تحديات تجابه التقريب

تحديات تجابه  التقريب

 

 

تحديات تجابه  التقريب

 

محمد علي التسخيري

الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وبعد

 فقد اثمرت جهود العلماء والمفكرين والمصلحين اتجاها عاماً نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية، وميلاً عاماً نحو تغليب لغة الحوار المنطقية. وترجيحها على اية لغة اخرى انسجاماً مع توجهات الإسلام الأصيلة وتناغماً مع الميل العالمي نحو هذا الأسلوب فيما بين الحضارات والثقافات والأديان.

والواقع أن كل النصوص الإسلامية والمفاهيم والأحكام الشرعية وتصريحات الأئمة والعلماء وسلوكاتهم تدفع نحو اعتماد هذا الاسلوب مما يفسح المجال نحو تحقق مثل هذه النتيجة.

ونحن اذ نستبشر خيراً بهذا الأمر نعتقد بلزوم تعميقه في الاذهان والنفوس لانه اتجاه علمي ونفسي  خلقي في آن واحد، يريد أن يتعالى فيه الإنسان المسلم على خلافه في الراي  مع الآخر، ويتغاضى عما يرتبه هذا الخلاف من مقتضيات التنوع في السلوك وصولا إلى الموقف الموحد من التحديات الكبرى التي تواجهها الامة، وكذلك من الامور الداخلية التي هي لوازم الشخصية الواحدة لها.

وتستلزم عملية التعميق هذه القيام بكل ما من شانه تحويل الرغبة في التقارب وبالتالي في التفاهم إلى ملَكة وخلق اجتماعي أصيل وعام بحيث يعود معه كل صوت تبعيدي حالة نشازاً وخروجاً على الجماعة، وسعياً خارج الدائرة وتحركاً خارج السرب تنفر منه الطباع وتتقزز منه النفوس.

ولن يتحقق هذا الهدف إلا إذا قام العلماء والمفكرون بعملية الاستيعاب الكامل للفكرة أولاً ودراسة تاريخها وآثارها في مسيرة الأمة التاريخية والحضارية ثانياً، وتوعية الجماهير بها وبآثارها ثالثاً ونقل الفكرة ـ بالتالي ـ إلى الممارسة العملية اليومية المستمرة حتى تتحقق تلك الملكة ويسود ذلك الخلق المطلوب.

وربما تطلب الامر تنفيذ مشروعات اجتماعية مشتركة في المجالات البحثية أو الاجتماعية وغيرها.

ولعل اهم نقطتين يجب  التركيز عليهما في البين هما:

أ ـ استقصاء الدوافع الدينية والاجتماعية وحتى السياسية باعتبارها مقتضيات التحرك نحو التقريب في الفكر والتوحيد في العمل، واستعادة تلك الحالات التي تم فيها التقارب والتعاون بين العلماء في المشتركات - وما أوسع دائرتها - في حين راح البعض يعذر الآخر في ما اختلفوا فيه من المسائل.

ب ـ معرفة العقبات والموانع  التي تقف بوجه ذلك. اما النقطة الاولى فليست هي محط نظرنا فعلا رغم اهميتها. ويمكن الاستعانة فيها باساليب القرآن الكريم المتنوعة في الدفع نحو الوحدة من خلال الدعوة المباشرة، وتركيز روح التعامل العقلاني والحوار المنطقي مع الآخر، والتذكير بتوحد العدو ـ رغم تناقضاته ـ في جبهة  المواجهة مع الأمة الإسلامية، والنتائج الايجابية للوحدة، والسلبية للتمزق وامثال ذلك وله حديث مفصل يذكر في محله.

واما النقطة الثانية فهي موضع تركيزنا هنا رغم أننا بلحاظ محدودية الزمان لا نستطيع التوسع في الامر.

التحديات  التي تواجه التقريب:

وهذه التحديات كثيرة وقاسية بعضها من الأعداء والآخر من داخل الأمة، ولعل اهمها ما يلي:

اولاً: العامل الخارجي:

فمن الواضح تماماً ان أعداء هذه الامة يخلقون كل الظروف التي تؤدي لتمزيقها ويقفون في وجه كل ما يعمل لتوحيدها. وقد لاحظنا ان الاستعمار الغربي عمل خلال فترة احتلاله للعالم الإسلامي، وخصوصاً في الفترة التي احتل فيها العالم الإسلامي كله تقريباً، وقضى على آخر دولة إسلامية قوية في النصف الاول من القرن الميلادي العشرين، لاحظنا انه اعتمد سياسة ثلاثية تستهدف:

1 ـ ابقاء الامة على تخلفها العلمي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وغير ذلك.

2 ـ اشاعة الحالة العلمانية الغربية على الروح الإسلامية في العالم الإسلامي إلى جانب تحريك النزعات القومية  والعنصرية ولكن سرعان ما فشل مشروعه مما دعى بعض الكتاب المعاصرين لتسميته بـ«النصر سريع الزوال للعلمانية (1920 ـ 1970)(1)»

3 ـ تمزيق العالم الإسلامي إلى دول وشعوب متفرقة، وتحريك العنعنات المذهبية والجغرافية والقومية والعنصرية وحتى  التاريخية  اذ شجع كل جزء منها للتأكيد على تأريخه قبل الإسلام أو تاريخه الخاص به بعد الإسلام حتى رأيناه يشجع بعض شعوب آسيا الوسطى لتعظم أمثال الطاغية تيمورلنك باعتباره بطلا قومياً، ونسيان جرائمه الوحشية ضد شعوب الامة الإسلامية. كل ذلك خوفا من هاجس الوحدة الإسلامية الذي يجري الحديث عنه والتخوف منه باستمرار من قبل القادة والمفكرين والكتاب الغربيين ويتم التنظير لصراع دائم مع العالم الإسلامي على اساسه تقول الكاتبة الغربية هانتر في مقدمة كتابها (مستقبل الإسلام والغرب) مايلي: :

«قامت الرواية التي ألفها جون بوشان، وكان لايزال رائداً في إستخبارات الجيش البريطاني عام 1916، على فرضية قيام ثورة إسلامية، من شأنها، إذا ما اندلعت، أن تقلب مجرى الحرب العالمية الأولى في غير مصلحة القوات الحليفة.

كتب بوشان في روايته، العباءة الخضراء The Green Mantle: «الإسلام عقيدة قتالية، إذ لا  يزال ذلك الشيخ يقف في المحراب حاملاً القرآن باليد والسيف المشهور  في اليد الأخرى. فإذا افترضنا أن هناك أملاً بالخلاص يعيد الروح حتى إلى الفلاحين في المناطق النائية ويدغدغ أحلامهم بالجنة فماذا سيحدث يا صديقي؟ ستفتح جهنم أبوابها  في هذه الأرجاء عما قريب. لدي تقارير من العلماء في كل مكان؛ صغار التجار في  جنوب روسيا، وتجار الأحصنة في افغانستان والتجار التركمان، والحجاج في الطريق إلى مكة، والأشراف في شمال أفريقيا، ولابسي جلود الغنم من المغول، والفقراء الهندوس  والتجار اليونانيين في الخليج، فضلا عن القناصل المحترمين الذين يستخدمون الشيفرة. هؤلاء جميعاً يجمعون  في رواياتهم التي يرسلونها إلي على الأمر نفسه، أن الشرق في إنتظار إشارة إلهية».

بعد ذلك بنحو ثلاثة أرباع القرن، عبر المعلق السياسي الأميركي، تشارلز كراوثمر، عن مخاوف مماثلة عندما قال إن الولايات المتحدة تواجه خطرين جيوسياسيين محتملين، يتأتى احدهما من المنطقة نفسها التي ذكرها جون بوشان في روايته، فهو يتخذ «شكل عالم إسلامي متحد تحت راية  أصولية على النمط الايراني تخوض صراعاً وجودياً ضد الغرب الكافر» ([1]).

وها نحن نشهد دور اليد الاجنبية الممتدة لتحرك النزاعات الطائفية في باكستان والعراق  وافغانستان ولبنان وسائر  البلاد التي يتعايش فيها  اتباع المذاهب. وربما استخدمت وسائل  الاعلام والاقلام والالسنة الماجورة لتحقيق الهدف، والتحدث عن النفوذ الإيراني و(الشيعي) والتخويف الوهمي وبالتالي تفكيك الامة وإهدار قواها، لتنسى وحدتها وتنحرف بوصلتها عن المشكلة الواقعية، والعدو الحقيقي، فإذا هي مشكلة الصراع العربي الفارسي أو العربي الكردي وليست مشكلة الصراع بين الصحوة الإسلامية والاستعمار والاستكبار العالمي وربيبته الصهيونية العالمية.

ثانياً: المصالح الشخصية لبعض الزعماء والحكام.

وهو امر شهدناه في عصور الظلام الماضية، ونشهده اليوم ايضاً حيث يستغل البعض نفوذه ليثير العامة بل ربما بعض المنتسبين لاهل العلم لتحريك الاحن والنزاعات الطائفية.

يقول احد الكتاب المؤرخين واصفاً بعض حروب الطوائف بتحريك من السلطات الحاكمة:

«وكانت لا تمر سنة دون عنف بين ما وصف بفرق السنة وفرق الشيعة في سائر ارجاء المنطقة العربية الإسلامية فقد تولى الترك بانفسهم عام 249هـ عمليات القمع الطائفي ضد الشيعة... وكان اكثر الضحايا من منطقة (الشاكرية) ببغداد وبنتيجتها هوجم السجن المركزي واحرق احد الجسرين الواصلين بين جانبي الكرخ والرصافة».

ويستمر في الحديث عن دور حكومات الطوائف في تحريك  الفتن في مصر، وعن الاقتتال الطائفي بعد قيام حركة الزنج في سواد جنوب العراق، وامتداد النزاع إلى المدينة المنورة والى طبرستان، وتواصلت إلى شمال افريقيا وهكذا ([2]).

وهناك كتب كثيرة تتحدث عن هذه الظاهرة كمقدمة ابن خلدون وغيرها.

ويكفي ان نذكر بدور النزاع العثماني الصفوي  - الذي دام اربعة قرون - في خلق الفتن الطائفية الداخلية واضعاف الامة الإسلامية مما جر بالتالي إلى ان تفقد شوكتها وعزتها امام التحديات.

وهنا نود ان ننقل نصاً للسيد الباز العريني مترجم كتاب الحروب الصليبية للكاتب الغربي ارنست باركر يقول فيه:

على ان السبب الاكبر في نجاح الصليبيين، لم يرجع فحسب إلى كثرة عددهم، والى ما تلقوه من مساعدات من الدولة البيزنطية، بل يرجع أساساً إلى تفرق وحدة المسلمين من الناحيتين السياسية والدينية. ففي الوقت الذي انطلقت فيه القوات الصليبية نحو الشرق، اشتد النزاع بين الاخوين دقاق ورضوان من امراء السلاجقة، من اجل حرص كل منهما على ان ينفرد بحكم سوريا، ونشبت فعلا الحرب بين الاخوين، بينما كان الصليبيون في طريقهم إلى الشام. وما حدث من الاختلاف الديني والسياسي، بين الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، كان معروفاً عند الصليبيين. وحينما سعى الامراء السنيون في الشام إلى الاتصال بالخليفة الفاطمي، يطلبون التعاون لوقف تقدم الصليبيين، لم يجدوا استعدادا عند الخليفة الفاطمي لتحقيق غرضهم.

واذ تبين ان نجاح الصليبيين يرجع إلى ما ساد العالم الإسلامي من الاختلاف السياسي والديني، سعى الامراء والقادة المسلمون، على أسباب هذه التفرقة، فأعلنوا حركة الجهاد الديني. فاحرزوا من الانتصارات ما ادى إلى توحيد مصر والشام واعالي الجزيرة، وبذلك تم حصر الصليبيين على الساحل، وتلى ذلك ازالة الخلافة الفاطمية، ودعوة الديار المصرية إلى المذهب السني، فتحققت بذلك الوحدة الروحية ايضاً وتيسر لصلاح الدين عندئذ ان يقهر الصليبيين، وان يسترد معظم ما استولوا عليه من الاراضي، واضحت هذه السياسة، هي القاعدة التي جرى عليها الايوبيون والمماليك حتى انقطع دابر الصليبيين نهائياً من الشرق سنة 1291، فضلا عن تجنب البلاد خطر المغول بعد ان حاقت بهم الهزائم المتكررة.

وهذا الكتاب الذي نقلته إلى اللغة العربية، انما يصور ما صاحب الحركة الصليبية من اغراض استعمارية، ويشرح العوامل المختلفة التي تحكمت في توجيه الحروب الصليبية، ويبين ان العداء بين الغرب والشرق انما يرجع إلى قرون عديدة، وان الغرب اتخذ من الأساليب ما حاول بها تحقيق آماله الاستعمارية في الشرق. وما اوردته في الملحق الذي اضفته إلى هذا الكتاب، يشرح يقظة العالم العربي وقتذاك، وادراكه انه لن يتم القضاء على القوات المعادية الا بالاتحاد والصبر على جهاد العدو. غير انه ينبغي ان نشير ايضاً إلى ان الجهاد الديني الذي نادى به الزعماء والقادة من المسلمين، استجاب له السكان في جميع انحاء الوطن العربي.

ويقول مؤلف الكتاب نفسه: في الفصل الثالث وهو يتحدث عن نزاع المسلمين الذي مهد لنجاح الحملة الصليبية.

اما حالة آسيا الصغرى وسوريا في سنة 1097، فتعتبر في نواح عديدة ملائمة لنجاح الصليبيين. إذ لم يحفل سلاطين السلاجقة الا بالاحتلال العسكري لما فتحوه من الاقليم، فاستقرت حاميات سلجوقية في بعض المدن، مثل نيقية وانطاكية، واستعدت لمواجهة الصليبيين والاستماتة في مقاومتهم، وتفرق أيضاً في انحاء البلاد جيوش سلجوقية، اما مرابطة في جهات معينة، أو في حالة انتقال وارتحال. غير ان سكان المدن كانوا دائماً اعداء للحاميات العسكرية السلجوقية، كما ان مناطق شاسعة لم يكن بها على الاطلاق قوات عسكرية.

..... وفي تلك الاثناء لم يتوان الفاطميون في الافادة من هذه المنازعات. إذ ان انشقاقاً دينياً كبيراً، كان يفصل الخليفة الفاطمي في القاهرة وزعيم المذهب الشيعي، عن الخليفة العباسي ببغداد وزعيم المذهب السني. وهذا الاختلاف يجوز مقارنته، بما كان بين الكنيستين اليونانية واللاتينية من نزاع. بل انه يفوقه بما غلب عليه من طابع الاختلاف السياسي. وكيفما كان الأمر، فان هذا الاختلاف ادى إلى عرقلة حركة المسلمين مثلما ادى ما بين الكسيوس واللاتين من الحسد والحقد، إلى عرقلة حركة الحرب الصليبية. وادرك الامراء الصليبيون تمام الادراك، الفجوة التي تفصل بين خليفة القاهرة عن الامراء السنيين في سوريا، وسعوا عن طريق مبعوثيهم إلى ان يتصلوا بخليفة القاهرة، املا في ان يظفروا، بفضل مساعدته، ببيت المقدس، التي حكمها وقتذاك نيابة عن الترك سقمان ابن الامير ارتق ([3])، غير ان الخليفة (الفاطمي) رأى ان ينفرد بالعمل لنفسه، واستغل ما وقع بين امراء سوريا من حروب، وما اثاره زحف الصليبيين من الخوف والرعب، فاستولى على بيت المقدس (اغسطس سنة 1098) على الرغم من ان زعماء الحملة الصليبية لم يحرزوا شيئا من النجاح في استغلال ما وقع من منازعات بين المسلمين على النحو الذي يبتغونه، فالواقع ان ما اصابوه من النجاح، انما يرجع إلى حد كبير إلى هذه المنازعات. وما وقع من الفرقة بين امراء الشام، وما حدث من الانقسام بين العباسيين والفاطميين هيأ للصليبيين الاستيلاء على المدينة المقدسة، وانشاء مملكة بيت المقدس. على ان مصير المسيحية اللاتينية في الشرق تقرر، حينما نهض بالموصل حوالي سنة 1130م قوة جديدة، استطاعت ان توحد الشام، وحينما انضمت ايضاً سوريا، بعد اتحادها، إلى مصر، واجتمعتا في يد صلاح الدين.

ويتحدث في الفصل الثالث عشر عن المقترحات التي اقترحها بييرديبوا في رسالته (استعادة الأرض المقدسة) لتعالج فشل الحروب الصليبية فيقول:

ومن المعروف ان زوال نظام من الانظمة لا يتم الاعتراف به، الا بعد زمن طويل. ولذا تحتم على الناس ان ينصرفوا إلى ان يحاولوا من جديد، ان يثيرو في الحياة الجديدة ما خمد من الجذوات. مثال ذلك ان بيير دبوا fierre Dubois في رسالته المعروفة باسم استعادة الأرض المقدسة De recuperatione Sanctae Terrae التي وجهها إلى ادوارد الأول، ملك انجلترا، في سنة 1307، اخذ يحض على عقد مجمع بأوروبا لاقرار السلام، ومنع المنازعات التي ساعدت، مثلما حدث في سنة 1192، على فشل الحرب الصليبية التي سبق ذكرها. واقترن بهذا الدفاع العالمي (الجماعي)، الدفاع عن تجربة الكنيسة من احباسها كما يتم وضع أساس لتمويل الحرب الصليبية القادمة. ومن الاقتراحات، ما عرضها رجال، اشتهروا بشدة معرفتهم بالشرق، وتعتبر في اغراضها عظيمة الأهمية من الناحية العملية، غير انه لم تكن لها صفة سياسية. فقيام اسطول دولي، يفرض الحصار البحري على مصر، واجراء تحالف مع المغول، واتحاد الطائفتين الدينيتين الكبيرتين، الداوية والاسبتارية، تلك هي الأسس الثلاثة الكبيرة لهذه المقترحات([4]).

 ثالثاً: التكفير

وتعد هذه الظاهرة من اهم العقبات بوجه التقريب. ورغم ان الإسلام وضح تماماً الحدود الفاصلة بين الكفر والايمان، وحددها بدقة فان هذه الحالة الغريبة حدثت بقوة.

فعن عبادة بن الصامت قال رسول الله (ص):

من شهد  ان لا إله الا الله وحده لاشريك له وان محمداً عبده ورسوله  وان عيسى عبدالله ورسوله  وكلمته القاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.

وفي رواية ادخله الله من ابواب الجنة الثمانية أيها شاء وروى الشيخان والترمذي: من شهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله حرم الله عليه النار([5]).

وروى  سماعة عن الامام الصادق (ع) قوله:

الإسلام شهادة ان لا إله الا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والموريث، وعلى ظاهره جماعة الناس([6]).

وربى القرآن الكريم الرسول الكريم(ص) اتباعه على التعامل العقلاني والحوار المنطقي والقبول بالتعددية الاجتهادية اذا كانت على اسس شرعية منضبطة.

الا ان هذه الظاهرة حدثت في ظل ظروف عصبية في مطلع الأمر كما في قضية الخوارج.

ورغم ان الامة عبرت هذه الحالة وعادت إلى التعامل المنطقي في عصر أئمة المذاهب وقدم الأئمة اروع صور منطقية وربوا اتباعهم عليها ولكن العوامل الكثيرة الاخرى قادت إلى عودتها من جديد.

واني اعتقد أن أهم ما قاد لهذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته بمؤاخذة الاخر بلوازم كلامه رغم ان هذا الآخر لا يؤمن بهذه الملازمة مطلقا.

فقديماً كفر الخوارج علياً عليه السلام معتقدين ان لازم موقفه من التحكيم كفره والعياذ بالله.

فقد ذكروا انه شك في نفسه حين قال للحكمين:

«انظرا فان كان معاوية احق بها فأثبتاه،وان كنت اولى بها فاثبتاني» فاذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو أحق ام معاوية فنحن فيه أشد شكا».

ورد الامام عليهم بقوله: «فان ذلك لم يكن شكاً مني، ولكن انصفت في القول، قال الله تعالى: «وانا أواياكم لعلى هدى او في ضلال مبين».

ولم يكن ذلك شكاً وقد علم الله أن نبيه على الحق»([7]).

وبعد عصر الأئمة  دبت هذه الحالة  بوتيرة اوسع وذلك كما لاحظناه في الاختلاف حول (زيادة الصفات على الذات الالهية) و(التحسين والتقبيح العقليين) حيث رأى الطرفان المتنازعان ان  الطرف الآخر يقوده رايه إلى الكفر وهكذا نجد هذه الظاهرة في قضايا كثيرة من قبيل (التوسل) و(الشفاعة) و(البداء) وحتى في مثل (الاستحسان) و(القياس) و(المصالح المرسلة) وغيرها. في حين لواحتكم الجميع  إلى الحوار المنطقي لاكتشفوا على الاقل لدى الطرف الآخر ما يبرر له الايمان بهذه القضية او تلك وربما اكتشفوا ان النزاع لفظي لاحقيقة له.

وربما أدى نزاع مافي مسألة فقهية مثلاً إلى أن يتهم المخالفون بالضلالة والابتداع.

فمثلاً اتفق المسلمون على أن الإسلام قد نهى عن طلاق الزوجة البالغة المدخول بها غير الحامل إذا كانت غير طاهر أو في طهر واقعها فيه، ولكن اختلفوا في تأثيره في إفساد الطلاق فقال البعض بمجرد حصول الإثم وتحقق الطلاق وقال الآخرون ببطلان الطلاق فوصف هؤلاء بالضلالة والابتداع([8]).

ووصل التهجم المتبادل إلى مستوى غريب فهذا المرحوم تقي الدين السبكي يقول في كتابه طبقات الشافعية الكبرى في حق أستاذه الذهبي وهو العالم المعروف: وهذا شيخنا الذهبي (رحمه الله) من هذا القبيل: له علم وديانة، وعنده على أهل السنة (يعني الاشاعرة) تحمل مفرط فلا يجوز أن يعتمد عليه... وقد وصل إلى حد من التعصب المفرط يُسخر منه([9]).

ويقول عن ابن حزم: «وكتابه (الملل والنحل) من شر الكتب»([10]).

وزاد الجهل  والتعصب الطين بلة حيث يدخل في عملية الفتوى من ليس أهلا لها فيفتي بغير ما انزل الله. وهذا ما شهدناه بكل وضوح في الحركات التكفيرية في عصرنا مما ادى إلى سفك الدماء البريئة على نطاق واسع باسم الدفاع عن الدين والامة وهما من هذه الحالة براء.

رابعاً: التشكيك في نوايا الداخلين في الحوار فانه لا يحقق الجو الهادىء المطلوب، ويدفع لنوع من التهرب او المماطلة او تلمس العثرات مما يمنع من تحقق النتيجة المطلوبة. وهذا ما شهدنا نظيره في عمليات الحوار بين اتباع الاديان نتيجة ما يحمله كل طرف من تراكمات ذهنية عن الآخر فالطرف المسيحي مثلا يحمل احقاده  الصليبية وايحاءات  المستشرقين بما يسمونه بـ(الهرطقة الإسلامية) وما يدور في نفسه من  هواجس الصحوة الإسلامية التي تنافس مشروعه في السيطرة، في حين يحمل الطرف الإسلامي سوابق ذهنية كبيرة عن خدمة التبشير المسيحي للاستعمار على مدى قرون.

ولكن العمل الجاد والتوجه للتعليمات الإسلامية الهادية والداعية لحسن الظن في الاخ المسلم يمنع من أن يلعب هذا العامل دوره في المنع من التقريب خصوصا اذا تم على مستوى العلماء العاملين الذين خبر بعضهم بعضا في مجالات العلم والاخلاص والعمل في سبيل الامة بمجموعها.

 

خامساً: التهويل والتضخيم واستحضار الماضي والتهجم على المقدسات وعدم احترام الآخر.

وكل واحد من هذه الامور يمكن ان يشكل بنفسه مانعاً من تحقق الحوار المطلوب وبالتالي الوصول إلى التقريب، وقد وجدنا النصوص الإسلامية تتظافر في المنع من هذه الامور:

فقوله تعالى: «قل انما اعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة»([11])، يمنع من الحوار في الاجواء الانفعالية المصطنعة.

وقوله تعالى: «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون»([12])، يمنع من الانشغال  بالماضي ويفرض احترام الآخر وذلك ايضا واضح في الآية التي تنهى حتى عن سب آلهة المشركين.

سادساً: اضف إلى كل ذلك ان اختلاف مناهج الاستدلال وطرق الاستنباط يمنع من التقارب في النتائج فينبغي السعي إلى ما يأتي:

1 ـ الفراغ من المفروضات المسبقة قبل بدء عملية الحوار

2 ـ الاتفاق على منهج واحد للاستنباط وليس هذا الاتفاق امراً صعباً.

3 ـ تحقيق محل الحوار بدقة لئلا ينظر كل طرف إلى قضية ومفهوم لاينظر اليه الطرف الآخر.

وهناك موانع أخرى من قبيل:

1 ـ اعتبار القول الشاذ علامة على المذهب كله.

وهو أمر غير منطقي، من قبيل ان يقول بعض المحدثين قولاً يرفضه كل المحققين من مذهب معين على مدى التاريخ ثم يصر مخالفوهم على نسبة لكل المذهب.

2 ـ اخذ تصورات المذهب من اقوال خصومه.

وهو أيضاً بعيد عن المنطقية، لأن الخصوم أحياناً يعملون على نسبته الأوهام إليه انتصاراً لمذهبهم.

3 ـ دخول من ليس أهلاً في عملية الحوار

وهو أمر يرفضه القرآن والمنطق أيضاً: يقول تعالى - مخاطباً أهل الكتاب الذي يدعون دعاوى لا علم لهم بها: «ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم»([13]). 4 ـ اتباع الأساليب الملتوية للظفر بالآخر.

الأمر الذي يحيل الحوار إلى لعبة لا فائدة فيها.

وغير ذلك مما لا يسعنا المجال للتعرض له ولكن يجب حذفه حتى نصل إلى التقريب المطلوب بل الضرورة في عالمنا الملتهب.

الهوامش:

([1]).  مستقبل الإسلام والغرب. شيرين هنتر تعريب زينب شوربا ص 111.

([2]).  قصة الطوائف للدكتور فاضل الانصاري ص 233.

([3]).  حدث في وقت واحد المفاوضات والقتال اثناء الحرب الصليبية الأولى. وجرى ذلك أيضاً في الحرب الثالثة والحرب السادسة. ونلحظ ما قام به العلمانيون من نشاط في توجيه سير الحرب الصليبية. فعلى الرغم من ان هذه الحرب قامت على أساس ديني، فإنها اتخذت في سيرها صفة دنيوية. ومن الأمور المتناقضة ان حملة دينية اسهمت في نمو الحافز الدنيوي، وهيأت للعلمانيين ان يفلتوا من ذلك الميل نحو التيوقراطية البابوية، وكان ذلك واضحاً في زمن بابوية جريجوري السابع.

أنظر حبشي: الحرب الصليبية الأولى. القاهرة 1958 ص 126- 127.

William of Tyre Trans. Krey. 1943. Vo.l.pp.223-224.

([4]).  رسالة التقريب العدد 69 الصفحات 229 - 236.

([5]).  ذكرتها الصحاح في اول ما ذكرته من روايات وجمعها صاحب جمع الفوائد في مطلع كتابه.

([6]).  الكافي، ج2 ص 25.

([7]).  الاحتجاج للعلامة الطبرسي ج1 ص 444.

([8]).  الفقه على المذاهب الخمسة ص 411.

([9]).  طبقات الشافعية الكبرى ج 2 ص 13 - 15 .

([10]).  ن. م ، ج 1 ص 90.

([11]).  سبأ 46.

([12]).  سبأ 25.

([13]).  آل عمران: 66.