الصحوة ..أسبابها ومظاهرها ودوامها

الصحوة ..أسبابها ومظاهرها ودوامها

الصحوة ..أسبابها ومظاهرها ودوامها

 

آية الله الشيخ محمد علي التسخيري

 

يكاد الحديث في هذا الموضوع يعدُّ من أجمل الأحاديث، لأنّه يتعلّق بأهم قضية وأهم ظاهرة تعيشها الأمّة الإسلامية كونها تمثّل منعطفاً في تاريخها المبارك .. وما أجمل أن نركّز على قضايانا المعاصرة من زاويتها العقائدية والحضارية،  بدلاً من الانشغال في مشاكل عقيمة، بعيدة عن الواقع الذي نعيشه والأهداف التي نرنو إليها.

وقد ارتأيت في مجال تناولي هذه الظاهرة المباركة أن أتعرّض لها من الزوايا الثلاث: (الحقيقة، الأسباب، الاستدامة) تحقيقاً للترابط المقوّم بين هذه الزوايا، وتأكيداً للنتائج العملية التي يجب أن ننتهي إليها من خلال البحث.

 

حقيقة الصحوة الإسلامية

من نافلة القول أن نتحدث عن التركيبة الإسلامية _ ككل _ إلاّ أنّ التذكير بها يحقّق تمهيداً جيداً لفهم حقيقة الصحوة الإسلامية. فالإسلام عقيدة تحدّد للإنسان موقفه من الكون والحياة والإنسان بتاريخه وحاضره ومستقبله. وتنبثق من هذه العقيدة مفاهيم تشكّل أساساً عملياً واسع الأبعاد. وعلى أساس العقيدة والمفاهيم الحياتية، تتخذ العواطف الإنسانية مساراً توجيهياً تختلف إختلافاً حقيقياً عنها عندما لا تعيش في هذا الإطار.

وبعد كلّ هذه الأرضية المناسبة يأتي البناء الاجتماعي الإسلامي ليشمل تخطيط الإسلام كلّ نواحي الحياة الإنسانية.

وحينئذ فالمسلم الواعي حقاً يتمتع بالعناصر التالية:

أولاً: فهم الحقيقة الإسلامية فهماً مطّرد العمق.

وثانياً: إيمان منطقي بها.

وثالثاً: نفوذ إيماني إلى العواطف، وصياغتها الصياغة التي تنسجم بها مع الأسس.

ورابعاً: نقل واع لها إلى المجال العملي، الشخصي والعام.

إنّها العناصر التي يمتاز بها المسلم الواعي، والتي يصعد الإنسان بها مدارج الكمال من خلال تأصّلها في وجوده وحياته.

وعنصر الفهم يعمُّ فهم الإسلام ـ أساساً وبناء نظرياً ـ من جهة، والإطار العملي التنفيذي من جهة أخرى، وأعني بالفهم الإسلامي التطبيقي فهم التعليمات الإسلامية الهادفة لكيفية ملء المساحة المباحة، أو ما أطلق عليها أحد كبار المفكرين منطقة الفراغ، التي تركها الإسلام للحاكم الإسلامي ليقوم بملئها على ضوء التعليمات مع ملاحظة المصلحة الإسلامية العليا والظروف الموضوعية القائمة. ويعتبر ما يسمّى الأمر الموحى به مباشرة أسمى درجات هذا الفهم في حين يتلوه في الدرجة ما يتحصّل بالإجتهاد الأصيل الصحيح.

أمّا عنصر الإيمان فهو بدوره متفاوت الدرجة، ممّا يسوّغ أن يؤمر الذين آمنوا بالإيمان، وتصعيد هذه الدرجة أو توسيع المساحة الإيمانية، ويشمل الإيمان بالموقع المحدّد من الكون والمنطق الحياتي والهدف السامي ونوع السبيل إلى الهدف.

وإذا ركّزنا على الصعيد العاطفي رأينا التدريج نفسه فيه، حتى يصل الأمر إلى مستوى أن يملأ الحب الإلهي وجود العبد فيسمو حتى ليقول الحديث عن الزهراء _ تلميذة الإسلام _ : <إن الله تعالى يرضى لرضاها ويغضب لغضبها>([1])، وحتى يتحول الدين إلى حب كله، <هل الدين إلاّ الحب>([2]) كما جاء في بعض الروايات.

ومن هنا يُدعى المؤمنون إلى تجاوز مرحلة الإيمان العقلي المجرد، إلى مرحلة الخشوع والتحرّك العاطفي. فيقول تعالى:

(أَلَمْ يَأْنِ لِلّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقّ‏ِ وَلا يَكُونُوا كَالّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ اْلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).([3])

وأخيراً تصل المرحلة إلى عنصر العمل، الذي يأتي بشكل طبيعي بعد التحرُّك العاطفي، ذلك لأنَّ الإرادة الإنسانية هي حصيلة الشوق المؤكَّد إلى حد كبير.

وأشدّ الناس تمزّقاً في الشخصية هم: أولئك الذين تنفصل أعمالهم عن عقائدهم وعواطفهم، وأذكر هنا مقولة للفرزدق، قالها بعد أن سأله سبط رسول الله الحسين بن علي، عن وضع أهل الكوفة آنذاك فأجاب: <قلوبهم معك وسيوفهم عليك>([4]).

والواقع أنَّ انعدام العمل يشكّل قرينة طبيعية على عدم فاعلية الأسس.

يقول القرآن الكريم:

(أَرَأَيْتَ الّذي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الّذي يَدُعّ الْيَتيمَ. وَلا يَحُضّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكينِ)([5]).

بعد هذا التحديد لمعالم الوعي والصحوة، يمكننا أن نشخّص تحققها في أي زمان ومجتمع، عبر ملاحظة تحوّلها إلى ظاهرة اجتماعية، وعدم اقتصارها على مجموعة صغيرة. نعم إذا شملت الصحوة قطاعاً كبيراً، وتعاطفت معها الأكثرية الجماهيرية المسلمة أمكن ـ بحق ـ أن يتحلّى ذلك المجتمع بحالة الصحوة الإسلامية.

 

هكذا كانت الغفوة

ولقد مرّت أمتنا الإسلامية بفترات زمنية طويلة، عمَّتها غفوة، وشملها تخدير وضياع مقيتان يعتصر لهما القلب ألماً.

فالفهم الإسلامي الصحيح غير متوفر إلاّ على صعد فردية محدودة المجالات، وحينئذ فمن الطبيعي أن لا تجد تعاليم الإسلام المحيية للنفوس مجالها الطبيعي المؤثّر في القيام ببناء النفوس والمجتمع.

والتجزيئية تعمل عملها الخبيث في تمزيق الفرد المسلم من كلّ الجهات، فهو ممزّق في رؤيته الكونية، وقد أراد له الإسلام أن يتّخذ رؤية واحدة تجاه الأشياء، وهو ممزّق في شخصيته، حائر بين الإلتزام بقوانين السماء والاتجاه مع الواقع الفاسد، والولاءات المتعددة، وآلهة التاريخ والتمدُّن، والعنصرية، والقومية، والوطنية، واللون وحتى العلم، وكلها تشكل مطلقات يجردها الذهن الإنساني من نِسبيتها، ويمنحها صفة الإطلاق لتشكّل ـ بالتالي ـ قيوداً على التحرُّك الحضاري إلى الأمام، ويصبح الانشغال بالهموم الضيقة والشخصية هو الديدن العام؛ وقليل أولئك الذين يفكرون لصلاح الأمّة   كلّ الأمّة، ويعيشون قضاياها الرئيسة، وجراثيم الكفر والانحراف الفكري والخلقي تسود الساحة، فلا تجد أمامها من يقف في وجهها، والروح الحماسية ميتة، إلاّ تعصباً لمال أو تجمّع أو مذهب خاص أو حاكم طاغٍ.

ومن الطبيعي ـ والحال هذه ـ أن تكون هذه القابلية محفزاً للاحتلال على مختلف الصعد ومنها الصعيد العسكري.

وهكذا كان الحال، وبدأت ـ الصحوة شيئاً فشيئاً ـ حتى بلغت ما نحن فيه من حال.

 

معالم الصحوة

وقد تمثّلت معالم الصحوة اليوم في أمور كثيرة، لسنا بصدد استيعابها بقدر ما نحن فيه من الإشارة، حيث نجدها في:

 ـ هذا الاتجاه العام نحو تفهُّم الإسلام ومعرفة جوانبه الحياتية.

ـ وهذا الإتجاه الصارم للقطاعات المختلفة ـ وخصوصاً قطاع الجيل الشاب ـ نحو تطبيق الإسلام، في كلّ شؤون الحياة الاجتماعية والفردية، والنظر للإسلام كمنقذ من كلّ المهالك والمشاكل، التي تورّطت فيها مسيرة الأمّة  .

ـ وهذا التفهُّم الواعي لدور قوى الاستكبار العالمي في التخطيط لمسخ الشخصية الإسلامية ثم العمل على امتصاص دمائها،

ـ وكذلك تفهّم الطاقات الضخمة التي تملكها الأمّة   المسلمة، وطبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها.

ـ وكذلك هذا الترابط الإحساسي والشعوري بين أفرادها، حتى ليهتزَّ المسلم اليوم في أقصى المعمورة لألم المسلم في الجانب الآخر منها.

ـ وهذا الاتجاه الرائع نحو الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، وتناسي الصراعات الجانبية.

ـ ثم هذا التخطيط الحثيث هنا وهناك لاستعادة المجد الإسلامي، وإقامة الدولة الإسلامية الموحَّدة على كلّ الأرض الإسلامية. ورغم اختلاف مستويات التخطيط فإنّها تكشف جميعاً عن التطلع والعمل على صنع المستقبل.

ـ وهذه الحرارة الثورية المتصاعدة، والتي راحت تقضّ مضاجع اللصوص الكبار، وتهزّ عروش العملاء الصغار، وتمزّق أستار المتستّرين والمتبرقعين. إنّها حرارة الخشوع والتضحية والفداء في سبيل العقيدة، وهي تستمد أوارها من انطلاقة المسلم في الصدر الأول نحو الجهاد في سبيل إعلاء راية الإسلام، ناسياً دنياه ومتعه، في سبيل متعة تحقيق الهدف السامي العظيم.

ـ وأخيراً وليس آخراً: هذا الاتجاه الجماهيري نحو تعميم الأخلاق الإسلامية على المجتمع، ونفي مظاهر الطاغوت والعصيان، إذ رأينا الحجاب الإسلامي يسري سريان العافية في أوصال المجتمعات الإسلامية، ورأينا النفور من مظاهر الخلاعة والخمر والميسر وباقي العادات السيئة؛ وذلك يمثل ظاهرة إسلامية حميدة.

كل هذا أرعب دهاقنة الكفر وعملاءهم، حتى أيقنوا أنّ ما كانوا يخشونه قد تحقّق، واستعادوا ـ من جديد ـ إلى ذاكرتهم مقولة غلادستون عن القرآن، كأكبر عنصر دفاعي لدى المسلم، ومقولة ديغول حين حذّرهم ـ في الأربعينات ـ من هذا العملاق النائم، والذي تداعب خصلات شعره مياه الأطلسي، وتغسل رجليه مياه المحيط الهادئ... ومقولة الجنرال غلوب باشا (إنَّ تاريخ مشكلة الشرق الأوسط يعود الى القرن السابع للميلاد) فراحوا يكررون التحذير.

فوزير الخارجية الأمريكي يحذر العالم من اليقظة الإسلامية ووزير الخارجية الإسرائيلي يكرر التحذير، وهذان العملاقان المتعاديان في الشرق والغرب يضعان يداً بيد لمواجهة المدّ الإسلامي. لقد اشتدّ التخطيط لمواجهة هذا السيل الإسلامي العارم، الذي يهدد حضارتهم بالزوال، لأنّه يحمل العلاج الناجع، والذي يمزّق أحلامهم، ويقضي على منافعهم الرخيصة.

وكأنَّ الاستعمار ـ بين عشيّة وضحاها ـ وجد أنَّ كلّ أحابيله وبؤره السرطانية التي زرعها في قلب هذه الأمّة   تزول، وكل الآلهة التي نصبها أمامها ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ تتهاوى وتتمزق تماماً، كما وجد المبشر المسيحي نفسه في حيرة، عندما حدّث بعض المسلمين عن معاجز (الرب المسيح) فرحوا يصلّون على محمد  وآل محمد.

لقد وجد الاستعمار أنَّ القوى والأساطيل الجامدة تذوب عند كلّ صرخة تكبير يطلقها مجاهد مسلم، واستولى الرعب على الطغاة عندما وجدوا أنَّ القيود والسجون ترتجف، أمام تكبير الأسير المسلم وصرخته الربانية الهادرة.

 

أسباب الصحوة

وليس من الصعب على من ينطلق في تفكيره من زاوية إسلامية موضوعية أن يكتشف، أسباب هذا التحول العظيم في حياة الأمّة  . نعم قد يعمى عنها الحُوِِّل القُلّب، أمّا البصير، فلا يشك في كونه لطفاً إلهياً محضاً، شمل هذه الأمّة بعد فترة، وأهّلها لأن تطرح نفسها في الساحة العالمية، وتمكّن إسلامها من قيادة العالم من جديد، موطئةً لليوم الموعود، حيث (يكون الدين كله لله).

أمّا العناصر التي أهّلت الأمّة   لشمول هذا اللطف الإلهي لها، فهي:

أولاً: العمل الدؤوب للعلماء والمفكرين الذين أحسّوا بداء هذه الأمّة  ، وراحوا يخططون ويرسمون لها سبل العلاج. والواقع أنَّ عمل العلماء انصبّ على أن يستعيد الإسلام دوره في النفوس والعقول، وحينئذ فهو يتكفّل بدفعها نحو سبل السعادة، بما يحمله من طاقات ذاتية، وإبداع متدفّق يفجر طاقات الفطرة، ويستخرج مكنوناتها، ويستثير دفائنها، وإذا تجلّت الفطرة النفسية على صعيد الحياة، كان الفلاح كله.

والجدير بالذكر أنَّ هؤلاء المفكرين لم يستطيعوا أن يحققوا ما حققوا إلاّ بعد أن حرروا نفوسهم من المتع الرخيصة، ونذروا أنفسهم للهدف، وتخلّصوا من قيود التبعية، للحكّام الذين شكّلوا ـ في فترة الغفوة ـ قيوداً ظالمة، وإلا بعد أن اتصفوا بالعلمية والروح التغييرية الإسلامية معاً.

ولن تستطيع كلّ أساليب التمويه والخداع والاتهام أن تمحو من أسماع الأمّة   صرخات الأسدآبادي (الأفغاني) وعبده، والبنا، وسيد، وعودة، والمودودي، وابن باديس، والإبراهيمي، والمطهري، والشهيد الصدر، والإمام الخميني، بعد أن أدّت دورها العظيم في تحقيق هذه الصحوة المباركة.

ثانياً: الدور الرائع الذي قامت به الحركات الإسلامية، في نشر التوعية والحماس الثوري بين أبناء الأمّة  . وقد اختلف تأثير هذه الحركات على هذه المنطقة أو تلك، كما اختلف مستوى الوعي والحماس لدى هذه الحركة عن تلك، إلاّ أنّها جميعاً قد أجّجت الشوق الجماهيري نحو تطبيق الإسلام، وأوجدت شعوراً ذا مساحة معتدٍّ بها، بلزوم مقاومة مظاهر الطاغوت، والعودة للإسلام... وإنّي لأعلم أنَّ الكثير من أبناء هذه الأمّة   قد اهتدى بفعل تأثير هذا العامل، كما أعلم أنَّ الكثير من المحاولات الاستعمارية، والعميلة، قد جرت لجرِّ بعضها إلى سبيل الاحتواء، أو الانضواء تحت الرايات الخادعة، أو الاعتماد على أنظمة لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة. وطبيعي أنَّ هذه المحاولات لابدَّ أن ينكشف زيفها في فضاء الوعي السائد، وهكذا كان الأمر، وراحت حركة التوعية تقطع أشواطها الضخمة التأثير.

ثالثاً: ردود الفعل التي اعقبت الهجوم الغربي الفاشل على العالم الإسلامي، فبالرغم من التخطيط الدقيق لهذا الهجوم، والعمل على أن يستوعب مختلف الجوانب الحياتية ويستكمل كلّ عناصر النجاح المطلوب، بل وبالرغم من هذا النجاح الظاهري، الذي تصوّر الاستكبار العالمي أنَّه حققه، فسلب الأمّة   فكرها، وإيمانها بإسلامها، وعاطفتها الحماسية، وشخصيتها، وبالتالي ثروتها المادية، حتى ظنَّ أنّها قد ماتت، أو هي توشك على الموت، بعد أن شدَّ وثاقها بالحدود المصطنعة، ومزّق وجودها بالتناحر القومي، والوطني، والعنصري، والتاريخي، وزرع في وجودها البؤر السرطانية الخبيثة، وأثقل كاهلها بالحكام العملاء، وسرّب إلى أوصالها سمومه الفكرية والعاطفية، وملأ حياتها بالمجون والترف والفسق ([6]).

وبالرغم من كلّ هذا انتج الهجوم نتيجة عكسية، فقد أيقظ الأمّة   وعلّمها أنّ سرَّ وجودها هو إسلامها العظيم، وأنّها لن تجد السعادة إلاّ في ظله.

وقد كان تأثير الهجوم الغربي لصالح الصحوة على طريقين:

الأول: أنّه كشف نفسه وحضارته، وأخلاقه أمام أبناء هذه الأمّة  . فلقد أثبتت كلّ الآراء والنظم التي خططها للحياة الاجتماعية فشلها، وعقمها، وغربتها عن فطرة الإنسان، وشعور المسلم وعقليته. وهي حقيقة أدركها الاستعمار تماماً قبل غيره، فراح يستر فشله بعملية الترقيع، أي عملية إلباس الأفكار الغربية لبوس العروبة والشرق والإسلام، ممّا فضح به نفسه أكثر فأكثر.

لقد أثبتت الفلسفة الغربية خواءها أمام الفلسفة الإٍسلامية، وأعلنت التنظيمات الغربية عن إفلاسها أمام عمق التخطيط الإسلامي. أمّا الحرية والإنسانية فلا يستخدمها الغرب إلاّ كشعارات لا مضمون لها على الإطلاق... كلّ هذا ترك أثره ـ بلا ريب ـ في التوعية من حيث لا يريد العدو.

الثاني: أنّه دفع المؤمنين الحريصين على مستقبل هذه الأمّة  لاتخاذ موقف المواجهة والتخطيط الدؤوب للصحوة المباركة.

وبعد هذا الفشل لم تنفع الاستعمار كلّ أساليب التطبيع الخبيثة، ولم تجده نفعاً حتى الأقنعة الإسلامية، والمظاهر الخادعة التي تعلن الدفاع عن الإسلام، ولكنّها تحرف الإسلام نفسه في أذهان الأمّة ، وتفرغه من محتواه الثوري والتغييري، فإذا بعاداته طقوس واجترار عقيم، وإذا بنظمه قيود للحياة الفردية، وانزواء عن الحياة الاجتماعية.

إنَّه التحريف والتخريف، وهو أمر لا ينطلي على الفطرة التي سرعان ما تكتشف زيفه فينقلب الأمر لصالح الحقيقة.

وكان من جملة ما انكشف زيفه للجماهير المسلمة، تلك الصيغ الرجعية للحكم (الإسلامي)، وتلك الأطروحات البديلة المموّهة للوحدة الإسلامية، والتي صورتها للأمة وحدة بين الحكام، وراحت تعلن للأمة ـ كلّ يوم ـ أنَّها تسير على خطى تحقيق الوحدة. وتمرُّ أعوام وأعوام، وإذا بالأمة تجد نفسها أسيرة الخداع من أول الطريق، فلا الشخصية عادت، ولا الأرض السليبة استعيدت ولا الفوارق الظالمة الاجتماعية رفعت، بل سار الحال من سيئ إلى أسوأ، يغضب له الرب العظيم، ويفرح له الشيطان الرجيم.

نعم، فشلت كلّ أساليب مقاومة الهجوم الغربي بالأسلوب الغربي، لا لشيء إلاّ لأنّها كانت من صنع الغرب نفسه، وأنّى تنقذ الأمّة  من ورطتها الحادة الأساليبُ الشيوعية أو الليبرالية.

رابعاً: الأحداث الكبرى في العالم الإسلامي وفي مقدمتها نجاح الثورة الإسلامية المباركة بقيادة الإمام العالم الزاهد الشجاع الخميني، والتي هزّت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه وحقّقت حلماً كان يبدو بعيد التحقق، من شعب أعزل، لا يملك إلاّ إيمانه وقبضاته العزلاء. وقد كان لهذه الثورة المباركة، الكثير الكثير من المعطيات التي أثّرت أثراً كبيراً في تحقق الصحوة، وتناميها، وانتشارها.

وشملت تلك المعطيات الصعد الحياتية المختلفة، وأعطت الأمّة  الإسلامية والعالم دروساً رائعة. إنّها أكّدت للشعوب المسلمة:

 ـ قدرتها على أن تقارع أقوى القوى وتهزمها.

 ـ وضرورة القيادة الحكيمة، والتفاف الشعب حولها.

 ـ ولزوم تحرر العلماء من سيطرة الحكومات، ليقودوا شعوبهم.

 ـ وكيف تتدخل يد الغيب في نصرة المؤمنين وإرعاب الطغاة.

 ـ ونوعية ومقدار المعاجز التي يحققها الدور الفعّال للشعب المسلم، في الساحة السياسية والتشريعية.

 ـ وكيف يتلاحم مبدأ قيادة الفقيه العادل ونظام الشورى، في عملية رائعة الأثر.

 ـ وكيف يتحوّل كلّ التآمر الاستعماري لصالح القضية الإسلامية.

 ـ وأنّ الإسلام يستطيع ـ نظرياً وعملياً ـ أن يشمل جميع الجوانب الحياتية.

 ـ وكيف يتم تطهير الجو من الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية وفضح الأنظمة التي ادّعت الإسلام وخدمت قضية الاستكبار.

ـ ولزوم تقديم القرابين من أجل الإسلام، والدروس المعبرة في الشهادة والتسابق نحوها، بما لم يعهد إلاّ في الصدر الإسلامي الأول.

 ـ وتحدّي هيبة الدول الكافرة (العظمى) وتمريغ أنوفها في التراب.

وقد استطاعت الثورة الإسلامية أن تهزم كلّ الأساليب القومية، والوطنية الضيّقة، والشيوعية الملحدة، والليبرالية غير الملتزمة، وكل الطروحات التي موّه الغرب بها على الأمّة  الإسلامية. كما دعت إلى توحيد المسلمين ضد العدو الكافر، بأروع الخطى في هذا السبيل، وانتهجت سياسة اقتصادية مستقلة، قائمة على أساس تحقيق الاكتفاء الذاتي، فاستطاعت أن تقف على قدميها، رغم كلّ أنماط الحصار والظروف القاسية التي فرضها الاستعمار وعملاؤه، وغيّرت كلّ أساليب التعليم وأضفت عليها الصبغة الإسلامية الخالصة. وطهّرت كلّ وسائل الإعلام من أدران الانحراف والتخريف، واضعةً أسس إعلام إسلامي نزيه، واتّبعت نظاماً تربوياً إسلامياً، شمل كلّ الجوانب. ونجحت في القضاء على التناقضات الحادّة بين الفئات الاجتماعية، عاملة في سبيل الارتفاع بالطبقة المحرومة، مانعة من الإسراف وتجاوز الحد، دون أن تخرج عن الحدود الإسلامية، ولا نستطيع أن نستمر في تعداد المعطيات فهي ممّا لا يمكن عرضه بهذه العجالة.

كل هذه المعطيات وغيرها كثير كثير أحدثت ثورة في كلّ مكان، وهزّت الجماهير هزّاً، وفتحت آفاق الأمل نحو الغد الإسلامي، الأمر الذي لاحق شبحه الاستعمار وعملاءه في كلّ مكان، فراح يعيد النظر في حساباته من جديد، بعد أن أعلنت عقوله الالكترونية المعقدة فشلها في تقرير الموقف الجديد.

على أنّنا يجب أن لا ننسى وجود بعض العوامل الأخرى للصحوة، ولكنها ـ مهما تسامت ـ ثانوية جداً، لا تستطيع أن تحظى بهذا الشرف الكبير.

 

ديمومة الصحوة

أولاً: صيانة الصحوة

إنَّ هذه الصحوة من أعظم النعم علينا، فينبغي أن نشكر الله تعالى عليها، وشكر هذه النعمة يعني الانسجام معها، ووعيها جيداً، والعمل على تعميمها وتعميقها وديمومتها في الحياة. فالتحوّل الكبير لا يتم إلاّ في فترات الصحوة العامة، والقائد الفذ هو الذي يستطيع أن يضمن الوعي المتأجّج حماساً في شعبه  لقضيته الكبرى، فإذا ما خبا ذلك التأجّج، كان ذلك ايذاناً بموت المسيرة بلا ريب. إنّ التأجّج الواعي ليحوّل كلّ العقبات إلى جسور، وكل المؤامرات المعادية الى ضربات معاكسة، يزكّي بها نفسه، وينفي عن وجوده النفايات الضارة.

ويجب أن لا تغيب عن بالنا حقيقة مهمة هي: أنَّ الإيمان قد يحصل في لحظة صحوة وبكل سهولة، ولكن الأمر الصعب هو الاستقامة على خطّه، والعمل بمقتضياته، والصمود أمام الضربات والعقبات الداخلية والخارجية. وربما كانت هذه الصعوبة هي السر الكامن في قوله ’: <شيبتني سورة هود>([7]). وذلك لمكان آية الاستقامة فيها: (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ)([8]).

وهكذا يمكن أن ينطبق الأمر على التحوّلات التي تحدثها صحوة اجتماعية ما، فقد يكون السيل عارماً، والثورة ضخمة بحيث لا يقف أمامها الطغاة، وقد تحدث بارقة فتعمُّ الصحوة قطاعاً واسعاً.

أمّا الأمر المهم فهو المحافظة على الصحوة، ونتائج الثورة المباركة، وإدامتها بعد أن يهدأ الطوفان، ويملك العدو الفرصة الكافية للمواجهة والتخطيط، بل وتنسحب من الميدان العام عناصر فقدت فاعليتها، أو رأت الأمر على خلاف مصلحتها الذاتية، أو غير ذلك ممّا يوجد ـ عادة ـ في سبيل العاملين.

ومن هنا فإنَّ على كلّ الواعين القادة، وكل مسلم يدعو ربّه أن يجعله للمتقين إماماً، أن يجعلوا الحفاظ على الصحوة، بل وتوسعتها وتأجيجها، في طليعة ما يفكرون به، ويعملون على صيانته، وإلا فالخيانة العظمى، والتفريط المخزي، وأنَّ عليهم أن يديموا دفع عجلة النهضة الفكرية والعملية، بكل ما يملكون من طاقة، وبعد أن يحرروا وجودهم وفكرهم من سيطرة الطواغيت، والعمالة للأجنبي، فالتحرير الذاتي شرط أساس لعملية التحرير الإجتماعي.

وينبغي لهم أن لا يتوانوا في عملية ضخ الزخم الثوري في العروق النابضة. فأي فتور في ذلك يعني النكوص بلا ريب، وعندما أتحدّث عن الثورة فلا أعني إلاّ التغيير على الخط الفطري الصاعد، والذي تتلاحم فيه العقيدة والمفاهيم، والعواطف والأعمال، وهو ما أشرنا إليه آنفاً.

 

ثانياً: الصحوة والتطرُّف

لابدّ أن ننبه إلى أنَّ هناك أعراضاً قد تصاحب عملية الصحوة، أو عملية الثورة، ينبغي للعاملين أن يلتفتوا لها:

فمن أعراض الصحوة ما قد يبدو لدى بعض الأشخاص من تطرُّف في تقييم الجهاد، حتى ليرفض الدخول في أي حوار فردي بنّاء، أو حكم لسلوك خاص، بحجّة الانشغال في عملية الجهاد، بل قد يكون التركيز كله على نصوص الجهاد، مع إهمال النصوص الأخرى. وما هي  ـ جميعاً ـ إلاّ أجزاء لنظام فكري وعملي متلاحم، لا يتم عطاؤه إلاّ بالتركيب والتناغم والانسجام، وقد ابتلينا في ايران وغيرها بأناس جهلة، تصوّروا أنّ الإسلام ينحصر في هذا المعنى، وانحرفوا إلى الحد الذي نبذوا معه الإسلام نفسه، وانخرطوا في المسلك اليساري الالحادي.

كما أنَّ من أعراضها على الصعيد الاجتهادي أن يفرط المرء في التجديد، حتى لينبذ الأسس القويمة التي أسّسها القدماء من المفكرين المسلمين، وحتى ليتصوّر الإنسان أنَّه ينبغي أن ينفصل عن كلّ تراثه، بحجّة الصحوة الجديدة.

إلا أنّ الصحوة إذا امتلكت قيادتها الوعي، وأحست في شتىّ مجالاتها بالشمول الإسلامي والتفاعل الإنساني، كهدف إسلامي، لم تنحرف إلى مجالات التطرُّف.

على أنّنا يجب أن لا نغفل أمراً آخر هو أنَّ الكثير ممّا توصم به الصحوة الإسلامية اليوم من تطرّف يعبّر عن لؤم، أو تقاعس، أو تخطيط خبيث للقضاء عليها، أو استسلام لفهم جامد، أو لهوى حاكم فاسق، أو ما إلى ذلك من الأدواء التي يصاب بها بعض الناس.

ثالثاً: الصحوة والتهم

رأينا أنَّ صحوة الأمّة  الإسلامية أمر حذّر منه دهاقنة الكفر على مرّ العصور، بعد أن أدركوا أنَّ الإسلام إذا انطلق من عقاله تحمله جماهيره الواعية فلن يبقى لنظمهم ومصالحهم وخططهم المستقبلية باقية، وقلنا إنَّ الاستقامة على الصحوة هو الأمر الأصعب، بعد أن تنتشر الشبهات، ومن هنا فقد بدأت التهم الاستكبارية تنهال، وتتشكل بأشكال مختلفة، ورحنا نستمع إلى عبارات من قبيل: الفئة التقليدية، الفئة الرجعية، الفئة التي تخرق الأعراف الاجتماعية، الفرق الانتحارية، الإرهاب الإسلامي، وما إلى ذلك.

وإذا كانت التهم قد استطاعت أن توقف مسيرة الإسلام العظيم الهادرة في الصدر الأول، فإنَّها تستطيع أن تؤثّر أثرها اليوم، أما والوعي الثوري الأصيل ينتشر، والجماهير حاضرة في الساحة الإسلامية العامة، والمفكرون الواعون يتصدون لنشر الحقيقة، فإنّ كيد الشيطان الأكبر، والشياطين الصغار، يرد إلى نحورهم بلا ريب، بفضل الله تعالى وعنايته.

 

رابعاً: الصحوة الاسلامية والاحتواء

عملية الاحتواء ثم التحريف هي من أخطر العمليات التي واجهها الإسلام خلال تاريخه الطويل، وهي ـ نفسها ـ أخطر ما تواجهه الصحوة الإسلامية اليوم... لقد تمثّلت الصحوة في عطش جماهيري حاد لتطبيق الإسلام على كلّ شؤون حياتها، وطرحه على الساحة العالمية مبدأ يهزم أمامه كلّ المبادئ المنحرفة، ويعمل على نفي كلّ البؤر الطاغوتية في الحياة والمسيرة... وما أن أحس الاستكبار بأنّه لا يستطيع أن يواجه هذا السيل حتى خطّط لاحتوائه أو امتصاص كلّ ذلك الشوق الجماهيري من خلال مسرحيات وعمليات وشعارات برّاقة تخلب الألباب، دون أن تحمل مضموناً خاصاً، وصرنا حينئذ نشهد على الساحة الإسلامية اتجاه الكثير من الأنظمة لطرح الإسلام، وإعلان الكثير من الحكّام التدين المصطنع، وعقد الكثير من المؤتمرات الضخمة المترفة باسم الإسلام، بل وتشكيل المنظمات الدولية (الإسلامية)، وتفرعها الأخطبوطي، بما يشمل مختلف الجوانب، بحيث ينبهر المرء المسلم عندما يواجه هذا العمل الإسلامي الضخم، وراحت القرارات تصدر الواحد تلو الآخر، لتعبّر عن الطموح الموحّد، بل واُنشئت عدة تنظيمات وجمعيات كبرى، باسم العمل على حمل هم الإسلام الى العالم. هكذا شهدنا تتابع الرجوع إلى الإسلام من قبل الأنظمة، حتى اُتخمنا بهذا الحديث.

وظنَّ الاستكبار أنَّه يستطيع من خلال ذلك خداع الجماهير المسلمة، وامتصاص شوقها، وزاد في تصوّره هذا انجذاب بعض الأفراد والفئات إلى اللعبة.

أما الحقيقة فبقيت كما هي ناصعة بعد أن شهدت الجماهير المسلمة هذا الهوان والتراجع المتزايد أمام العدو، وهذا البيع المتزايد للثروة وتقوية العدو، وهذا الترف والسرف والفجور الذي يمزّق الحجب والأقنعة، وهذا التآمر السافر على الأمل الإسلامي الجديد، وهذه الفوارق الطبقية الهائلة، بل وهذه المذابح هنا والمراقص هناك، وهذه المجاعة هنا والتخمة هناك، <وما جاع فقير إلاّ بما متع به غني>([9]) كما يقول أمير المؤمنين علي.

وكلمة أخيرة نقولها لهؤلاء الذين يقفون في وجه الصحوة: إنَّ الله تعالى أذن لعصر العودة أن يبدأ، ولمسيرة الإسلام الحاكم أن تنطلق، ولن تستطيع كلّ أنماط التآمر والخذلان، والتهم والاحتواء، أن توقف الزحف الإسلامي المقدس.

كما أقولها لجماهيرنا الإسلامية الواعية: إنَّ علينا أن نطمئن دائماً إلى نصر الله وعونه ـ تعالى ـ فإذا ما حققنا في أنفسنا قابلية الفيض الإلهي، فإنَّه تعالى فياض لا ينقص فيضه ولا يبخل به، ولتعلموا أنَّ العقبات والضربات أمر طبيعي في المسيرة، بل هي مصدر قوة، إذا وعينا كيف نتلافاها، أمّا الألم والقرح فهو أمر يصيبنا كما يصيب العدو في حين نتفوّق عليه بالأمل العظيم بالله تعالى، وهو أعظم دافع للنصر والفوز:

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا يَرْجُونَ) ([10]).

 

الصحوة الإسلامية بين الترشيد والتضليل

قضية الصحوة الإسلامية ـ اليوم ـ هي الشغل الشاغل للاستكبار العالمي، ولكل العملاء الذين نصبهم قيوداً على حركة هذه الأمّة ، كيف يجهضها؟ وكيف يفرغها من محتواها؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى، هي تشكّل القضية الرئيسية للواعين الداعين إلى الحق، كيف يرشّدونها ويزيدون من حرارتها، ويستثمرون فرصتها لإعادة الإسلام إلى واقع الحياة؟

فهي إذن قضية كبرى، وهناك إذن اتجاهان:

 ـ اتجاه الإجهاض والاحتواء.

 ـ واتجاه الترشيد والتصعيد، الفكري والعاطفي.

أمّا اتجاه الترشيد والتصعيد، فتقوده قيادات العمل الإسلامي وفي مقدّمتها الثورة الإسلامية المباركة وقائدها العظيم؛ لأنّها كانت أعظم الأسباب في إيجادهذه الصحوة. وهذا الاتجاه المبارك يمتدُّ إلى القلوب، وخصوصاً الواعية القوية الشابة منها، فلا توقف إشعاعه الفكري والحماسي سدود أو حدود، بل ينغرس في أعماقها، ويمتدُّ كشجرة طيبة، ويفرع ويثمر، وعياً وحماساً وانشداداً للإسلام، ونقمةً على أعدائه، وملاحقةً لنظم الكفر، وضغطاً على الحكام العملاء؛ كي يقلعوا عن عمالتهم.

وهذا الامتداد والتوسُّع هو مصدر القلق العظيم الذي طفح على ألسنة المسؤولين في دول الإستكبار العالمي، فراحوا يخططون ويخططون، لبلورة الاتجاه المقابل له، اتجاه الاحتواء والتوجُّه المنحرف، وتفريغ الشحنة دون التعرُّض للخطر، فما هو الأسلوب الذي أعدّوه؟

إنَّهم رأوا المقاومة عقيمة، وأنّ الصحوة والثورة آتية، فيجب الالتفاف عليها، من خلال العملاء المزروعين هنا وهناك، أو من خلال المخدوعين، وطيبي القلب إلى حد السذاجة. فكان الأسلوب هو محاربة الثورة الإسلامية من خلال الأساليب الدينية نفسها، تماماً كأسلوب الإسرائيليات الذي حاول أن يضرب الإسلام بأساليبه وبطرقه هو. وتنوّعت تطبيقات هذا الأسلوب:

فمنها: عقد المؤتمرات والندوات الإسلامية من جهة، وتقليل الشكل الظاهري للانحراف من جهة أخرى، مع التركيز على التضليل الخفي.

ومنها: طرح الأفكار الاستسلامية، وأنصاف الحلول، والاستشهاد بالنصوص الإسلامية، مع فصلها عن واقعها وشروطها الصحيحة.

ومنها: اتّهام أولئك الذين لا يستسلمون بالتطرُّف، والهمجية والتقليدية، والرجعية، والخروج على طريقة السلف، وعصيان أولي الأمر، وشقّ عصا المسلمين، متناسين أنّ بعض الحكام اليوم يمثّلون معاول تحطّم الوحدة الحقيقية، وعقبات كبرى في سبيلها.

وكانت أهم الأفكار مكراً الفكرة التي دعت الى مدّ الجسور بين الحكّام والشباب المسلم الناهض على حساب الإسلام نفسه ومع التنازل عن مقتضياته، بل وربما طلبت من العملاء أن يكونوا هم الجسور بين هاتين الشريحتين المتنازعتين اليوم، فلا يخيفوا أي طرف من الآخر، ويهدئوا من ثورة هذا وعنف الآخر، لكي تمرَّ الأزمة بسلام!

ولكن ماذا يعني ذلك غير ترسيخ أقدام الحاكمين بعد أن تزلزلت الأرض تحتهم، وغير تكريس عمالتهم للأجنبي، وغير إجهاض هذه الصحوة واحتوائها بالأساليب التي تنصبغ بالصبغة الدينية؟ وماذا تعني غير إرجاع العجلة إلى الوراء بعد أن توافر الجو المناسب لكي تتقدّم إلى غدها الإسلامي المشرق، غد الحكم الإسلامي في كلّ الأرض الإسلامية، غد تطبيق الإسلام في كلّ شؤون الحياة، وغد مقارعة الطواغيت الكبار، وتحقيق حلم الأنبياء؟

وعلى أية حال؛ فما أن أعلن عن عقد مؤتمر الصحوة الإسلامية في الجزائر، حتى رأينا التنظير (الإسلامي) الكاذب يبثُّ هذه الفكرة بين العقول، ويطلب من كلّ المرتزقين أن يتّبعوا هذا الخط، وهكذا طلعت علينا مجلة (المجلة) وفيها ما يناسب كلّ ذوق من (الفنانين والراقصين إلى العلماء والمحققين) في عددها 229 والمؤرخ 30/ حزيران ـ 6 تموز/ 1984 الموافق 1 ـ 7/ شوال/ 1404 هـ (أي قبيل انعقاد المؤتمر تماماً) طلعت لترسم لنا الخط المذكور تماماً، وأنّ من طالع ما كتبه المنظّر الديني لمجلة (المجلة) يدرك أبعاد التآمر ـ الآنف الذكر ـ إذ كتب تحت عنوان: حسن النية في علاقة الحكام ودعاة الإسلام:

لابد من كسر تلك السلسلة النكدة من الفعل ورد الفعل في العلاقة بين الحركة الإسلامية ودعاة الإسلام من جهة، والسلطات الحاكمة من جهة أخرى، فهي ـ كما أسلفنا القول ـ سلسلة لا تجرّ إلاّ إلى الأحقاد والعداء، بل تزيدها وتواصلها، وهذا أمر يعود بالضرر على الطرفين في هذه العلاقة، ويعود بالضرر الكبير على الأمّة  كلها، ولا يفيد إلاّ أعداء الأمّة . (أما التسليم والحل الوسط فهو في صالح الأمّة  وليبق الوضع على ما هو عليه)([11]).

ولكن كيف يتم الخروج من هذه السلسلة، وحلقاتها المتتابعة المشؤومة، وقد أوجدت ما أوجدته من مشاعر تبدأ بعدم الثقة ولا تنتهي عند التوجّس والخوف الذي يساور كلاً من الطرفين؟ [وإنما تسير إلى حد الثورة ضد الظالمين] .

إذا عرف كلّ من الجانبين ما يريده الجانب الآخر، واعتبره حقاً مشروعاً له، واستطاع أن يقنع نفسه بأنّه يستطيع التعايش مع هذا الحق، أمكن أن ننتقل إلى الخطوة التالية، وهي بذل محاولة لإحلال حسن النية، في نفس كلّ من الطرفين تجاه الطرف الآخر، محل التوجّس والخوف وعدم الثقة، بل ومحل التفكير بالإساءة والأذى، ثم تنفيذ ذلك، أي لابدّ من نقض ما يحدث في البلاد العربية منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

ترى ما الذي تريده أية حكومة من أية مجموعة من المواطنين في بلادها، لا تشاركها الرأي، ولا تقتنع باسلوبها في الحكم؟ لو ذهبنا نسأل لأتانا الجواب أن الحاكم يريد أن يطمئن أولاً إلى أنه غير مستهدف بشخصه أو نظامه من قبل تلك المجموعة [فلا يُسأل ولا يُنتقد، كيفما حكم، ومهما فعل] ،

ويريد بعد ذلك أن يلتفت إلى تنفيذ برنامجه دون معوقات غير مشروعة(!)

 وهكذا تتلخّص المسألة في استمرار الحاكم في السلطة وتطبيق البرامج لا غير...، [وليست هناك أية أهداف استعمارية والحمد لله!!] .

أمّا الذي تريده الحركة الإسلامية ودعاتها فهو ـ على ما يردده رجالها وقادتها ـ أن تبلّغ دعوتها للناس بحرية ليكون أمامهم الخيار مفتوحاً بكل حرية، فإما أن يقبلوا دعوة الإسلام أو يرفضوها، وأن يكون دعاة الإسلام أحراراً في مخاطبة الناس ليبينوا لهم خير الإسلام ومزاياه، دون أن يخافوا عسفاً واضطهاداً من جانب السلطة، بل يجدوا الأمن والطمأنينة على أنفسهم وأسرهم وهم يقومون بمهمتهم هذه، فالهدف هو حرية الدعوة لا غير [ أمّا العمل على تطبيق الإسلام ونفي الظلم فهو غير منظور] .

ومعنى هذا أنّ المطالب الأساس لكلٍّ من الطرفين هي الأمن وحرية العمل، كلّ في مجاله، وليست هذه المطالب بالتي يصعب الاتفاق عليها، أو تنفيذها، إذا ما توفر حسن النية لدى الجانبين، وتوفره ليس بالمطلب العسير، أمّا على صعيد الدول فقد كانت الدول والأقوام تتخاصم وتتحارب، وتستمر الحرب بينها سنين طويلة، ثم تصطلح فتحسن علاقاتها، وتحل الصداقة محل العدواة القديمة، ويكفي أن تنظر إلى وضع ألمانيا مع فرنسا وبريطانيا اليوم. وأمّا على صعيد الأفراد فالمسألة تنطبق بشكل أوضح، والمثل يقول: لا تأتي الصداقة إلاّ بعد عداوة، والمقصود أنّ الصداقة الحميمة هي التي تأتي بعد العداوة، [والمطلوب هو الصداقة الحميمة مثلاً بين ببرك كارمل والمجاهدين، وشاه ايران والثورة الإسلامية] .

فأمّا الأمن فالمفروض أنّه متحقق أصلاً. فواجب الحكومة أن تكفل الأمن للمواطنين، ودعاة الإسلام فئة من المواطنين اختارت دين الله منهاجاً ودستوراً وأحبت أن تدعو الناس إلى الخير الذي يشتمل عليه هذا الدستور، وليس في اختيارها ما يخرج بها عن دائرة من يجب على الحكومة أن تكفل لهم الأمن. ومع توفّر حسن النية المتبادل لا يبقى سبب يمكن أن يساق في تبرير حرمان دعاة الإسلام من الأمن.

وأمّا أمن الحاكم على نفسه ونظامه من دعاة الإسلام، فقد ذكرنا من قبل أنّ الاغتيال السياسي ليس من الأساليب التي تنتهجها الحركة الإسلامية، كما أنّ فكرة الانقلاب غريبة على حسها، إذن هنالك أمن مبدئي للحاكم ونظامه، بالرغم من حوادث الاغتيال التي وقعت فعلاً، فتلك كانت ـ كما بينا ـ عمليات فردية استهدفت رد اعتداء على الإسلام نفسه، أو كان ذلك من أوهام القائمين بتلك العمليات، وعلى أي حال، فإنّ العمليات الفردية لا يحسب لها حساب في هذه المبادئ العامة.

ولا يمكن أن يؤخذ قطاع من المواطنين بجريرة أفراد، لمجرد الاشتراك في الفكرة العامة والمبدأ، ثم إنّ إحساس كلّ من الطرفين بأنّ الآخر يبادله حسن النية أكبر ضمان لعدم تكرارها.

وحرية العمل كذلك يفترض أن تكون متحقّقة، فنحن نفترض في أية حكومة تقوم في بلد إسلامي أن لا تعادي الإسلام، وأن لا تسعى إلى إخماد صوته، وطالما أنّ الحركة الإسلامية تجعل هدفها تبليغ دعوة الإسلام فإنّ المفروض ـ نظرياً ـ أن لا تحول الدولة بينها وبين هدفها هذا [نعم، إذا كان هدف الحركة الإسلامية هو الوعظ فقط فما الضرر منه؟] .

وأما حرية الحاكم في العمل فإنّ الأصل أنّ للحاكم على الأمّة  حق النصح، فالدين كما يقول رسول الله’: «هو: (النصيحة)» وعندما سئل «لمن؟» أجاب’: « لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [وهكذا يعدُّ هؤلاء العملاء أئمة للمسلمين] فالحاكم ـ كلّ حاكم ـ يحتاج إلى النصح الأمين ليتجنّب المزالق والكوارث التي تعود بضررها على الأمّة ، والمفروض أنّ النصح للحاكم حق الأمّة  وواجبها، فإذا وجد دعاة الإسلام من الحاكم أنـّه يستمع إلى نصح الأمّة ، وهم ـ كقطاع من الأمّة  يستطيعون تقديم النصح له، فما يطالبونه بعدها بشيء، قبل نصحهم أو رفضه [فالنصيحة ـ أنّ لم تستتبع مخاطر ـ هي أقصى هدف] .

هنا قد يقول قائل: «وهل نسيت أن دعاة الإسلام يجعلون هدفهم تطبيق شريعته، وهو أمر قد لا يرضاه الحاكم، أو لا يحدث هذا تناقضاً بين الطرفين يجلب العداء والخصومة؟»([12]).

أمّا جواب السؤال فيتحفنا به (هذا المنظّر) بعد هذا المقال في الأعداد التالية يتلخّص في السعي لإقناع الحكام بضرورة التغيير، وأنّه أنفع لهم، ثم يكتب:

«وإذا تمّ ذلك فقد تجاوزنا المرحلة الصعبة بكل نجاح».

والواقع، أنّنا لا ندري أيّها أشدّ خطراً على الصحوة الإسلامية، هل المساومة النصفية مع حكّامهم هؤلاء، أم اتجاه حكامهم نحو تحقيق المثل الأعلى المضروب، حيث تتحوّل الأرض الإسلامية إلى بقرة حلوب ذلول للاستكبار وعملائه المفضوحين؟! أما الذي نعلمه ـ جيداً ـ فهو أنّ كلّ هذه الأساليب التي نبذتها أمتنا الإسلامية وكل هذا (التخدير الإسلامي!) قد انتهى مفعوله أمام وعي جماهيرنا الإسلامية لطريقها ولأهدافها وللعقبات المزروعة في هذا الطريق، وإن صبح الإسلام سيتنفس بعد ليل الغفوة البهيم.

ومع هذا فإنّنا نؤكّد أنّ ردم الهوة بين الحكام والمحكومين إذا كان يؤدي إلى خدمة القضية الإسلامية فنحن معه بكل قوة.

 

 



([1]) الاعتقادات (الصدوق) ص105.

([2]) الخصال (الصدوق) ص 21.

([3]) الحديد: 16.

([4]) دلائل الإمامة (الطبري) ص 183.

([5]) الماعون: 1ـ3.

([6])  إنّ من كان يرى ايران في عهد الشاه يصيبه الذهول لمصير هذه الأمّة ، واليأس القاتل من هداها، وعودتها إلى الإسلام.

([7]) كنز العمال ج1، ص 574.

([8]) هود: 112.

([9]) نهج البلاغة ج4، ص78.

([10]) النساء: 104.

([11]) تعليقات المؤلف وضعت بين قوسين معقوفين ‌‍]....[

([12]) مجلة (المجلة)، العدد 229.