خطر التكفير.. وسبل مواجهته

خطر التكفير.. وسبل مواجهته

  

خطر التكفير.. وسبل مواجهته

عفاف الحكيم

 

 

قال تعالى في سورة آل عمران:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}/103

وفي سورة الأنبياء قال تعالى:{فإن هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فأتقون}/92

ظاهرة التكفير التي ملئت ساحاتنا رعباً وغوغائية.. هي من أشد وأخطر الأزمات التي تواجه عالمنا الإسلامي اليوم، بل الانسانية جمعاء.

خطورة هذه الظاهرة المدمرة للإنسان وللحضارة الانسانية.. إنما تتمثل- بجماعاتها- التي تعتمد مع التكفير، العنف والإلغاء وعدم الاعتراف بالأخر- لأي دين أو طائفة انتمى- ما لم يلتزم بكل ما تذهب إليه.

والتي قامت منذ تفجّر مخططها الارهابي بتوجيه ضربات قاسية ومؤلمة لأسس الإسلام وكرامة المسلمين في العالم، وسعت بكل ما تملك من حقدٍ وقوة لإزالة كافة المساحات المشتركة بين أبناء الأمة الواحدة.. بحيث ضربت عمق مجتمعاتنا العربية والاسلامية وطالت كل الشرائح فيها.. وعملت بشراسة غير مسبوقة على استهداف كافة القوى والقدرات والقضايا الأساسية فيها وعلى رأسها وحدة المسلمين وقضيتهم المركزية الجامعة قضية فلسطين.. جاعلة من هذا الواقع المؤلم الأرض الصالحة والخصبة لقوى الاستكبار والصهيونية العالمية لتحقيق مصالحها على كل الصعد.

لكن ما يؤسف له أنه رغم جسامة الخطر الذي تمثله هذه الجماعات المضللة وفداحة الفجائع التي انزلتها بالإسلام والمسلمين، وما تشكله من تهديد للقيم الانسانية في العالم كافة.. إلا أننا حتى الآن لم نلمس من عالمنا العربي أو الاسلامي المصدوم.. تلك الهمّة التي تثلج القلوب والتي تفرزها عادة في كل بلد من بلداننا. الفعاليات الدينية المقدّرة والنخب الفكرية والاجتماعية والثقافية وغيرها من سائر المخلصين ممن يملكون القدرة على إيجاد أو تكوين ما يمكن أن يسمى تعاوناً نهضوياً.. سيبيله توفير اجراءات مدروسة وفاعلة لجهة محاصرة هذا الوباء التكفيري والقضاء عليه- في ارضه- تدريجياً ولو على المدى الطويل.. أو ما يمكن أن يقام من طرق الوقاية للمحافظة على نقاء بيئتنا..

فهذه الجماعات التي اقترفت وبشكل يومي الوان من القتل والذبح والتدمير والفتك الذريع من خلال انتحاريين يفجرون انفسهم بالمارة والمدنيين في المساجد والاسواق عبر  السيارات المفخخة وعبر المجازر الوحشية الجماعية التي تطاول النساء والاطفال... وصولاً إلى أمور غير مسبوقة من مثل حزّ الرؤوس وشق الصدور وتعليق الضحايا كالخراف أمام شاشات التلفزة لتجسيد كل ما ينفر ويفضي إلى تشويه صورة الاسلام واعتباره دين عنف وإرهاب. إذ كانوا يعتمدون ولأول مرة.. كأسلوب اعلامي التصوير والتسجيل للمجازر المرعبة وارسالها إلى كل المراكز الاعلامية والشاشات كتحدٍ سافر لكل من يدّعي الانسانية..

هذه الجماعات التي اعماها التعصب والتطرف والجهل بالإسلام وبمفاهيمه وقيمه والتي باتت تعيش الجرأة والاستهانة بحرمة سفك الدماء. مع ان حرمة دم المؤمن أعظم عند الله وأكبر من حرمة الكعبة، وقد تواترت الاحاديث الشريفة الدالة على هذا المعنى.

وان ما يؤلم ويحزّ في النفوس هو أن يموّل هذ التكفير الدموي الأرعن من قبل  بعض الانظمة العربية إلى جانب النظام السعودي الوهابي.. الذي تتلمذت على يده هذه الجماعات والذي كان المنبع الأساس لتمويلها والمصدر الأول لفتاواها التكفيرية التي ارتكبت بها المجازر البشعة في بلادنا. وفي بلاد العالم إذ كان دائماً النصيب الأكبر فيها للأسف من السعوديين بفضل هذا النظام الخاوي والفكر الأسود الذي يحمله والذي حول هذه الجماعات إلى أشبه ما يكون بوباء متوحش شرس يريد أن ينقض بالجملة على كل شيء، من بشر وحجر ومقدسات دينية لطوائف وأديان مختلفة وصولاً إلى التعرض للمراقد الشريفة ومدافن الاولياء والصالحين وحتى ما هو منتشر منها في الأماكن البعيدة والنائية، وذلك في اوسع عملية اجتثاث للتراث الاسلامي والانساني، وهذا لا شك من أكبر وأكثر مظاهر الجهل والتخلف

هذه الجماعات كان من كوارث ما حملته تلك العقلية الأحادية التي تقوم على الادعاء بامتلاك مطلق الحقيقة، وانها تنفرد دون غيرها فيها.. بحيث ترى ان الاسلام لا يتسع إلا لها، وان كل من خرج عنهم وعن افكارهم وقناعاتهم أو اختلف معهم فقد خرج عن الاسلام وبالتالي اصبح كافراً أو مرتداً.

ان هذه النظرة الضيقة التي تريد أن  تجعل الاسلام بحجم جماعة أو أخرى هي لا شك نتاج جهل حقيقي بهذا الدين العظيم الذي جاء لكافة الناس {وما ارسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً..}سبأ/28

{وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين}الأنبياء/108  والذي لا بد أن يكون لجميع ابناءه وبحجم جميع مذاهبه..

وإنها لكارثة أن يرى كلُ في نفسه الأهلية لفهم الدين وتفسير نصوصه وأنّ على الآخرين الاذعان لأمره والاخذ برأيه وإلا فإنهم مخالفون وخارجون عن العقيدة ويجوز التصدي لهم ومواجهتهم بشتى الوسائل والطرق الدموية بحيث باتوا لا يتورعون عن قتل كل من يعتبرونهم كفاراً في داخل المجتمعات الاسلامية متسلحين بفتاوى تخولهم.[قتال العدو القريب قبل قتال العدو البعيد].. فتاوى تأمر بترك العدو الخارجي.. المتربص بنا.. والمحتل لأرضنا.. وتعمل على تحويل الصراع إلى صراع ديني داخل المجتمعات العربية والاسلامية.. لندخلها في حربٍ ضروس لا تعرف لها نهاية.. ولا يستفيد منها إلا ذاك العدو الخارجي الخبيث..

صحيح أن المسلمين في الماضي عانوا من ويلات هذه الآفة الفتاكة وكانت فرقة الخوارج التي ظهرت مع بدايات المجتمع الاسلامي الأول.. هي المصداق البارز لهذه الجماعات التكفيرية ولهذه الحالة الحادة من الجهل المغلق الذي يأبى الانفتاح على الآخر من خلال ما بينه كتاب الله العزيز.. من الجدال بالتي هي أحسن- حتى مع غير المسلمين- ومن رد الخلافات والمنازعات الفكرية والفقهية إلى الله والرسول عبر الرجوع إلى القواعد العلمية الآيلة إلى الأخذ بحقائق القرآن الكريم والسنة المطهرة بعيداً عن التحجّر والاستبداد بالرأي قال تعالى:{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}/النساء/59

غير ان هذه الفرقة التي ابتدعها الخوارج يومذاك تقطعت وتلاشت رغم أن نهجها في العديد من الاحيان بقي موجوداً بشكل محدود ومضبوط.. فكان أن حافظت على وجودها الكامن على امتداد التاريخ الإسلامي بحيث تعايشت معها مجتمعاتنا لقرون لأنها بقيت عادية وطبيعية واقتصرت على مجرد أفكار واتجاهات لمفسرين أو علماء نشروها في الكتب او قدموها كدروس في مؤسسات أو معاهد دينية..

لكن خطورة ظاهرة التكفير في ايامنا أو هذه الحالة الكارثية التي صنعها الفكر الوهابي الموبوء فراحت تفرخ الارهاب وتنشرها في المنطقة والعالم باسم الاسلام.. هو إنها لا تعرف لغة للتفاهم مع الأخرين غير القوة والسيف والقتل وانتهاك الحرمات واستباحة كل شيء.. إنها لا تعرف معنى لحرمة ولا تفقه معنى لحق ولا تستوعب معنى لحوار أو نقاش أو دليل أو منطق.. بحيث رأينا الدواعش يحاربون كل الناس ولكن لم يخرجوا يهودياً واحداً، رأيناهم يقاتلون المسلم والمسيحي وغيرهم من كل الطوائف والاديان لكن لم يقاتلوا اليهود الصهاينة ولم يربكوا ساحاتهم كما أربكوا كل الساحات..

كان الدين الإسلامي قبل هذه الظاهرة هو الأكثر انتشاراً في انحاء العالم سواء في أمريكا وأوروبا وغيرها فجاءت هذه الحالة التكفيرية لتشوّه صورته.. وتوقف هذا المد الجليل.. ولتقول للناس على امتداد العالم- عبر المشاهد المأسوية المتلفزة- ان هذا هو الاسلام الذي انتم مقبلون عليه.. وهؤلاء هم المسلمون.

نعم في المحصلة هي حرب على الاسلام دون أدنى شك. لذلك بات الدفاع اليوم عن هذا الدين، عن رسالته وتعاليمه وأخلاقه وقيمه السمحاء.. في مقابل حقد ومكر قوى الاستكبار والصهيونية العالمية واتباعهم في المنطقة وعلى رأسهم النظام السعودي الوهابي.. والذي يسخّر هو وجميع هؤلاء كل ما يملكونه من سلطة ومال وبترول واعلام ليكون كله بخدمة تلك الجماعات التكفيرية التي اشعلت نيرانها في كل مفاصل هذه الأمة..

السيد القائد دام ظله يقول بهذا الخصوص:[مضطرون اليوم للانشغال بتلك الابتلاءات التي اوجدها الاستكبار داخل العالم الاسلامي. ولا بد لنا من ذلك في الواقع. إن تناول قضية التكفير هو أمرُ فرض على علماء العالم الاسلامي ونخبه وحكمائه.

أن هذا الامر قد افتعله العدو كمشكلة للعالم الاسلامي ونحن مضطرون لمواجهته، في حين إن القضية الاساسية هي الكيان الصهيوني. وهي قضية القدس، وهي قضية القبلة الاولى للمسلمين والمسجد الأقصى. هذه هي القضايا الأساسية]

وعليه ومن هذا المنطلق.. ولإراحة العدو الصهيوني فقد حاول التكفيريون اشغال مجاهدي المقاومة الاسلامية في لبنان بشتى المتفجرات التي استهدفت مناطقنا اللبنانية عامة والضاحية خاصة بعشرات السيارات المفخخة، غير ان أبناء المقاومة البواسل استطاعوا بفضل الله ومن خلال عملهم الاستثنائي.. من القضاء على أكبر رموز التكفيريين.. بل دمروا مراكز تصنيع المتفجرات والسيارات ومعامل تصنيع الأحزمة الناسفة، فكان أن أراحوا الناس.. وفي نفس الوقت حافظوا على اليقظة والجهوزية والاستعداد لأي مواجهة مع العدو الصهيوني.. وهذا ما انعكس إيجاباً على لبنان والمنطقة عامة..

وأنه بالعودة إلى موضوعنا نجد أنه مع القوة والاقتدار.. فإن أي إنسان يمكنه أن يختار المكان الذي يريده ليضيء فيه شمعة.. فمؤتمر غروزني على سبيل المثال أهميته إنه جمع ما يزيد على مائتي عالم من علماء المسلمين من مختلف البلدان متجاوزاً النظام الوهابي والمرتبطين به.. وهناك وضعت النقاط على الحروف.. وأعطيت الوهابية حجمها وأبعادها، مع كشف خطورتها على الاسلام والمسلمين.. وحيث صرّح العديد من كبار العلماء بأن الفكر الوهابي ليس من الاسلام وأنه خطر على الأمة..

ولا شك أنه لمن المفيد والضروري أن تستكمل هذه المؤتمرات بأنشطة وأعمال متممة لتنوير الراي العام الذي تاه في هذه المعمعة السوداء.

أخيراً: سبل مواجهة خطر التكفير:

1-أن مواجهة هذه الظاهرة المدمرة للإنسان وللحضارة الإنسانية لا بد أن تكون متعددة الابعاد، من ثقافية وفكرية وتربوية وأمنية واقتصادية.. غير أن المسؤولية الأثقل في هذا الموضوع هي حتماً ملقاة على عاتق الفعاليات العلمائية الدينية الموقّرة والنخب الفكرية التربوية.. فهم جميعاً مطالبون بتحمل هذه المسؤولية التاريخية الخطيرة

أما بالنسبة للمجتمعات التي تأثرت بهذه الظاهرة وكانت على تماس معها فلا شك أن  الحلول الأمنية غير كافية لأنها ليست بقادرة على اجتثاث هذه الظاهرة من جذورها، وهي بعد أن قطعت هذه المرحلة المثقلة لا يمكن مواجهتها بالحوار وإنما أولاً بردعها عن قتل الناس وتخريب وتدمير البلدان الاسلامية وثانياً: عبر اللجوء إلى جانب ذلك إلى الآليات الثقافية والفكرية والاعلامية من أجل قطع دابر التكفير واقتلاعه من جذوره. وهذه لا شك أيضاً مهمة العلماء والمفكرين في العالم الاسلامي ممن ينبغي لهم التصدي لمخاطر الافكار التكفيرية والقيام بمسؤولياتهم الإلهية.

2- أن مواجهة هذا المشروع التكفيري تفرض وضع استراتيجيات وخطط مرحلية وبعيدة المدى يلحظ فيها تجفيف متابع هذا الفكر الهدام المستند على مغالطات تاريخية وفكرية مشوهة، وفتح الحوار الفكري والحضاري بين التيارات الدينية والمذهبية والسياسية وارساء فضاء توافقي لتخفيف حدة الصراعات وإيجاد أرضية صلبة للتلاقي..

3- إقامة مؤتمرات وندوات للتقريب بين المذاهب الاسلامية على مستوى اسلامي رفيع وفتح باب الحوار بين مختلف التيارات الدينية وذلك.. لشرح ما تحتاجه الأجيال من اثبات بطلان ولا عقلانية  أو شرعية الفكر التكفيري وعدم استناده إلى واقع موضوعي، ومعطى ديني باعتباره فكر مشوه ودخيل على الاسلام.

4- أن نذكر ونؤكد على كل من توجب عليه هذا الأمر، بأن هذه الجماعات التكفيرية الارهابية وما تحمله من مشاريع خطيرة هو واجب ومسؤولية الجميع.. لأن هؤلاء يشكلون اليوم أداة حقيقية لقوى الاستكبار والصهيونية. أداة تعمل على تقطيع أوصال الأمة وتغيير مسار صراعها القائم على مواجهة العدو الصهيوني ليتحول بأس شعوب هذه المنطقة موجهاً إلى بعضها البعض متذكرين ما قاله الامام الخميني العظيم من أجل أن[جميع طوائف المسلمين تواجه اليوم قوى شيطانية تريد اقتلاع جذور الاسلام. هذه القوى التي ادركت أن الشيء الذي يهددها هو الاسلام. وأن الشيء الذي يهددها هو وحدة المسلمين]

 وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين