دور التجديد في اغناء الفكر الإسلامي

دور التجديد في اغناء الفكر الإسلامي

 

 

دور التجديد في اغناء الفكر الإسلامي

 

محمد فاروق النبهان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

التجديد بين المؤيدين والمعارضين

أصبحت لفظة التجديد من الكلمات المألوفة والمكررة، فالبعض يؤيد التجديد ويدعو إليه ويجد فيه الأمل لنهضة فكرية، تعتمد على إعادة الحياة لفكرنا الإسلامي لكي يكون في حركته مواكبا لحركة المجتمع ومعبرا عن قضاياه المعاصرة، والبعض الآخر يجد في الدعوة إلى التجديد طريقا إلى تحديث الفكر والابتعاد به عن مصادره الإسلامية، والتحكم في مسيرته وفقا لمتطلبات مستحدثة تناقض الثوابت الإسلامية.

وابتعدت كل من الضفتين عن الأخرى وتوقف الحوار بينهما، وأصبح كل فريق يتهم الآخر بما يشوه مقاصده ويسيء لمكانته واقترنت كلمة الأصالة بالدعوة إلى الجمود وتكوين فكر تراثي لا يقبل أي إضافة إليه، واقترنت كلمة المعاصرة بالتفريط بكل قديم، والنظر إلى الموروث نظرة سلبية، والدعوة إلى هجره وإقصائه والتخلي عنه.

ومن المؤسف أن كلاً من الطرفين لا يعرف ما يريده الآخر، ولم يفتح قلبه لسماع ما يؤمن به ذلك الآخر وما يدعو إليه، وهذا هو سبب الخلاف والتباعد، ولو أقيمت مجالس للحوار الجاد بين رموز المدرستين من العلماء والمفكرين، واستعد كل فريق لسماع ما يريده الفريق الآخر وما يدعو إليه بقلب صادق وإخلاص حقيقي ورغبة جادة في تفهم وجهة النظر الأخرى، واستعداد نفسي للاحتكام للحق والانصياع له، لاكتشف كل فريق أن الفجوة بين المدرستين ليست واسعة، وان كل فريق يبحث عن الطريق المؤدي لتحقيق النهضة وإغناء ثقافة الأمة، والتصدي للتحديات الحضارية والثقافية التي تستهدف كيانها ومكونات هويتها.

والأثر الذي تحدثه الفرقة والانقسام والتصادم الداخلي والتنابز بالألقاب وإتهام كل فريق للفريق الآخر بالقصور والجمود والتبعية هو أكثر خطورة وأعظم ضررا، وهذه الظاهرة تدل على عجز مفكري هذه الامة ورموزها الفكرية عن التلاقي والتفاهم، وإيجاد قنوات سلمية للحوار، مفيدة ومحصنة بدروع الإخلاص، لخدمة هذا الفكر والنهوض بأمره..

فالتجديد مطلب ملح ولا خيار لنا في رفضه، فالفكر في مسيرته يتجدد بتجدد الأجيال، ويستمد من كل جيل رؤيته لقضاياه الفكرية، ويثري بذلك رصيده الموروث، ورؤية الأجيال لقضاياها الفكرية هي نتاج ذلك التفاعل بين الإنسان بمكوناته العقلية المؤثرة في تصوراته وبين ذلك الموروث الثقافي والتربوي والأخلاقي الذي يوجه ذلك التصور ويتحكم في مساره، ويؤدي ذلك التفاعل إلى رؤية فكرية معاصرة، قوامها ذلك الموروث الثقافي الذي يرضع الطفل لبانه منذ طفولته المبكرة وامتدادها ذلك الفضاء الذي يحيط بالإنسان في حياته المعاصرة.

وتختلف ثقافتنا باختلاف المكونات التي تسهم في صياغة ملامحها، والموروث مصدر مهم لتلك الثقافة، ولا خيار لنا إلا أن نتأثر به، بطريقة فطرية وتلقائية ولو قمنا باختبار تربوي لمعرفة أثر الموروث الثقافي في صياغة فكر الإنسان لاكتشفنا أثر ذلك بطريقة واضحة، وبـإمكاننا أن نختار شقيقين، ونربيهما في محيطين اجتماعيين مختلفين في ثقافتهما، وسوف نكتشف أثر الثقافة المحيطة بكل منهما في فكره وسلوكه وقيمه واختياراته.

والعقول البشرية التي تعتبر المصدر الأهم للمعرفة ليست سواء، وهي متفاوتة في قدراتها وفي تكوينها وتختلف بحسب المؤثرات التي تسهم في صياغة تصورها وإدراكها للمعارف والأفكار.

وقد قسم الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة» العقول إلى قسمين:

الأول: عقل غريزي وهو القوة المتهيئة لقبول العلوم، وهذا العقل موجود في الطفل الصغير كوجود النخلة في النواة.

الثاني: عقل مستفاد، وهو القوة المكتسبة من التجارب الدنيوية والمعارف الكسبية وأحيانا تضاف إليها المعارف الإلهية المكتسبة من العلوم الأخروية، والعقل المستفاد من التجارب يرتبط باجتهاد العبد في تحصيل العلوم والمعارف، وشبهوا العقل الغريزي بالنسبة للنفس كالبصر للجسد، كما شبهوا العقل الكسبي بالنور الذي يمكن الإنسان من الرؤية والإپصار، وهذا  مايسمى بالبصيرة التي لا يغنى عنها البصر الغريزي.

 

ولابد لإثراء الفكر من المعرفة العقلية الاكتسابية التي تنمو بقوة البصيرة العقلية التي تشع دائرة عطائها بحسب قدرات الإنسان ومعارفه التي تحتاج إلى جهد متواصل.

 

والموروث الثقافي هو أحد العوامل المؤثرة في إغناء العقل الكسبي بما يوفره من صقل المواهب الذاتية وتنمية القدرات الفردية، وهذا كله يؤدي إلى تكوين ذلك التفاعل الحتمي بين القديم الذي يمثله ذلك الإرث الثقافي المتسع الآفاق وبين الجديد الذي يجسده ويعبر عنه العقل البشري.

 

والإنسان المعاصر بقوته العقلية هو وليد ذلك التمازج بين القديم والحديث وبين الموروث الذي يمثل الأصالة والمكونات التربوية والبيئية والقيمية التي تؤكد انتمائه لعصره وتأثره بقضايا هذا العصر وفكره وثقافته.

حتمية التجديد

والتجديد أمر حتمي ولا يملك الإنسان تجاهل انتمائه لعصره، وتأثره الفكري بما يجري حوله، والتجديد هو توفير ظروف الاستمرارية للفكر لكي يؤدي دوره في التوعية والتنوير، لكي يكون الفكر فاعلا ومؤثرا في حركة المجتمع وفي اختياراته الثقافية، وغاية التجديد إحياء التواصل بين الفكر والمجتمع، وتمتين الصلة بين الإنسان وثقافته الأصلية التي تمثل امتداده الإنساني...

 

ولايمكن للأصالة أن تجسد قصور العقل عند أداء دوره في إغناء المعرفة الإنسانية، فالأصالة لا تعني القصور والجمود، ولو كانت كذلك لكانت أصالة مذمومة وضارة، تعبر عن حالة نفسية مرضية، ومجتمعنا يعتز بأصالته وبموروثه الثقافي الذي بناه الأجداد بجهدهم واجتهادهم، والأمة التي تتنكر لموروثها القديم وتتجاهله سرعان ما تجد نفسها في موقع التبعية للغير باحثة عن ذاتها من خلال ثقافات غريبة عنها، مناقضة في مفاهيمها لقيم الثقافة الوطنية الأصلية التي تجمع الأمة في الأزمات، وتعيد إليها ابتسامة الأمل في اللحظات العصيبة.

 

ونريد اليوم أن نتجاوز هذه الثنائية التقليدية في التصنيف المعتاد، القديم والجديد، والأصالة والمعاصرة، إلى طرح مفهوم جديد لا يعتمد هذه الثنائية، وإنّما يطرح فكرة النهضة وضرورة النهوض الحضاري عن طريق تشجيع المناهج العقلية في مجال التفكير العلمي لمطاردة الجمود والتغلب على التخلف وتنمية القيم الروحية في السلوك الإنساني للتخفيض من طغيان القوة المؤدية إلى المظالم الاجتماعية.

 

والغاية المرجوة من ذلك تحقيق الذاتية المستقلة للشخصية الإسلامية التي تعتبر أداة النهضة الحقيقية التي تبتدئ بتكوين الإنسان واحترام حقوقه الإنسانية وتوفير الحرية له لكي يشعر بتلك الذاتية المحصنة من الداخل بمشاعر الكرامة، والمتطلعة في حركتها الخارجية إلى تحقيق أسباب النهوض الحضاري..

 

إن النهضة المرجوة لن تتحقق في مجتمعنا من خلال القوانين والأنظمة والمناهج التربوية والثقافية قبل أن تتحقق في كياننا الذاتي كإرادة وعزم واختيار. فالمواطن عندما يشعر بكرامته يطالب بحريته لأنها امتداد لتلك الكرامة، وعندما يحصل على حريته يحافظ عليها ويستخدمها كاداة للإقلاع الحضاري، وعندئذ يحدث التغيير الخارجي الذي يراه المواطن ضروريا لتحقيق نهضته، في القوانين والأنظمة وفي المواقف والسلوكيات والقيم السائدة.

 

وعلينا قبل كل شيء أن نجيب على هذا التساؤل:

- أي إسلام نريد؟

- وماذا نريد من الإسلام وماذا يريد الإسلام منا؟

وهنا سنجد أنفسنا أمام منعطف صعب وخطير، ولابد في هذه الحالة من أن نحتكم إلى الحق، وأن نستخدم عقولنا بمنطق واقعي وأخلاقي..

 

كل فرد منا يدعى امتلاك الحقيقة وحده، وكل فرد يستطيع أن يدعم دعواه بالأدلة النقلية والعقلية، وأن يدافع عن الحقيقة التي يؤمن بها، وطالما أننا لا نملك الأدلة القطعية التي تؤكد امتلاكنا للحقيقة فلا خيار لنا في قبول التعددية الفكرية والمذهبية واحترام الآخرين، ولو كان مخالفا لنا في الرأي والمذهب، وتشجيع الحوار الفكري والثقافي لا لأجل إلغاء الآخرين، ولكن لأجل التعايش والتقارب معه وهو الخيار الوحيد لتحقيق السلام بين شعوبنا والدفاع عن مصالحنا.

مدى حاجتنا إلى التجديد

والتجديد ليس ترفا نسعى إليه، وإنّما هو حاجة وضرورة، لكي يكون فكرنا مواكبا لحركة المجتمع، ومهتمّاً في إغناء رؤيتنا للقضايا المعاصرة، فما نواجهه اليوم من قضايا ليست على وجه اليقين من نوع القضايا التي واجهها فكرنا في القديم وتصدى لها بشجاعة وموضوعية، وناقشها بحرية معتمدا في ذلك على مرتكزاته الفكرية والعقدية، ومصالحه الحيوية التي كان يحافظ عليها، وبفضل هذه المنهجية المؤمنة بالحوار مع الآخر من غير تفريط في الثوابت والمرتكزات أصبح تراثنا غنيا بفكره، متشعبا في قضاياه متسعا في رؤيته.

ونحن اليوم أمام قضايا جديدة، وهي في حقيقتها تحديات معاصرة، وقد وصلت إلينا وفرضت وجودها علينا، ولا يمكن لنا أن ننتجاهلها فهي كالطوفان الذي يجري بقوة في السهول والوديان ويغرق كل مايصادفه في طريقه.

 

والعولمة اليوم في أپعادها السياسية والثقافية والاجتماعية أكثر خطرا من بعدها الاقتصادي الذي بدأت به، إنها قضية الغد التي ستكون كالطوفان إنها استراتيجية الغرب لإلغاء الآخر، وتجريده من كل مكونات هويته الحضارية والثقافية، لكي يكون الأرض الخلاء المعدّة لاستقبال كل وافد جديد، من ثقافة وقيم وتقاليد، وستكون في المستقبل هي الجيش المتمركز الذي يحيي نفوذ الغرب في بلادنا ويسهر على بسط سلطانه في أرض الإسلام من خلال سيطرته على صروحه الاقتصادية، ورقابته المستمرة على أداء مؤسساته الدستورية، وتطويق إرادته الشعبية المتمثلة في مقاومة النفوذ الغربي بالتخويف من التطرف والإرهاب.

 

إننا نرفض العنف والإرهاب في العلاقات الإنسانية سواء على مستوى العلاقة بين الأفراد والجماعات أو على مستوى العلاقة بين الدول، ونتسائل اليوم عن أمرين:

 

الأول: ما أسباب التطرف والعنف في السلوك الإنساني؟ فالاعتدال كما يقول ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق هو الصحة النفسية، والميل عند الاعتدال هو المرض النفسي، والنفس بطبيعتها ترفض الميل عن الاعتدال إلى التطرف لأسباب خارجة عن إرادتها، كميل الإنسان إلى التلذذ بالأطعمة الفاسدة، وأسباب التطرف هو الشعور بالظلم والاحساس بالمعاناة، فهذا مما يؤدي إلى السلوكيات الخاطئة.

 

الثاني: ما موقفنا من العولمة المعاصرة كاستراتيجية دولية لصياغة عالم جديد؟ من المؤكد أنه لا يمكننا أن نغلق أپواب بيوتنا مكتفين بإدانة هذه الاستراتيجية الجديدة، فهي قادمة كالطوفان، ولاخيار لنا فيها، ولا نملك القدرة على إيقاف مراكبها وهي تجري بقوة باتجاه شواطئنا.

 

إننا لا نرفض فكرة العولمة التي تؤدي إلى تعزيز القيم الإنسانية في السلوك والى إلغاء التفاوت بين الشعوب في توزيع الثروات، وإلى احترام حقوق الإنسان في القوانين والمعاملات الإنسانية، وإلى مساعدة الشعوب الفقيرة على توفير أسباب الكرامة لها، والى إيجاد شرعية دولية مستقلة وعادلة ومنصفة، تحمي مبادئ العدالة وتدافع عن الحق وتناصر المستضعفين في الأرض.

 

هذه عولمة إنسانية محمودة، ونجد معالمها في تراثنا الإسلامي الذي يدعو إلى احترام إنسانية الإنسان وتحريره من الظلم والاستعباد وإلغاء الفوارق بين القوميات والشعوب، واعتبار التقوى والعمل الصالح هو معيار التفاضل والتمايز، والدعوة إلى السلام الذي يحقق للجميع الشعور بالأمن والطمأنينة والسكون النفسي...

 

عولمة التكافل والتعاون من مبادئ الثقافة الإسلامية، ومن اليسير أن نرى ملامح هذه العولمة التضامنية والتكافلية في أحكام الإسلام الفقهية، في نظام الزكاة والواجبات المالية والصدقات، كما نجدها في أخلاقية العلاقات الدولية واحترام المواثيق والعهود والاتفاقات في حالات السلم والحرب والاعتراف بحقوق الأسرى وتحريم الإساءة للأبرياء حتى الأطفال والشيوخ والعجزة، وتحريم إهدار الأموال وقطع الأشجار.

 

فإن كانت عولمة الغرب تعني هذه المفاهيم وتنادى بها وتسعى من أجلها، فهي عولمة مرحب بها، وهي إنجاز إنساني كبير، لأنها تمثل تكافل المجتمع الدولي لمقاومة الفقر والجهل والأمراض والمظالم، وإن كانت تلك العولمة تعني إلغاء الآخر وإضعاف مكونات هويته الوطنية والتحكم في مؤسساته وقراراته وثرواته فمن الطبيعي أن تواجه تلك العولمة بمواقف التطرف وسلوكيات اليأس والقنوط.

 

ولا يمكننا أن نواجه التحديات الحضارية بواقعنا المعاصر، سواء على المستوى الفكري والثقافي أو على مستوى اهتماماتنا الهامشية التي تعبر عن واقع سلبي يكرس حالة التخلف والجمود والعجز... ولابد من منهجية جديدة لتجديد مناهجنا

 

وإعادة الحياة للشرايين التي جفت دماؤها وتصلبت جدرانها، عن طريق إحياء دور العقل في إغناء فكرنا، والتجديد لابد له من نخبة رائدة من العلماء والمفكرين يحملون الراية ويتقدمون الصفوف.

التجديد أداء التواصل

والتجديد هو أداة التواصل بين الفكر والمجتمع، لكي يكون الفكر فاعلا ومؤثرا في حركة المجتمع.. وهذا المنهج التجديدي في الفكر يعمق الصلة بالموروث الثقافي ويغنيه بما يضمن إحياءه بالإضافات المتجددة إليه، والتي يضيفها كل عصر من قضاياه المطروحة على جيله.. وبهذا المنهج تنتفي صفة القدم عن التراث، ويصبح تراثا متجددا بعطاءات الأجيال المتعاقبة.

 

والمجتهد هو وليد عصره ونتاج بيئته، ولا يمكنه أن يتجاهل أثر مجتمعه عليه، بتكوين ملامح شخصيته وصياغة معالم فكره، وتوجيه اهتمامه إلى قضايا عصره، والمجتهد مخاطب بالنص ومكلف بفهم ذلك الخطاب، وعليه أن يستنبط من النص رؤيته الفكرية الذاتية كما تتراءى له وكما تترجح عنده، ولا يعتبر تقليده لغيره كافيا عن بذل جهده للوصول إلى الحق الذي يترجح لديه، فإن اكتفى بالتقليد عجزا عن الفهم فلا يوصف بالمجتهد، وإن توقف عند حدود التقليد كسلا فقد تخلى عن أداء مهمته وأساء للثقة الممنوحة له.

 

والاجتهاد تفاعل بين النص والمجتهد، وتنبثق من خلال ذلك التفاعل رؤية عقلية راجحة تطمئن إليها نفس المجتهد ويرتضيها رأيا له معبرا عما انقدم في عقله من تصور لطبيعة المسألة الاجتهادية التي عكف على التأمل فيها، فإن وقع منه قصور في فهمها فسرعان ما تتغير ملامحها في نفسه، فيكون اجتهاده بعيدا عن الحق، لقصوره في توفير أسباب الفهم له ولا يجوز لمجتهد ما أن يجتهد في المسائل البعيدة عن تخصصه لعجزه عن رؤيتها بطريقة سلمية.

 

وهناك جانب لا يمكن التغلب عليه في الجهد الاجتهادي، ويتمثل في طبيعة المجتهد وخصوصياته الخلقية (بفتح الخاء) ومكونات استعداداته النفسية الناشئة من تأثير التربية عليه، فيغلب عليه ما هو غالب في طبعه التكويني من رفق وشدة، وتساهل وتشدد، وتفاؤل وتشاؤم، فمن عاش في بيئة معينة أسرية أو اجتماعية فهو متأثر بها منفعل بآثارها متحكمة به، تلون له الأشياء باللون الذي ينسجم معها ويعبر عنها، فيكون الاجتهاد معبرا عن رأي المجتهد كما ترجح لديه وظهر له، ولا يعني أنه على حق فيما رآه وأنه يمتلك الصواب وحده، وهذا مما يدفعنا إلى احترام التعددية في الآراء الاجتماعية، والاعتراف بحق كل مجتهد في الدفاع عن رأيه، وإيجاد قنوات للحوار والمناظرة لاتستهدف الانتصار للرأي والدفاع عنه، وإنّما تستهدف معرفة الحق والالتزام به.

التعددية ظاهرة إيجابية

التعددية المذهبية ظاهرة إيجابية تعبر عن ثراء الفكر وحرية الرأي وقدرة العقل على الفهم المتعدد كما يدل على خصوبة النص في دلالته على المعاني المتعددة المستفادة منه، ولا يمكننا اعتبار ذلك من السلبيات التي يراد التغلب عليها والتخفيف من آثارها، والنصوص الشرعية غنية بالدلالات والمعاني المراد بها، من خلال تتبع الدلالات المتقاربة من الألفاظ ومن خلال البحث عن مقاصد الشريعة التي تهدف إلى تحقيقها.

 

والمجتهد في استنباطه للأحكام الفقهية يقف حائرا مترددا بين ترجيحه للدلالة اللغوية للألفاظ الواردة في النص أو ترجيحه للمقاصد الشرعية المستفادة من عموم النصوص والمؤكدة بالأدلة القطعية. وهذه الحيرة سرعان ما يقع التغلب عليها بإيجاد منهجية موضوعية تراعي ذلك الترابط الوثيق بين المقاصد الشرعية والدلالات اللفظية، بحيث تكون المقاصد موجهة لنشاط المجتهد، يبحث عنها في ثنايا الألفاظ، ويتغياها في خطواته، ولا يتخطاها أو يتجاوزها، لأنها الغاية المرجوة من الأحكام الفقهية والمقاصد المعتبرة التي جاءت الشريعة لحمايتها وإقرارها وتمكين المجتمع من الاستفادة منها.

منهج التجديد:

ويتطلب منهج التجديد مراعاة ما يلي:

أولا: إعطاء الأولوية للمقاصد الشرعية، وفهم النصوص في إطار تلك المقاصد التي تهدف إلى تحقيق مصالح البشر وحفظها، ويكون حفظها، بأحد أمرين.

الأمر الأول: بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها:

الأمر الثاني: بما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها.

ويؤكد ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، فهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت  إليها بالتأويل ([1]).

 

ثانيا: تجريد الفكر الإسلامي من المؤثرات السلبية المكانية والزمانية التي أسهمت في إبعاده عن مصادره الأصلية وينابيعها الصافية المتمثلة في القرآن والسنة، وأهم هذه المؤثرات التعصب المذهبي المذموم الذي أغلق نوافذ الحرية الفكرية، وأعطى للمذهبية قدسية في النفوس، وجعل التقليد المذموم محمودا في نظر العامة والاجتهاد المحمود الصادر عن أهله مذموما ومكروها ومعبرا عن عقوق المحدثين للسابقين الأولين من العلماء.

 

ثالثا: الاعتراف باستقلالية الفكر وقدسية الرأي، وعدم التدخل في حرية المجتهدين بالتوجيه والتقييد، لكي يكون الاجتهاد معبرا عن رأي الشريعة، وموثقا به. وأن يسند الاجتهاد لأهل الاختصاص من العلماء وان يعتمد على أهل الخبرة والدراية في كل موضوع، فلا يجتهد في قضايا الطب إلا من كانت له الدراية فيها، ولا يجتهد في شؤون التجارة والمال إلا من عرف مجاهلها وأسرارها، ولا يجتهد في شؤون الأسرة والنفقة والحضانة إلا من اطلع على معاناة الأسر ورأي دموع الأطفال المشردة في الشوارع.

 

رابعاً: الاهتمام بالفقه الواقعي الذي يناقش قضايا المجتمع التي يعكف القضاء على النظر فيها، من النوازل المستحدثة التي حلت بالناس مما ليس له حكم سابق او تغيرت الظروف وتبدلت بتغير الزمان والمكان، وبخاصة في القضايا التي اختلت فيها الموازين وتبدلت فيها الأحوال، مثل قضايا النسب والتلقيح الصناعي وتطور وسائل الإثبات، وقضايا الاستثمار والشركات والسندات والأسهم وغير ذلك من النوازل التي اجتهد علماء الغرب الإسلامي بالتصنيف فيها، وهناك عشرات الكتب في فقه النوازل.

 

خامساً: استهداف البحث عن الحكم الشرعي كما يراه المجتهد والابتعاد عن التشدد من باب الورع وتملق وعواطف الأمة، والتسأهل والتفريط من باب التسامح والتقرب من الحكام وأصحاب النفوذ، فليس التشدد فضيلة ولا يعتبر التسامح فضيلة، فالفضيلة هي التزام الحق والدفاع عنه، دون مراعاة لآراء الآخرين، ويكمن الخطر في تصدي من لا يحسن الرأي والاجتهاد للفتوى عن جهل رغبة في التقرب إلى العامة لترتفع بذلك مرتبته عندهم متجاهلا مسؤولية أداء الأمانة عند الله تعالى.

إننا ندعو إلى التجديد ونشجع عليه، مع التزام مناهج التجديد السليمة التي تعطي لفكرنا الفقهي الحيوية والقدرة على مواكبة حركة التغيير الاجتماعي، وتثري هذا الفكر وتغنيه بما يضاف إليه من أراء واجتهادات، لكي يكون فكرنا اصيلا في مصادره وينابيعه ومعاصرا في سعة رؤيته وواقعية أحكامه.

 

ونريد التجديد الذي يلغي ذلك التصنيف المعتاد للمدارس الفكرية القديم والحديث. كما نريد التجديد الذي يعيد الاعتبار للنصوص الشرعية لكي تقرأ من جديد قراءة متأنية بعيدة عن المؤثرات الخارجية ذات الطابع التاريخي والتي أسهمت بطريقة واضحة في تعميق الفجوة بين ضفتي العالم الإسلامي، المذهب السني والمذهب الشيعي.

 

لا نريد التجديد رغبة في الجديد، وإنّما نريده لكي تكون التعددية معبرة عن ثراء الفكر وغناه وخصوبة أرضه وغزارة مياهه، تجتمع رموزها لأجل التقارب، وتتحاور طلبا للحق، وتوحد كلمتها في مواقف التحديات، للدفاع عن عقيدة الأمة وثقافتها ومصالحها المشروعة.

([1]). انظر إعلام الموقعين، ج 3، ص 3.