الـوحـدة الإسـلامـيّة

الـوحـدة الإسـلامـيّة

 

 

الـوحـدة الإسـلامـيّة

 

 فهمي الشناوي

 

ملخص البحث:

1 - اكتب هذا بصفتي «رجل شارع» مسلماً لا فقيهاً، وداعياً إلى أن يعطي الفقهاء «رجل الشارع» اعتباراً، واعتبار الفقه اجتهاداً، وتوصيل هذا الاجتهاد بالوسائل التكنولوجية الحديثة، وكلّ خطوة تكون لها نتيجة محسوسة.

2 - أساس وحدة المسلمين السياسية من القرآن آية ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(1). ومن السنّة إخاء المهاجرين للأنصار كأساس وحيد لقيام دولة المدينة، وبدون أي خطوات أخرى.

3 - كما أنّ اللغة لا يجوز أن تفرّق المسلمين وكذلك القومية وكذلك الوطنية، فإنّ المذهبية لا يجوز التعصّب لها واعتبارها اجتهاداً، أمّا الوحدة فهي إلزام مقدس.

4 - الوحدة المقدّسة يمثلها الخليفة أو الإمام أو مؤسّسة الخلافة، وهي إما خلافة صحيحة أو ناقصة أو فاسدة، وحالياً الخلافة الصحيحة متعذّرة، فهناك - كبديل مؤقت -

_______________________________________

1 - سورة الأنبياء: 92.

 

ـ(282)ـ

الخلافة الاضطرارية وتمثلها إيران حالياً، ونأمل تطويرها إلى خلافة صحيحة كاملة.

5 - في صدد التقريب بين المذاهب، أرى أنّه يلزم إصدار قاموس فقهي يعرِّف «رجل الشارع» بآراء فقهاء المسلمين كافة في كل قضية، وله أن يستخدم في كل قضية الاجتهاد الفقهي الذي يناسبه؛ فقاموس الفقه سيخدم الفقه كما تخدم قواميس اللغة أي دارس للّغة.

ويلزم إصدار خريطة بآل البيت توضح علاقات القرابة والمصاهرة بين آل البيت كافة، فلا شكّ أن آل البيت هم القادرون على توحيد المسلمين كلما تفرّق بهم الطريق، المهم أن تكون الخارطة أمام «رجل الشارع»، وسيرى أنّ آل البيت كانوا وحدة واحدة، وإنّما نحن الذين صنّفناهم إلى أحزاب في خيالنا السياسي في نوع من الردة التي حدثت بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

ويلزم إحياء تنظيم «أهل الحلّ والعقد» على مستوى الأُمة، وبواسطة برلمان إسلامي يمثّل كل الأُمة.

ويلزم فك الحصار المفروض على إيران بواسطة المسلمين المقيمين في الغرب في مناخ ديموقراطي يسمح لهم بالتحرّك.

ويلزم استخدام التكنولوجيا في الإعلام الوحدوي الإسلامي كالقنوات الفضائية والبرامج الكومبيوترية والأفلام وغيرها.

ويلزم إعطاء الذين دخلوا الإسلام حديثا - بعد تفكير واقتناع - دوراً ايجابياً في بناء الوحدة.

وتبقى بعد ذلك كلمة: إن أهمّ شيء أنّ الله يزعُّ بالسلطان ما لا يزعُّ بالقرآن.

﴿إنَّ هذه أُمتُكم أُمّةً واحدةً﴾: أحمد الله تعالى على أن وفّقكم إلى الدعوة لوحدة المسلمين في وقت تحاصركم

ـ(283)ـ

فيه قوى الاستكبار الدولي وفي وقت يتنكر فيه غيركم لقضايا المسلمين، أو يستسلم فيه لقوى الاستكبار هذه ويتّخذها ولياً، أو يحارب الإسلام جهراً أو سراً.

وفي اعتقادي أنّ هذه أول مرّة في التاريخ الإسلامي تقوم فيه دعوة رسمية علنية لتوحيد كلمة المسلمين مذهبيّاً، أو على الأقل التقريب بين المذاهب الإسلامية، ممّا يجعل هذه نقطة تحوّل تاريخية لها ما بعدها.

وإذا كان لي أن أشارك في هذا الإنجاز التاريخي المحمود فإنّني أقدم نفسي بصفتي رجلاً من عامة المسلمين، أي ممّن يمثلون ما يسمّى بـ «رجل الشارع» المسلم، فلست فقيهاً ولا عالم دين ولا متخصصاً في أيّ مذهب، وربما بهذه الصفة - صفة كوني عيّنة من العامة لا الخاصة - أمثل نسبة غالبة في الأُمة الإسلامية، ومن ثمّ فشعوري الذي أبديه هو شعور الأغلبية الصامتة أو الأغلبية المشاهدة.

إنّني بهذه الصفة أقول: - والله يشهد على صدق ما أقول - إنّني أحبّ واشتعل وأتوق إلى لحظة تحقيق وحدة المسلمين أكثر ممّا أُحبّ الأهل والمال والولد، وكنت دائما أدعو الله ألاّ يموت الإمام الخميني - رحمه الله - قبل أن يحقّق هذه الوحدة، وكانت هذه الدعوات لله تتردّد لا في كل صلاة فقط وإنّما بين الصلوات، وكلما حملت همّاً يوميّاً من هموم الأُمة الإسلامية التي لا تنتهي، ولكن رحمة الله تعالى ورضاه أدركا الإمام قبل تدارك الأُمة بالوحدة.

وبصفتي من عامّة المسلمين وبصفتي متيّماً بهذه الوحدة، نلقى بهذا السبب وحده درجات مختلفة من الاستهجان، ثمّ الاستنكار ثمّ الإيذاء النفسي والجسدي والمادي في النفس والمال والولد وكأننا أجرمنا، ولا أريد أن أخوض في وصف صور الوحل والصديد الذي يساق إليه الآلاف ممن يهيمون بهذه الوحدة الإسلامية، زملاء في الله، لم تعرفهم من قبلُ ولا يربطك بهم إلّا هذا الحب في وحدة المسلمين ! وأن تجد شعارات الوحدة

ـ(284)ـ

الإسلامية مكتوبة داخل جدران زنزانات التعذيب بالدماء أو محفورة بالأظفار! وأن تجد هذه الشعارات مرفوعة علناً في أوجه الشرطة، وزبانية التعذيب ورجال السلطة، وكلّ هذه المعارك والتعذيب والاغتيالات تدور حول قضية واحدة هي الوحدة بين الأُمة، أنصارها ضد خصومها ؛ أنصارها من ناحية وأنصار السلطة من الناحية المضادة، أنصارها لا يملكون إلاّ حب الوحدة الإسلامية، وخصومها يملكون سلطة الدنيا كلها من مال وإعلام وقهر، أنصار الوحدة لا يملكون إلاّ دماً نقياً يجري في عروقهم، والسلطات تملك السيف، والسيف يهدر دماً وراء دم وراء دم.. فهل اقترب اليوم الذي يغلب فيه الدمُ السيفَ؟ ربّما كان مؤتمركم هذا مؤشراً على ذلك.

المهم أن تعرفوا أنّ «رجل الشارع» المسلم - أي الرجل من العامة - إنّما يمثل الآن قدراً كبيراً جداً من الدم المسلم الذي يهدر في كل بقاع الأرض الآن من البوسنة إلى فلسطين إلى الشيشان إلى كشمير إلى الجزائر، وفي كل معسكرات الاعتقال والتعذيب، ولا سبب لإهدار هذه الدماء المسلمة الزكية إلاّ محاولة الاستكبار منع الوحدة الإسلامية؛ يريد الاستكبار أن يفتّت الإسلام والمسلمين بكل وسائل التفتيت، سواء كان التفتيت بالمذاهب أو بالقوميات أو بالأوطان، يعني بوضوح كامل: المذهبيّة تستخدم الآن كما تستخدم النعرات القومية والنعرات الوطنية، ومن ثمّ فإنّني أقول: إنّ رجل الشارع المسلم قد يكون أخلص للوحدة من كثير من المذهبيين أو القوميين أو المتعصبين لوطن، سواء كان الوطن إسلاميّاً أو غير إسلامي، أو على أقلّ تقدير يجب أن تعطوا رجل الشارع المسلم بعض الاهتمام الذي هو حقه الأصيل فعلاً.

الوحدة الإسلامية ليست أملاً ولا حلماً فقط ولكنها أمرٌ أمرَ به الله تعالى ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وهي أوّل شيء أتاه الرسول وبنى عليه دولته في المدينة حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، وجعل من هذه المؤاخاة جوهر

ـ(285)ـ

المفهوم السياسي أو أيديولوجيا دولة الإسلام؛ فمعنى إخاء المهاجر للأنصاري أنّ أُخوة الإسلام هي فوق أُخوّة الدم ذاته، ومن ثمّ فهي فوق أُخوّة الأوطان وأُخوّة القوميات، وهي أيضاً فوق أُخوّة المذهبيات.

هذه الأُمة الإسلامية الواحدة ممزّقة الآن بسكاكين القومية والوطنية والمذهبية، وكلما دعيت إلى الوحدة الإسلامية كان الرد: هذا تدخل في الشؤون الداخلية لكلّ دولة من هذه الدول. أي أصبحت آية ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..ِ.﴾، ومبدأ مؤاخاة المهاجر للأنصاري محرّمين وممنوعين ومعاقباً عليهما، وقد يعدم من يدعو إليهما !.

إنّ المبالغة في المذهبية لا تفترق عن الشوفينية القومية والشوفينية الوطنية، تفرق بنفس القدر الذي يمنع به الحاكم القومي أو الحاكم الوطني قيام وحدة هذه الأُمة، وبدلاً من أن تصبح المذاهب المختلفة روافد تصب في نهر الإسلام ووسائل نقل فكري توصل الأُمة الإسلامية إلى تحقيق الأمر الإلهي ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..ِ.﴾ تصبح هي التي تُخضِع الإسلام لها وتعتبر مَنْ دخل في مذهب معين هو المسلم فقط. بينما الوضع الصحيح أن تَخضَع هي (أي كلّ المذاهب) للإسلام بحيث تحقّق الأمر الإلهي ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..ِ.﴾.

أُمتنا كافة مارست المذهبية نحو (13) قرناً، وذاقت مرارة الشوفينية والتعصّب القومي والوطني والمذهبي. يجب أن ننظر الآن إلى كل المذاهب على أنّها اجتهادات وأنّ لكل زمان اجتهاداته، ولا يمكن لأيٍّ من أئمّة المذاهب أن يدرك ما سيصيب الأُمة من بعد وفاته وعلى مدى آخر الزمان.

غير معقول أنّ أذان الصلاة الإسلامي لا ينقطع عن الانطلاق لحظة واحدة من بقاع الأرض طوال اليوم والليل، وغير معقول أنّ الطواف حول الكعبة لا ينقطع أبداً ليلاً ولا نهاراً، وغير معقول أنّ كل المسلمين يقرؤون نفس الآيات ثمّ بعد ذلك يتحاربون

ـ(286)ـ

ويهدرون دماء بعضهم، لأنّ هذا مذهبه مختلف عن هذا ففيم أذن القرآن ؟ وفيم إذن أذان الله أكبر ؟ أكبر من ماذا ؟

لست أقول بإلغاء المذاهب، ولكن أقول: إنّ كل مذهب هو صفحة واحدة في كتاب الإسلام، ويجب أن نقرأ كتاب الإسلام كله وليس صفحة واحدة منه، صحيح أنّ كل صفحة هي كنوز فكرية، ولكن الاكتمال والوحدة الإسلامية لا يتمّان إلا بجمع صفحات الكتاب معاً في مجلد واحد، فأيّ كتاب مهما كان قيّماً إذا مُزّقت صفحاته بعيداً عن بعضها انتهى مفعوله ككتاب، ومن ثمّ فإن مؤتمركم هذا في سبيل تقريب المذاهب تحمدون عليه، وندعو الله أن يتدّرج هذا التطوير إلى دمج كل صفحات الكتاب معاً في كتاب واحد على يد عبقريّ مسلم يوماً ما.

إنّ السرّ في التعصب المذهبي أو الطائفي هو غياب الإسلام السياسي، غياب الوعي السياسي عند بعض الفقهاء، غياب الاهتمام برجل الشارع المسلم، غياب الشعور بعالمية الإسلام، ومن ثمّ لقد كان ظهور آية الله الخميني - رحمه الله - واهتمامه بالإسلام السياسي ومستضعفي المسلمين وعالمية الإسلام هو بدء ذوبان الطائفية وبدء اختلاط الكتل التي كانت مجمّدة في كيان واحد. الإدراك لعالمية الإسلام والإدراك بأنّ المسلمين مستضعفون لابدّ أن يحرّك الإنسان نحو توحيد المذاهب أو على الأقل التقريب بينها.

والسؤال الذي يفرض نفسه هل المذاهب اجتهادات أم أديان ؟ إنها اجتهادات لدين واحد، وليست أدياناً مختلفة، وإنّما هم فقهاء أو أئمّة لنبيّ واحد ولقرآن واحد، وإنّ الاجتهاد يجب ألّا يتوقف وإنّما يتطوّر مع حركة التاريخ.

حركة التاريخ الآن تحتّم تسوية الصفوف، تلك الحركة التي نبدأ بها كل صلاة، ونحرص عليها في الصلاة، ويجب أن نطبّقها عملياً في الحياة السياسية لأنّ الإسلام ليس مجرّد حركات، إنّما لكلّ حركة فيه فلسفة وجوهر عملي، فإذا حانت الصلاة انتظمنا في

ـ(287)ـ

صفوف منتظمة، فكذلك نحن الآن في لحظة تاريخية تستدعي تسوية الصفوف والاتجاه إلى الله، وتأجيل المذهبية إلى ما بعد أداء الفريضة.

وأُنبّه إلى أنّ الدعوة إلى توحيد الصفوف يجب إعطاؤها فرصة التجربة باعتبارها اجتهاداً مثل بقية الاجتهادات، وإن كانت هي في الحقيقة أصلاً أصيلاً وفرضاً واجباً لا جدال فيه ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً..ِ.﴾.

وسائل التقريب بين المذاهب:

لو أنّنا أدركنا معنى القرآن لما احتجنا إلى البحث عن هذه الوسائل، ولكن الله يزعُّ بالسلطان ما لا يزعُّ بالقرآن. والواقع أنّ السلاطين هم الذين أذكَوْا التمذهب والطائفية، وما زال بعض السلاطين الذين لا يهتمّون برجل الشارع المسلم ولا يهتمّون بعالمية الإسلام ولا يهتمّون بالإسلام السياسي يذكون طائفيةً أشعلت حرباً في الخليج ضدّ من اعتبروهم مجوساً أو فرساً، واستعانوا في ذلك بالصليبية الدولية والصهيونية الدولية.

ولكن من أعان ظالماً سُلِّط عليه، فذاق بعضهم بأس بعض مع أنّهم من مذهب واحد، وهكذا ارتدّ سهم المذهبية إلى نحر المذهبية نفسها وادّعى مذهب أنّ الاحتفال بالمولد النبويّ بدعة، ثمّ احتفلوا هم بمولد (بوش) ومولد اليهودي (أبي حصيرة)، وحذّروا من «بدعة» القبورية وزيارة القبور، وبناء المساجد على القبور، ثمّ حوّلوا المسجد الحرام إلى مقبرة لفريق اعتصم فيه والى مذبحة أو مجزرة مكة لمن طاف حوله، وأفرغوا الحجّ من معناه وجعلوه حجّاً أخرسَ وأبكم، ولو تخفّفوا من هذه الطائفية - ولو قليلاً - لوفّروا على أنفسهم (600) مليار دولار أُنفقت في حرب داخلية داخل الطائفة ذاتها، ولأحسنوا استغلال ثروات تخصّ مستضعفي المسلمين، ولكانوا لحقوا بالغرب في السباق التكنولوجي والنووي والفضائي، ولكان المسلمون قد أعادوا مجدهم الغابر.

ـ(288)ـ

ولكنّها الطائفية والمذهبية لا تنمو إلاّ على افتراس الإسلام السياسي ومصلحة مستضعفي المسلمين، ومن ثمّ فإنّ العلاج الأساسي لمشكلة الطائفية هو تحقيق الوحدة، ولا تتحقّق الوحدة الإسلامية إلاّ بدولة الإسلام السياسي، ومركز القلب في الإسلام السياسي هو إعادة الإمامة العظمى أو الخلافة الإسلامية أو ما يماثلها من وحدة المسلمين.

يعني هذا أنّ أيديولوجية الإسلام هي الخلافة أو الإمامة، هي الروح والمسلمون هم الجسد، وبغير الروح يصبح جثّة هامدة تلتهمها فئران الصهيونية والصليبية والإلحاد، فالخلافة أو الإمامة هي الجهاز العصبي الذي يتلقّى الإشارات من سائر أعضاء الجسد ثمّ يرسل أجوبة هذه الإشارات إلى سائر أعضاء الجسد.

وبغير هذه الخلافة أو الإمامة تصبح العبادات مجرّد طقوس كالتي يمارسها الإنسان البدائي في الغابة أو في الفلاة.

والإسلام ليس إلاّ سياسة، هو دين سياسي وسياسة دينية، أي (دينسياسة). وهو في هذا يختلف عن سائر الأديان ويكتمل بخلافها.

وطبيعي إذن إنه لن تتمّ وحدة للمسلمين إلاّ وتعود في الحال مؤسسة الخلافة أو الإمامة ولو بصورة أُخرى تتلاءم وتطوّر الزمن كمؤسسة بدلاً من فرد، أو فرد تُحدَّد مدّته بقانون بديل عن قانون الموت الطبيعي، ولقد كان الإمام الراحل هو حلم كثير من المسلمين في أن يكون إماماً لكلّ مسلمي الأرض، ولكن الأُمة لم تنضج بعدُ لدرجة إعطائه البيعة، وكانت المذهبية هي العائق الوحيد دون ذلك، ومعروف أنّ الإمام لا يسعى إلى المنصب وإنّما يحرّم المنصب على مَنْ يسعى إليه، ومؤدّى ذلك أنّ الأُمة هي التي تسعى إلى اختيار إمامها وليس العكس.

هنا نأتي إلى قضية مهمة وعملية هي: إن كل الحركات الإسلامية من وهابية ثمّ

ـ(289)ـ

مهدية ثمّ سنوسية ثمّ إخوان مسلمين وجماعة إسلامية، إنّما تكسّرت رماحها أو فشلت لأنّها سعت إلى دولة أو سلطة قبل أن تسعى إلى تكوين أًمّة، والوضع السليم هو أمّة لا دولة أولاً أو أُمة قبل الدولة، ثمّ خلافة لا سلطة أو خلافة قبل أنّ تكون سلطة؛ والمقصود بالخلافة بدون سلطة هو مبدأ القدوة، بمعنى أنّ إمام المسلمين إنّما يقودهم بأن يكون هو قدوة أولاً، لا بالشرطة أو القوانين القمعية التي توضع من قبل السلطة هذا هو المطلوب، فكيف الوصول؟

والواقع أنّ القرآن يذكر الأُمة ويركز عليها وعلى وحدتها، بينما إذا جئنا إلى الحكومة فالقرآن يقول: ﴿...إن الحكمُ إلاّ لِله﴾(1) فالحكومة إذن حكومة تنفيذية، والأصل أنّ الإسلام أُمّة يحكمها الله.

وإذا كان اختلاف اللغات واختلاف الأوطان واختلاف الأجناس لا يمنع وحدة الأُمة، مع أنّها كلها ظواهر من البيعة ذاتها، فلماذا نسمح لاختلافات المذاهب - وهي اختلافات اصطناعية لا طبيعية - أن تمنع هذه الوحدة؟!

وإذا كانت هذه أُمّة واحدة ويحكمها الله تعالى فإنّما يحكمها عن طريق خليفة أو إمام عام؛ هذا الخليفة يمثّل السلطة الإسلامية، وهو رمز الوحدة. والخلافة هي إيديولوجية الإسلام لأنّها تعني الوحدة تحت قانون الله، والمبدأ الأساسي في القانون العام الإسلامي هو الوحدة.

على أنّه - تاريخياً - كان هناك تعدّد للدول الإسلامية وتعدّد للخلفاء، فكان هناك في وقت واحد خلافة عباسية في بغداد إضافة إلى خلافة فاطمية في القاهرة وخلافة أُموية في قرطبة.

ومعنى ذلك أنّ كلّاً من هذه الثلاثة إنّما هو خلافة ناقصة، ولكن الضرورة التاريخية

_______________________________________

1 - سورة يوسف: 40.

ـ(290)ـ

فرضتها لعجز الأُمة عن الوحدة الشاملة، والخلافة الناقصة خلافة ضرورة أو اضطرار ولا تُقارن بالخلافة الصحيحة الواحدة، وهي ما تسمّى بالخلافة الراشدة للخلفاء الأربعة، ولكن هذه الخلافة الناقصة هي على العموم أحسن من غياب الخلافة بالكامل.

لقد شنّ الإمام علي عليه السلام ثلاث حروب لمنع انتقال الخلافة الصحيحة إلى خلافة ناقصة؛ حربه ضدّ طلحة، ثمّ ضدّ الخوارج، ثمّ ضدّ معاوية، ولكن حركة التاريخ غالبة، أو أنّ الإيمان لم يكتمل بعد لدى الأُمة الإسلامية؛ لم يكونوا مؤمنين ولكن كانوا مسلمين فقط، وهذا النقص تكرّر مرة أخرى في انفصال الأندلس وشخصيّاً أعتقد أنّ نقص الإيمان هو السبب الأول، ودليلي على ذلك هو الردّة الشاملة التي حدثت بمجرّد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

ولقد ظلّ الإحساس بنقص الإيمان هذا يقلق الأقلّية المؤمنة، فكان الإصرار على سرعة اختيار خليفة بمجرد وفاة السابق لعله بهذه السرعة يحافظ على الوحدة للأُمة كلّها، فاختيار الخليفة الأول تمّ حتى قبل دفن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واختيار الخليفة الثاني عمر تمّ قبل أن يموت الخليفة الأول، فيما يسمى بالاستخلاف، فلما قتل عمر تمّ اختيار عثمان خلال ثلاثة أيام، ولما قتل عثمان تمّ اختيار علي خلال ثلاثة أيام أيضاً.

هذا يمثل اللهفة والحرص على الوحدة العامة ممثلة في خليفة واحد، فتتأتّى الخلافة الصحيحة، ولكن مع حركة التاريخ ومع ضعف الإيمان تحلّ علينا الخلافة الناقصة وتنقسم دار الإسلام الواحدة إلى عدّة شقق، وتصبح الوحدة مجرد مبدأ تحرص عليه الأُمة المغلوب على أمرها من حكامها.

وربّما كانت حركة التاريخ ذاتها - بما فيها من تيارات اجتماعية - تدحرج كرة الوحدة السياسية في كل المجتمعات البشرية من وحدة اندماجية شاملة إلى فيدرالية إلى منظمة دولية، وعلى كل حال، إن كنّا فرطنا في الوحدة عملياً فيجب علينا ألاّ نفرط في

ـ(291)ـ

المبدأ ذاته، مبدأ الوحدة.

يجب أن نتذكر دائماً أنّ هذه الدحرجة من الوحدة الشاملة إلى الوحدة الناقصة مسحت من الوجود كلمة: «دار الإسلام» وكلمة «أهل الحلّ والعقد»، وبدأت تظهر مفاهيم انهزامية واستسلامية شيئاً فشيئاً، فبعد أن كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يصرّ على أن يكون الإسلام هو الدين الوحيد في الجزيرة العربية، بدأت تظهر نغمة القبول بالأديان الأخرى، وتزداد وتزداد حتى تحوّلت إلى الاستسلام للأديان الأخرى، وتميّع مفهوم الجهاد حتى انعدم أو أصبح تهمة يُعدم صاحبها مع أنّ آياته واضحة جليّة.

بدأت الانهزامية الفكرية بالقول أنّ الحرب في الإسلام تكون دفاعية فقط لا هجومية، ولا تكون جائزة إلا إذا كان المسلمون قادرين على النصر، وأنّ الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، بينما يقول الآخرون أنّ الهجوم خير وسائل الدفاع، ويهاجمون من أجل باطل، لا دفاعاً عن دين الله.

وحتّى لو فرضنا - لمجرد الجدل - أنّ كل الحروب الإسلامية، ابتداءً من بدر لم يكن لها لزوم، ولو فرضنا جدلاً أنّ الإسلام سينتشر بالإعلام والإقناع، فأين هو هذا الإعلام الإسلامي ؟ وأين هو التبشير للإسلام ؟ بل أين هو مجرّد استقلال التجارة الإسلامية والنفط الإسلامي والنقد الإسلامي ومضايق البحار الإسلامية في عملية الإقناع الدولي بالإسلام ؟ بل أين هو التعليم الإسلامي أو التجارة الإسلامية أو الفنّ الإسلامي ؟

وتدحرجت كرة المسلمين أكثر وأكثر؛ تدحرجت من حكومة راشدة إلى حكومة ناقصة والآن إلى حكومة فاسدة، وعناصر الفساد هي الظلم وسوء استعمال السلطة بما فيها سوء استعمال الدين نفسه.

الأصل في منع الظلم أنّ الحاكم الراشد أي الخليفة الراشد ليس لـه أيّ سلطة تشريعية ولا سلطة روحية، إنّما سلطته هي تنفيذ شرع الله؛ فإذا شرّع هو من عنده فقد

ـ(292)ـ

ظلم، فما بالك إذا أضاف إلى التشريع الوضعي القهر والكبت والبطش والدكتاتورية، ثمّ تقمّص سلطة روحية تزعم أنّها الإسلام الصحيح؟! ويكرر القول أنّ أموالكم وأعراضكم حرام عليكم! لكي يستبيح هذه الأموال والأعراض ذاتها، أو يفرغ بعض العبادات كالحج أو صلاة الجمعة من فلسفتها الحقيقية.

مع التحول من الخلافة الصحيحة إلى الخلافة الناقصة إلى الخلافة الفاسدة، تحوّل الخليفة الحاكم من أب حنون ومرشد وحارس للدين إلى ملك على الرقاب إلى سيف قاطع للرقاب.

في الخلافة الصحيحة كسب المسلمون من الروم والفرس فنون وعلوم العصر، وأعطوهم ديناً صافياً... في الخلافة الناقصة توقّفوا عن الأخذ والعطاء، وفي الخلافة الفاسدة ضربوا بالنّعال وما هو ألعن من النِّعال في البوسنة وكشمير وفلسطين وكلّ مكان، وتوقّف العلم والفّن.

الخلافة أو الإمامة فكرةً لا تموت أبداً، وإن ماتت نظاماً أو فرداً أو حكومة. إذن الخلافة الآن شاغرة، ولكنها لم تمت قط ولن تموت أبداً، وغالبية الأُمة كانت تأمل أن يملأ الإمام الخميني هذه الوظيفة الشاغرة.

فمفهوم الأُمة الإسلامية بدأ يعود في إيران وفي الجاليات المسلمة في أوربا، وأهل الحل والعقد للأمّة الإسلامية لا وجود لهم إلاّ في هذين الموقعين، وأمانة الإسلام الآن تقع على أكتاف هذين الكيانين، ونقطة البدء في إعادة البناء والعودة إلى الخلافة الصحيحة لا مجال للانطلاق منها إلاّ من هاتين النقطتين.

الخلافة الصحيحة هي التي تلتزم ببناء وحدة العالم الإسلامي، بينما الخلافة الناقصة هي التي لا تلتزم بالوحدة الكاملة، ونأمل ألّا تكون الجمهورية الإسلامية في إيران هي خلافة ناقصة، أعتقد أنّ الأصوب أنّها خلافة صحيحة ولكنها خلافة أو إمامة اضطرارية،

ـ(293)ـ

بمعنى أنّ حكم الضرورة في ظروف باقي المسلمين، وفي ظروف العالم الخارجي تضطرّها إلى هذا الوضع الذي نرجو أن يكون مؤقتاً، فهذا الوضع وإن كان ناقصاً إلاّ أنّه قريب جدّاً من الخلافة الصحيحة. وتكفي دلالة على ذلك المحاولةُ التي نحضرها الآن والخاصّة بالتقريب بين المذاهب، فهذه أوّل خطوة نحو الوحدة الشاملة التي هي أساس الخلافة الصحيحة.

 

الحلول والوسائل:

تحت ظروف الاضطرار الحالية لابدّ أن نلجأ إلى الشعوب الإسلامية ذاتها، وأن نبدأ بالحلول السهلة، وأن نبدأ من مواقع غير سياسية حتى لا نصطدم بقوى سياسية محلية أو دولية، وللعلم فإنّ خصوم الحركة الإسلامية - تطبيقا لمبدأ الهجوم خير وسائل الدفاع - استعملوا الخلاف بين السنة والشيعة في إدارة حرب العراق ضد إيران.

والحلول والوسائل التي نأمل أن تتّبع:

1 - أوّل الحلول وأبسطها أن ننشئ قاموس فقهٍ على كل المذاهب، بمعنى أن تُذكر المسألة الفقهية، ثمّ إجابة كل مذهب حول هذه المسألة جنباً إلى جنب في مساواة علميّة حرّة وعلى الفرد المسلم في الشعوب الإسلامية أن يختار حل المسألة من أيّ مذهب؟ يناسب ظروفه هو، دون تعصّب لمذهب واحد في كل المسائل. إن قواميس أيّ لغة ضرورة حتمية لتعليم هذه اللغة للغريب عنها، كذلك وجود قاموس في الفقه ضرورة لتعليم أيّ مسلم الرأي الآخر، وبمقدار ما تنتشر هذه القواميس يتمّ تقارب وتفاهم وإقناع.

2 - الوسيلة الثانية للتقريب الأكيد والمتين هي وضع خريطة لآل البيت جميعاً بوضوح، لا يشمل الأبناء فقط، ولكن يشمل البنات والزوجات والأعمام والأخوال

ـ(294)ـ

والمصاهرات المختلفة بين أفراد مجتمع الرسول، سنجد أنّ هذه الخريطة تذيب كل الحواجز بين السنّة والشيعة عندما نعلم - مثلاً - أنّ الإمام عليّاً كان لـه ولد أسماه أبا بكر وولد أسماه عمر، وأنّ الإمام جعفر الصادق لـه بنت أسماها عائشة، وهي المدفونة في مصر الآن بجوار القلعة، وعندما نرى أنّ من نظنّهم أقطاباً متنافرة عاشوا مع بعضهم تحت سقف واحد سنوات وسنوات ويؤدّون الصلاة جماعة مع بعضهم.

3 - بعد القاموس والخريطة اللتين ذكرناهما الآن، نبدأ بمشوار العود إلى الشعب المسلم في كلّ الكرة الأرضية وبالأسلوب الديموقراطي الحديث، والديموقراطية الحديثة لها نفس قوّة التكنولوجيا في مجال العلوم، فهي تكنولوجيا السياسية؛ نرجع إلى الشعب عن طريق تأليف برلمان إسلامي شعبي يمثّل الأُمة بعيداً عن السلطات الحكومية المتنافرة.

لقد قام بالفعل برلمان إسلامي في إيران، واستطاع كليم صديقي أن يقيم برلماناً إسلاميّا في بريطانيا، هاتان التجربتان لو عُمّتا على العالم الإسلامي ستجد الشعوب الإسلامية نفسها من جديد بعد أن مزّقتها وأكرهتها السلطات الحاكمة لكي تستولي هذه السلطات على الشعوب.

إنّ هذين البرلمانين في إيران وبريطانيا يمكن أن يكونا نقطتي انطلاق إلى بقية العالم الإسلامي، هناك اختلافات في الحجم كبيرة جدّاً بين البرلمانين؛ حيث يمثّل برلمان إيران كتلة داخل الجسد الإسلامي، ويستند إلى حكومة إسلامية صحيحة وصالحة وراشدة، بينما يمثل البرلمان الإسلامي في بريطانيا وليداً صغيراً في داخل مجتمع ودولة غير إسلامية، ولكن القاسم المشترك بين هذين البرلمانين هو التحرّك الشعبي الحرّ نحو الوحدة الإسلامية.

هذه الشعبية وهذا الصدق في التعبير هما الخطوة الأولى نحو «الخلافة الصحيحة» أو الخلافة الراشدة من جديد، ومن ثمّ فإن تَمْتين العلاقة بين برلمان إيران والبرلمان

ـ(295)ـ

الإسلامي في بريطانيا مهم رغم الاختلاف الكبير في الحجم.

أقول: هذا التمتين أوّل انطلاقة للإسلام المحاصر داخل إيران نحو العالم الخارجي، وهو أشبه بتشكيل جيش أسامة لغزو الشام. إن صغر حجم الوليد الموجود في بريطانيا الآن - أعني البرلمان الإسلامي في بريطانيا - يجب ألاّ يحجب عن وعينا إمكانية أن ينمو في المستقبل إلى وليد أوربّي، ثمّ شابّ أوربّي فتي.

إنّ تنمية مثل هذا الوليد الضعيف الآن واليافع غداً هي تجارة لن تبور أبداً، وهي ولادة لذريّة سياسية تصبح عصباً سياسيّاً في الغد، وإذا كان الحمل ثقيلا الآن على الجمهورية الإسلامية، فلابدّ من إعداد مَنْ يشاطرونها في حمل عبء الوحدة الإسلامية.

وسواء أخذتم بهذا الرأي أو لم تأخذوا فإنّ الفكرة المركزية التي أُريد التركيز عليها والتذكير بها، هي أنّه لكي نحقّق الوحدة الإسلامية يجب أن نعود إلى الشعوب ذاتها، وهذا عن طريق خلق برلمان إسلامي شامل يمثل الشعب الإسلامي في كل الكرة الأرضية تمثيلاً ديموقراطياً حرّاً وصادقاً.

حققوا لنا هذا البرلمان الشعبي الإسلامي بأيّ صورة كانت، ففي العصر الحديث لابدّ من الرجوع إلى الشعوب ولابدّ أن تحكم الشعوب نفسها، والإسلام هو أصل الديموقراطية بما نصّت عليه الشورى، ولا يختلف عن الديموقراطية الغربية، إلاّ أن الشريعة هي فوق كلٍّ من الحاكم والمحكوم، وباستثناء هذا القيد، فالإسلام يجعل الشعب فوق الحاكم، وهو ما تستهدفه الديموقراطية الغربية الآن.

ثمّ إن ديموقراطية الإسلام أشمل من ديموقراطية الغرب؛ فهي ديموقراطية يومية وليست مقصورة على يوم الانتخاب، وهي ديموقراطية مباشرة من الحاكم والمحكوم بلا حجاب وبمساواة أمام القاضي، وبلقاء أُسبوعي في صلاة الجمعة، ولقاء سنوي في الحج، ولم يبق إلاّ أن نأخذ عن الغرب تمديد مدة الحاكم.

ـ(296)ـ

4 - فكّ الحصار عن إيران: لو فُكّ الحصار عن إيران الآن، فإن فرصة وحدة العالم الإسلامي الآن أقوى بكثير من أي وقت سابق في التاريخ؛ نظراً لكون العالم كلّه أصبح قرية واحدة، ونظراً لانتشار وسائل الاتصال والانتقال وتبادل المعلومات بين البشر، ووجود وسائل الإقناع وغسل الدماغ بطريقة لم تتوافر من قبل. والإسلام نظرية مقنعة جداً، نبدأ فقط بفكّ الحصار وسرعان ما تتمّ الوحدة.

فكّ حصار الدول العربية لا يكون بمخاطبة الدولة العربية مباشرة، إذ إن مفاتيح أبواب الدول العربية موجودة خارج الدول العربية، مفتاح المشرق العربي في لندن، ومفتاح المغرب العربي في روما. أما أمريكا فإنّها لا تحتفظ بأيّ مفاتيح، وكلّ مفاتيحها هي نفسها تسلّمها لإسرائيل، وأيّ تعامل مع أمريكا معناه الإحالة إلى إسرائيل.

لندن لا تزال هي التي تملك مفاتيح المشرق العربي أو عرب المشرق؛ بحكم تاريخ طويل لها وبحكم اللغة، وبحكم تعلم الصفوة السياسية العربية كلها في مدارس إنجليزية، وبحكم التنافس القديم لها ضد فرنسا، وبحكم علاقة عاطفية بين الدهاء البريطاني والبساطة البدوية والبرود البريطاني مع الحدة البدوية، وهذا وذاك يشكّلان (دوتيو) بين عرب المشرق وبين بريطانيا، فلابدّ من الانطلاق من لندن لمخاطبة عرب المشرق لفكّ الخناق عن إيران... أمريكا لا تملك شيئاً وتعتمد على الرشوة والإفساد والمخابرات، وأهمّ من هذا كله موافقة لندن ذاتها.

أما المغرب العربي فرغم سابقة خضوعه لفرنسا، إلاّ أنّ ردّ الفعل ضد فرنسا فيه أعنف كثيراً من أيّ تأثير فرنسي عليه، وروما هي المكان الأنسب لمخاطبة عرب المغرب، وكأنّ اختلاط دماء عرب المغرب بدماء صقلية وجنوب إيطاليا لـه أثر قاطع خصوصاً مع وجود الحماقة الفرنسية.

 وعندما أقول لابدّ من مخاطبة لندن وروما، فإنما أقطع الطريق على أمريكا

ـ(297)ـ

وإسرائيل في محاصرة إيران حسب مخطّط يهودي يقظ جدّاً جدّاً ضدّ الصحوة الإسلامية.

وعندما أزكّي كليم صديقي في لندن بصفته رجلاً يفكّ الخناق عن إيران لا أُزكّيه عن عاطفة، ولكن عن حسابات عقلية تكسب منها إيران أولاً، ثمّ الحركة الإسلامية ثانياً، ثمّ هو ثالثاً وأخيراً.

إنّنا يجب ألاّ نبحث عمّن يكسب ومن لا يكسب الآن، ولكن نبحث عمّن يستطيع أن يتحرّك وينتج ومن لا يستطيع أن يتحرّك ولا ينتج.

ويجب أن ننشئ «دار إسلام» و«أهل حلّ وعقد» بأسرع ممّا يتاح للصهيونية والصليبية أن تطوق إيران الإسلامية، أو إحياء هذه الشعارات في الأدبيات.

5 - إنّ أقدر فئة في التحرّك السياسي الإسلامي حاليّاً خارج نطاق إيران هي فئة الذين دخلوا الإسلام حديثاً عن دراسة وإيمان، ويجب إعطاؤهم دوراً كافياً في مسيرة توحيد المسلمين وفكّ الحصار الدولي المضروب حول الإسلام.

6 - يجدر استخدام التكنولوجيا بكفاءة تامّة في الإعلام الخاص بمفاهيم وحدة المسلمين؛ استخدام الصحافة التي تصدر من عدّة عواصم في كل يوم، استخدام القنوات الفضائية، استخدام (دسكات) الكومبيوتر في تسجيل الأحاديث النبوية ومعلوم الفقه على الأقل، يجب أن نتذكّر أنّ الإمام الخميني كسب جولته ضدّ الشاه باستخدام حرب (الكاسيت)؛ فالإنسان لا يجوز أن يكتفي بأنّه على حقّ، ولكن يجب عليه إقناع الآخرين بذلك. وهذا هو مفهوم الدعوة، والإسلام يهتم جدّاً بالدعوة، ولا يجوز أن يترك وسائل الدعوة في يد خصومه ويكتفي هو بأنّه على حقّ؛ إنّ الحرب الآن أصبحت حرب إعلام أساساً.

7 - رغم كل ما سبق ذكره، سيبقى من أهمّ الأُمور أنّ الله يزعُّ بالسلطان ما لا يزعُّ بالقرآن. وهذا مقام لـه مقال آخر عندما يحين وقته.

ـ(298)ـ

في الختام لابدّ من إعادة التذكير بأن هذا كلام «رجل الشارع» أي العامة، وليس من كلام أهل العلم والفقه، وأنّ الهدف أن يضع أهل الفقه رجل الشارع المعاصر في ذاكرتهم وأن يُحَدِّثوا فقههم بما يتناسب مع رجل الشارع المعاصر في معركة دولية يديرها بنشاط غيرٌ المسلمين، وأن يخرجوا من اجتماعهم هذا بخطوة يفهمها رجل الشارع ويسهل عليه اتّباعها.