ اعتراض، قد أُجيب عنها واستبان حالها ودخل الصحيح منها في الجادة، ونُبذَ ضعيفها، أو وُضّح ما أُسيء فهمه.

مع أنّ الذي اعتمد ترك روايات الصحابة وقع في مثل اعترض عليه، سواء فيمن روى مباشرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو مع الروايات التي جاءته بعد زمن طال أو قصر وتفرّق الناس في البلاد الشاسعة، وزيادة عدد الرواة وما داخل الناس من الخوف وأنواع الاضطرابات والعوامل الصارفة عن التيقن، وتفشّي ضعف النفوس والإيمان، وأكثر ذلك لم يكن معروفاً زمن الصحابة.

وإنّ موضوع الصحابة – من هم، وما عددهم، ورواياتهم، ومحبتهم، ومناقشة أعمالهم، ونقدهم، ومن هو أولهم إسلاماً، ومن هو آخرهم وفاةً، ومن هو الأفضل، أو

ـ(398)ـ

الأعلم، أو الأشجع، أو الأكرم، أو الأتقى... – هو من الأمور التي لا نفع لنا فيها اليوم في الصورة التي يعرض بها، فكلّ مضى إلى سبيله وحسابهم عند ربّهم، وأجرهم على ما قدموا عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة.

كما أنّ ما اختلفوا فيه انقضى ولم يبق بيدنا شيء منه نريد تحقيقه، أو أنّ يؤاخذ بعضنا بعضاً عليه؛ والله تعالى يقول: ﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(1).

ثمّ إنّ هناك أمراً مهمّاً، هو أنّ كلّ فريق هنا وصل إلى قناعة بما هو عليه، بناءً على روايات صحّت عنده، أو عاطفة تجسّدت في مواقف جمد عليها، فما هي جدوى البحث حينئذٍ مع هؤلاء؟ فمن أنكر الأصل، ما ضرّه ترك الفرع!

لذلك نرجع إلى «ويغدر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه».

تعريف الصحابي:

والصحابة الذين يهمّنا الكلام عنهم في كتب الصحيحين والسنن الأربعة، عندما نتكلم عن أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هم الذين ينطبق عليهم التعريف التالي على وجه التقريب:

الصحابي: هو كلّ من أسلم وطالت مجالسته للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن طريق التّبع والأخذ، أو شهد معه غزوةً، أو روى عنه حديثاً، أو كلمة أو ذكر صفة شاهدها من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو صدق صحابيّاًُ مثله روى شيئاً من ذلك، أو قال: كنّا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نفعل كذا.

وتعريفنا هذا يجعل ساحة البحث في الصحابة أضيق من التوسع في البحث عن كلّ صحابي رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وان كانت بعض الكتب قد توسعت في ذكر أخبار من لـه صحبة، أو تعرضت لبعض تفاصيل حياتهم؛ فهذه التفاصيل وذاك التوسع فيها ذات علاقة

_______________________________________

1 - سورة الإسراء: 15.

ـ(399)ـ

بالتاريخ والتراجم، ولا رابط بينها وبين ثبوت الأحاديث.

وهناك من أهمل ذكر الصحابة وأنكر وجود بعضهم، وكفّر منهم من كفّر، وهذا كلّه أيضاً لا رابط بينه وبين أحاديث النبيّ وسنته وكتب حديثه التي هي محلُّ بحثنا الآن.

والصحابة الذين روي لهم في هذه الكتب هم: عدول بإجماع أهل العلم عند أهل السنّة والجماعة، خلافاً لغيرهم من بعض المذاهب، والتوسّع في هذا الموضوع لا أرى لـه جدوى في زماننا هذا بعد أنّ حدّد كلّ مذهب موقفه فيما يتفرع عنه.

وهذا، والصحابة كلّهم كانوا مقلّين في رواية الأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم – حتى المكثر كان مُقلاًّ – وكان ذلك منهم لاعتبارات متعدّدة ذكرها أهل العلم في مواضعها، ولكن يجب أنّ نعلم بأنّهم لم يكتموا العلم بل بلّغوا جميع ما علموا، وأما سكوت بعضهم فلأنّه وجد أنّ ما عنده من علم قد نُشِر من قبل غيره من الصحابة.

والذين كانت لهم الروايات الكثيرة – نسبيّاً – هم الذين عمّروا أكثر من غيرهم، فاحتيج إلى ما عندهم من حديث وعلم، أو كانوا جمعوا من الحديث ما لم يتيسّر لغيرهم، ومنهم أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وابن عمرو، وأنس، ومعهم عدد كبير كانت لهم الروايات الكثيرة، ومنهم عليّ ابن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عن الجميع.

وإنّما قلت: إنّ مكثرهم كان مُقلاًّ في الرواية، ذلك لأنّنا لو جمعنا ما قد سمع أحدهم وشاهده من صحبته لسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مُدّة دامت أكثر من عشرين سنة، أو أقلّ من ذلك، وهو حريص على أنّ يحفظ كلّ ما يسمع، ويعلم أنّ الناس بحاجة إلى كلّ ما عنده من علم، فلا يبلغ حديثه خمسة آلاف، فلا شك أنه يكون مقلاً بل مقلاًّ جداً.

وأحبّ هنا أنّ اقتحم عقبة كبيرة شغلت المسلمين ردحاً من الزمن بين أخذ ورد منذ العصر الأول إلى يومنا هذا، حيث نجد من يمتطيها وينادي بها ويسوقها وكأنّها

ـ(400)ـ

قضيّة مسلّمة تؤدّي إلى الطعن بالأحاديث ما دام قد وجد عشرة من الصحابة رُوي لكلّ واحد منهم أكثر من ثلاثة آلاف حديث - أو أقلّ من ذلك - فيصرخ مستهجناً: هل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حدث بمثل هذا العدد، وهل الصحابي حفظ عنه ذلك؟! مستنكراً اختلاف ألفاظ بعض الروايات عن الصحابي الواحد.

فنقول: نعم، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد حدّث بهذا العدد وهو مقطوع به عند جميع المسلمين فلا سبيل إلى ردّه، وهذا مشاهد منا في حياتنا العادية – نحن العاديين من الناس – فلو جمع أحد أقوال نفسه في سنة واحدة فكم يكون حجمها؟

وأما الذي ينكر على الصحابي مثل هذا العدد من الأحاديث متمثّلاً بعدد صفحات أحدهم في مسند أحمد فقد غفل عن أُمور لا بُدَّ من التذكير بها بصورة مجملة:

أوّلاً: يجب أنّ نرفع منها السند وهو في كل حديث قد يكون في سطرين أو ثلاثة.

ثانياً: نرفع صيغة الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي في كلّ حديث تقرب من نصف سطر وقد تكرر في الحديث الواحد مرات.

ثالثاً: إن الأحاديث ذات الكلمات القليلة هي أغلب الأحاديث، وما زاد على ذلك فهو أقلّ القليل، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أُعطيتُ فواتح الكلام، وجوامعه، وخواتيمه»(1).

رابعاً: إنّ بعض الأحاديث هي مشاهدات لوقائع يرويها الصحابي حكايةً عن نفسه واصفاً فيها أُموراً شهدها من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه عندما يسردها الصحابي، أو الراوي عنه، أو من بعده؛ قد يغيّر بعض ألفاظها، كما نجد في حديث الثلاثة الذي خُلّفوا في غزوة تبوك، فهذا كما يقول ابن إسحاق في «سيرته» يُكَمِّلُ بعضهم حديث بعض، وكذا فيما يقال عن الحديث المتفّق عليه: وهذا لفظ صحيح البخاري، أو لفظ صحيح مسلم، أو كما يُروى من اختلاف الرواة عن الإمام الزهري مثلاً، وحتى اختلاف بعض نُسخ الكتاب

_______________________________________

1 - صحيح الجامع الصغير 1058 - بترتيبي.

ـ(401)ـ

الواحد، كما في روايات الموطأ وغيره. وهذا بحث يطول أمره؛ وأكتفي بهذه الإشارات والتنبيهات.

فإذا أخذنا أحاديث أحد المكثرين مثل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في مسند الأمام أحمد نجد أنّ أحاديثه كانت في الطبعة الأولى للمسند ضمن (160) صفحة وعددها (1710) من الأحاديث كما في طبعتنا الجديدة، فإذا طبقنا عليها القاعدة المتقدمة نجد أنّ أحاديثه لا تتجاوز المئة صفحة تقريباً.

وأيّ غرابة في رجل من أهل العلم، مع طول الصحبة، وبركة العيش بقرب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتأخّر في الوفاة يُستكثر عليه أنّ يحفظ هذه الصفحات من النثر، وهو يعيش في بيئة تعتمد الحفظ أصلاً، وإذا صادف أنّ كانت لـه صحائف يكتب فيها، وعنده إخوة من الصحابة يتذاكر وإياهم تلك الأحاديث والوقائع، وتلامذة يتلقّون منه ما حفظ ويعيدونه عليه وتكون منهم المراجعة أحيناً! كانت الغرابة أبعد، فأبعد، وادّعاؤها إذ ذاك مردود عقلاً، قبل أنّ يُردّ نقلاً.

وأنس بن مالك t ذاك اليتيم المنقطع لخدمة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمدة عشر سنوات يصاحبه ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً، ويشهد من أحواله ما لا يشهده غيره، ويدعو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لـه بالحفظ وطول العمر، وهو من أواخر الصحابة وفاةً، فكيف يُنكر أنّ يكون لـه على سبيل المثال في مسند أحمد (2171) حديثاً؟ ولو كان لـه عشرة أضعافها ما كان مستغرباً، ومن أحاديثه (164) حديثاً في المسند ممّا علا سنده، حتى أنّه ليس بين الإمام أحمد والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سوى ثلاثة أنفس هم أنس والتابعي وتابعه.

وبلغت الأحاديث الثلاثية في مسند أحمد (333) حديثاً.

وابن مسعود t عالم الصحابة وأُستاذ الصحابة والتابعين والمتميّز بالفقه والفهم والرواية والسبق في الإسلام، فأين غرابة أنّ يكون لـه في المسند (902) من الأحاديث.

ـ(402)ـ

وقُل مثل ذلك عن عائشة، وعثمان، وعليّ، وابن عمرو، وجابر، والخدري رضي الله عنهم، وأحاديثهم خرجت من مشكاة النبوة ولذلك فإنّها متشابهة متماثلة، وهم عندنا يجمعهم فضل محبّة الله ورسوله، ووجوب موالاتهم جميعاً.

أقول هذا لا لأعقد صُلحاً لخلاف استمر بيننا هذا الزمن الطويل حول بعض الصحابة الكرام؛ ومنهم الصدّيقة أُمّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – فالخلاف لا ينقص منزلتها وأهليّتها لتروي لنا ونروي عنها من أحاديث رسولنا صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعة آلاف حديث، لا تتجاوز متونها حجم ثلاثة أجزاء القرآن الكريم.

ولم تنفرد بحديث منها عمّا رواه غيرها من الصحابة ونساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سوى ما كان يجري بينها وبينه صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصّة، ومن حقّ كلّ زوجين أنّ تكون بينهما خصوصيات، ومن حقّنا عليها أنّ تروي لنا ما يجوز أنّ يُروى من الأُم للأبناء لما فيه من حِكَم وتربية وتشريع، وهب أنّها اجتهدت في أمور دينية أو دنيوية، فلا يملك المخالف لها إلا الإقرار بأهليتها للاجتهاد رضي الله عنها.

ونحن نجتمع للتقريب بين المسلمين – كما قلنا – لا للتوحيد، فما أقوله هو وجهة نظر أهل السنّة من المؤمنين الذين ساروا على المنهج الأول بالقبول بكل ما وصل إليهم من إجماع الصحابة أو أكثرهم، مع الحبّ والتقدير لمن خالف، والكلّ عندنا مجتهد، فلا تكفير لمن أخطأ ولا عصبية لرأي واحد، مع الأدب والتأدّب بحق الجميع.

وأنا أعلم ونحن في منتدى التقريب - أنّ في محيطنا مَن تختلف وجهة نظره عمّا عندنا، ويضيق صدره بما نقول، ولكنّني على يقين بأنّ مجمعنا هذا سيؤيّد كلّ ما قلت، وفيكم من يقول أحسن ممّا قلت ويعلنُ أننا قد اتفقنا على أنّ نتعاون فيما اتفقنا عليه، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

واسمعوا قولي في الصحابي أبي هريرة.

ـ(403)ـ

هو عندنا كباقي الصحابة: عدل، ثقة، معظّم ومطيع لله، ومحبّ لرسوله، ومقدر لآل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ونسائه، وذوي قرابته، وعليّ وبنيه رضي الله عنهم؛ ومن يرفض حديثه فهو وشأنه الذي اختاره لنفسه، وأما نحن فنقبله بالكلية إذا صحّت نسبته إليه وفي كتب الرجال والتاريخ الشيعية ثناء على أبي هريرة.

وإنّ الاتفاق التام على أيّ شخص من جميع النواحي يكاد يكون عسيراً، وكنت أريد أنّ أقول: تعالوا نجعل حديثه جانباً مع بعض الأمور الأخرى المعترض عليها من بعضنا ومن بعضكم، فيما تثير الخلافات والحساسيات عند عامّة الناس، ويجري بحث هذه الأمور من لجنة تؤلف من المعتدلين من الجانبين في مجالس علمية مغلقة ولتأخذ وقتها؛ ويتعاهد أفرادها بعدم نشر شيء حتى يتمّ البحث.

وتكون هذه اللجنة بإشراف أصحاب السماحة قائم مقام مفتي الجمهورية اللبنانية الأكبر الشيخ محمّد رشيد قباني، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين.

وبيروت خير مدينة مؤهّلة لذلك – هذه الأيام – في نظري، ويمكن دعوة العلماء من أقطار أخرى لهم الاهتمام نفسه وعندهم الحرص على التقريب والى أنّ يتم ذلك أقول لكم:

إنّ ما صحّت نسبته لأبي هريرة من الأحاديث ليس في واحد منها ما يُلحِقه بمن ناصب عليّاً وأبناءه وآله العداوة؛ فأبو هريرة هو الذي يروي منقبة الإمام علي عليه السلام يوم خيبر – كما في حديث مسلم في الصحيح عنه -. وهو الذي يروي في مناقب فاطمة رضي الله عنها أيضاً قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

«إنّ فاطمة سيدة نساء أُمتي»(1).

_______________________________________

1 - أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 1: 232.

ـ(404)ـ

ومع هذا، فأبو هريرة عندنا غير معصوم، ولسنا ملزمين بكل ما يقول أو يرى، صحّ ذلك إليه أو لم يصحّ، لذلك نأمل من إخواننا الأخذ على يد من اتّخذه من أصحابهم غرضاً – والله أعلم بالنيّات – ونلتقي على كلمة سواء.

لا غلو في حبّ أحد، ولا في بغض أحد، وإنّما هي الأقوال والأعمال نمحّصها ونأخذ منها ما صفا، وندع ما كدر، ونعيد للناس اعتبارهم، ونؤدّي لهم حقوقهم علينا.

 

الاجتهاد في الحكم على الأحاديث:

وإنّا إن عظّمنا عمل أسلافنا بما قاموا به من مناهج وتطبيقات في تصحيح الحديث صارت فيما بعد مرتكز المذاهب المتبوعة في الاعتقاد، والتفسير والفقه والأصول إلى آخر ما هو معروف، فلا أدعو للوقوف عند عملهم ومنع الخروج عمّا وصلوا إليه.

وتعطيل الاجتهاد ليس محلّ بحثنا هنا، ولكن لا بُدَّ من المامة موجزة عنه، لأنّ عندنا من يقل بمنع النظر في الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً بعد أنّ خُتم هذا الفن بالعلماء الكبار، مستشهدين بأدلّة مخترعة، ولعلّ أكبر حجج هذا القول الاقتداء بإغلاق باب الاجتهاد في الفقه! علماً إنّ الذين أغلقوا الباب في الفقه ليسوا من أهل الاجتهاد، بل هم من الذين نعذرهم، ولا نقلدهم.

وبما أنّ الله سبحانه لم يعصم هؤلاء الأئمّة عن الخطأ، أو السهو، أو الوهم وغير ذلك من العوارض التي تعتري البشر، فقد رأينا من جميع الذين جاؤوا بعدهم اجتهادات فاقت في الجملة ما عندهم نوعاً وكمّاً، وكم ترك الأول للآخر؟

وأكبر مثال يحق لي أنّ أُقدمه هو ما سبق الحديث عنه من جديد العناية بالسنن الأربعة، التي تشرفتُ بخدمتها وقدمتها للطبع بإدخال تصحيح محدّث واحد وتضعيفه مضيفاً إليها ملحوظات واستدراكات زادت الأمر وضوحاً وتصويباً، وكان أبرز ما في

ـ(405)ـ

عملنا ما قدم من تصحيح وتحسين لعدد كبير من أحاديث كلّ كتاب منها، اعتماداً على السنن الأُخرى وغيرها من كتب الحديث، واعتمادي في طبعها على نسخ مخطوطة نادرة، وعمل الفهارس لكلّ كتاب، وأنا في سبيل عمل فهارس موحّدة جامعة لها.

وقد تولّى طبعها مكتب التربية العربي لدول الخليج باتفاق مديره العام معالي الدكتور الفاضل محمّد الأحمد الرشيد ومن بعده خلفه سعادة الدكتور التويجري؛ وقد بلغت (11) مجلداً للصحاح و (4) مجلدات للضعاف مع مجلد لفهارس سنن ابن ماجه، وستكون الفهارس للسنن الثلاث بأربعة مجلدات كبار إنّ شاء الله.

وظني أنّ الشيخ الألباني – أو غيره – سيجد عدداً كبيراً من أحاديث هذه الكتب «السنن الأربعة» قد يرتقي إلى ما هو أعلى ممّا ذكر في هذه الموسوعة.

وكذلك من الحديث المتواتر فيما لو طبقنا القواعد المعتمدة بعيداً عن التقليد المتشدّد من المتأخّرين، لأنّهم وضعوا الشروط التعجيزية لقبول المتواتر، وإن كان لهم عذرهم؛ فإنّ لنا حاجتنا – الآن – لنوسّع الأمر؛ وعندي بحث في ذلك يسّر الله نشره.

وقد اعترف الشيخ الألباني بذلك في مقدمة «ضعيف سنن أبي داود» الصفحة (8) حيث قال:

«إنّني حين لا أجد الحديث مخرجاً في شيء من مؤلفاتي لأعزوه إليه، فإنّني أحكم عليه بما تقتضيه الصناعة من تضعيف أو تصحيح لإسناده الخاص بالكتاب الذي بين يدي من (السنن الأربعة) وقد يقع أحياناً إنّ يتيسّر لي بعد ذلك أنّ أخرجه تخريجاً علمياً ناظراً إلى طرقه الأُخرى في كتب أخرى، فآخذ الحكم منه وأضعه في كتاب آخر من (السنن) فيظهر الاختلاف نتيجة طبيعية لاختلاف طريقة الحكم، فمن ذلك مثلاً حديث أُم سلمه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقرؤها: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أنّ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(1)،

_______________________________________

1 - أخرجه الترمذي: 3112، والآية (46) من سورة هود:

ـ(406)ـ

فقلت تحته: (ضعيف الإسناد) وهو كذلك ولكنّني في (سنن أبي داود) قلت فيه: (صحيح)»(1).

أقول: لو تأنّى لوجد أنّ حديث أُم سلمة، سبق أنّ خرّجه وعمل به من هو قبل الترمذي بزمن طويل.

 

طرق وحدة المسلمين:

إنّ المنطق السليم يقضي بأنّ من أراد وحدة المسلمين فلا يُصدر كتباً تباعد بينهم، ولا يُشيع أخباراً لا أساس لها من الصحّة، بل ينقاد للعلماء الذين اتخذهم قدوة لـه – من دعاة الخير – ويتبع العلوم التي توارثوها عن الصادقين ومنهم الصحابة، كلّ الصحابة، والعترة كلّ العترة من أهل بيته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فيلزمه أنّ يتجنّب تلك الأخبار التي بَلِيت من كثرة التَرداد، ويجانب كتب التهويش من كلّ الفرقاء، الممعنة في تفكيك عُرى الأُخوّة الواجبة، والوحدة المنشودة، وليكفّ من الساعة عن إحياء أسباب التباعد بين المؤمنين بدل التقارب والمودّة الممكنة، إذا عجزنا عن التوحيد الذي هو مطمح الأنفس، ومطمع الأفئدة:

إذا لم تستطع أمراً فدعه $$$ وجاوزه إلى ما تستطيع

وبكلّ صراحة أقول: من ذا الذي يدلّني على سنيّ تشيع، أو شيعي أصبح من أهل السنّة مدلّلاً على انتقاله ذلك بالعلم الصحيح، والرأي الراجح البعيد عن المؤثرات التي لا تساوي قلامة ظفر على محكّ التحقيق في الموازين الصحيحة المعتبرة، وإن وجدنا أحداً من هذا الصنف فإن كلامه لا يزيد المؤمنين إلا تمسّكاً بمذهبهم ولا يكون كلامه إلاّ تفرقاً وحقداً، وإثارةً للنعرات التي لا طائل تحتها.

_______________________________________

1 - الصحيحة: 2809.

ـ(407)ـ

وإن نشر ما يزعم أنّه من عيوب مذهبه السابق فما هو إلا تهويش مردود عليه، وعلى من حرّضه، ولم أجد في هؤلاء من يعتبر كلامه أو يؤخذ برأيه، ولعل أكثر ما وجدته من كلامهم وكتبهم ومقالاتهم هو دالّ على أنّهم في الحقيقة ملحدون لا يؤمنون بمذهب ولا دين، وهم للكفر أقرب منهم للإيمان.

وجميع الخلافات البسيطة السابقة، استخدمت فيما بعد عند هؤلاء، مع ما أُضيف إليها من تمحّلات تجاوزت جميع ما كانت عليه. وممّا لا شكّ فيه أنّ الخلافات القديمة كانت أقلّ ضرراً لو بقيت بحجمها، بل ما كان ضارّاً بالفعل منها، كان بالإمكان تحجيمه وتجاوزه بعد انقضاء أسبابه ودواعيه في أيامهم.

ولكن الذي فُعِل – ويفعله بعضنا حتى اليوم – هو النفخ في تلك الخلافات لتزداد هواءً، وهوى، واستمرار استغلالها والإضافة إليها، مع معرفة الذي يعمل هذا أنّ مسعاه نفخة في رماد، أو صرخة في واد!

وذلك لأنّ أصحاب الرأي المخالف لـه قد حصّنوا أنفسهم، وأضافوا إلى رأيهم الأدلّة، وحذفوا مواطن الخلل وعدّلوها وبدّلوها، وأوجدوا ما يخدم رأيهم من منافع، ولعلّ نفعها جاء لعوامل أُخرى غير التي كانت يوم وجودها، ولكنّها اليوم عند المنتفع بها مادّة خصبة لتعصّب وتزمّت وجمود وإثارة لأحقاد ما أنزل الله بها من سلطان، بل أمر سبحانه بوأدها واستئصال شأفتها، والفتنة أشدُّ من القتل، ولا يُحمد موقظ الفتنة!

 

تقريب لا توحيد!

إذن فنحن - الآن - جماعة تقريب لا جماعة توحيد، ورحم الله من عرف حدّهُ ووقف عنده.

فعلينا جميعاً أنّ نقبل بالآخر، من غير مطالبة لـه بالذوبان فينا، أو إلزامه بما وصلنا

ـ(408)ـ

إليه من قضايا من زمن التباعد، كما على الآخر أنّ يقبلنا على ما نحن عليه.

السنيُّ على ما عنده من عقائد وقواعد وأشخاص وفقه وتطبيق عملي، من غير أنّ يُسخّف أيّ فريق رأي الفريق الآخر، وأن لا يعتبر عدم قَبول الآخر للفهم الذي عنده خروجاً عن الدين، أو موجباً لعداوة بعض من يراهم الطرف الآخر محلّ تعظيم عنده بحقّ، وعلى الشيعي مثل ذلك؛ وهذا الذي عنيته: أنّ نقبل السني على أنه سنيّ لا ناصبيّ، والشيعي على أنه شيعي لا رافضيّ.

لأننا نريد أنّ نتعامل مع الواقع الذي أوجد عقائد وقواعد لها خصوصية اتسعت مع الزمان؛ فإذا أراد الشيعي أنّ يبقى على ما وصل إليه رأيه، أو من قلّدهم، وترسخت به قناعته - بقطع النظر عن رأي المخالف لـه بصحّة أدلته - فلا يمكن لنا منعه من ذلك، لأنّنا نريد التعامل مع واقعنا القاضي بضرورة أن يقبل بعضنا بعضاً فيه، مع الكفِّ عن نبش الماضي، ولاسيّما الخلافات التي لم تعد خاصّة بمن هو أولى بالخلافة، وقد ذهب الخلفاء وضاعت الخلافة، ولا نؤاخذه بالتفضيل وقد ذهب الفاضل والمفضول إلى الله سبحانه وبيده ميزان العدل والحقّ، ولا بما عنده من أمر الوصية وانتقالها بالنص من السابق إلى اللاحق، ولا بعصمة تمنع الخطأ، وإمامة لا يحتاج معها الإمام إلى أحد من الخلق بل كلّ الخلق بحاجة إليه، وإمام لباقي الأزمنة والعصور وولاية إنّ غابت عن الواقع فإنها مازالت رحمة للخلق، لا بدّ منها وهي محصورة في شخص معيّن، وزمان مستمر في غيبة كبرى وصغرى، ورجعة تكون للأعداء قهراً، إلى آخر ما عنده من أُمور نذكرها على أنّها ممّا يشاع.

ومن يحاول حصر الخلاف في ولاية المتسلّط والغاصب بين المباح والمندوب في مسائل الفقه أو الخلاف اللفظي، أو العادات والأساليب فإنّه يصرف الموضوع عن مساره!

ـ(409)ـ

وأقول بأنّ الخلافات الفقهية بين مذاهب أهل السنّة، والمذاهب الجعفرية – عندي – لا تتجاوز كثيراً أيَّ خلاف في اجتهادات علماء المذهب الواحد، وعلى الأخص إذا اعتبرنا أنّ الحقّ يتعدّد، وحتى إن قلنا بأنّ الحقّ واحد، فليس في الخلافات الفقهية بين الشيعة والسنة من الأُمور أمر كبير إذا اقتصرنا على الفروع، واعتمدنا الأُصول الواحدة.

وما هذا البحث إلاّ خطوات على الطريق، ونقاط على بعض الحروف وقد يوسعها البحث والنقاش، وتغنيها المتابعة منّا ومن إخواننا في فسحة من الزمن، إن يسّرها الله، حتى نتمكّن من الإلمام الصادق بما عندنا من عقيدة نعتز بها في الدنيا، ونأمل من الله حسن المثوبة في الآخرة.

وفي الختام أتوجّه إلى السادة القيّمين على هذا المؤتمر، وجميع الأُخوة الأعضاء المشاركين، وكلّ العاملين في هذا الشأن داخل هذا المنتدى وخارجه، لأدعوهم إلى تعزيز العمل بمقتضى القاعدة الذهبية التي أطلقتُها في هذا البحث، وكان سبقني إليها في هذا المجال شيخنا العلاّمة المفضال محمّد بهجة البيطار، ومن قبله العلاّمة ابن قيم الجوزية، والعلامة السيد محمّد رضا رشيد، والإمام حسن البنّا وهي:

أنّ نتعاون فيما اتفقنا عليه (وينصح )، ويعذر بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

مع رعاية أسباب التقريب، والبعد عن إثارة كوامن الحقد والتفريق، بانتهاج الطرق التي ألمحتُ إليها في ثنايا البحث، وغيرها من الطرق القمينة بتحقيق التقريب المنشود لدى أهل الخير من الفريقين... وما ذلك على الله بعزيز.

وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين.