فقه النظرية.. معرفة وتطبيق

فقه النظرية.. معرفة وتطبيق

 

 

فقه النظرية.. معرفة وتطبيق

 

السيد جواد العذاري

 

بسم الله الرحمن الرحيم

نظرة في الدراسة التجزيئية

ان الدراسة التجزيئية التي قامت عليها اغلب البحوث والدراسات الفقهية وغيرها كانت سبباً واضحا في تكوين نظرة عامة يراها الكثير حين يريد المطالعة والاطلاع أو الانتماء الدراسي والمدرسي يكتشف ان منهج الدراسات الإسلامية سواء في المعاهد الدينية أو الدراسات الإسلامية الأكاديمية تعبر عن معلومات جزئية وقواعد وأصول متناثرة ومنفصلة بعضها عن البعض الآخر ويؤكد هذا الفهم والتصور التقسيم والتنوع الفعلي لأبواب الفقه وكأنها قائمة كل على حدة ليس بينها وبين الآخر صلة وهذا ما يجعل المتتبع لا يجد الرابط والجامع بين المحاور والأبواب الفقهية مما أدى إلى خلل واضح في القيمة التربوية وبناء الشخصية وفق اتجاه ومعرفة منسجمة ومتكافئة كما نلمسها في النص والتعبير الديني الأصيل الذي يلمس منه تحديد الأهداف في توجيه القرآن الكريم لذلك اضطر الكثير إلى التمسك باستعمال المصطلحات المناسبة لتوجيه القضايا الفقهية حتى يمكن ان يحقق التعبير الفقهي شيئا من توجيه الحياة.

 فهناك فرق في فقه القرآن الكريم الذي هو الأساس والركن من حيث مصادر الفقه فان التبويب التجزيئي الذي سار على نهج تقسيم الفقه إلى العبادات والمعاملات منفصلة عن بعضها نرى التعبير القرآني يجعل في نصه ونظريته للحياة وحركة الإنسان كلها عبادة وإنما يسمي أحياناً الوقفات العبادية المحددة بزمن بأسماء ومفردات كالصلاة والصوم ولكن العبادة يعتبرها شاملة وإنما الصلاة جزء من العمل والصلة والتعبد وقد أوضح القرآن الكريم ذلك في قولة تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) يكشف من هذا المنهج ان حركة الحياة التي يمارسها الإنسان داخلة في فقه ونظرية العبادة بل يكشف من الآية الكريمة ان العبادة هي المعرفة الإسلامية الدينية في معناها الواسع.

الأزمة الفكرية في التجزئ

ان طبيعة الإنسان تتجه دائماً في التفكير والتصور إلى القاعدة والمحور الذي يتمركز حوله مقومات توجيه الإنسان لان يكون منتمياً ومتفاعلاً ومتبنيا للفكرة حتى يتمكن من النمو والتعمق والحوار إلى جانب قدرة التعبير المنطقي الذي يتجلى دائما في تبلور أُصول المعرفة الايجابية التي يتلقاها في ظل النظرية ليكون الارتباط بها يتقوم باستمرار بالإحاطة والاستيعاب وحسن التلقي الذي يكون عاملا مهما في طريق ترشيد الإنسان عقليا وإشباع جوانبه المهمة الأخرى التي تؤلف الكيان الإنساني كحقيقة مترابطة نشعر بالخلل حين تتعامل مع الجزئيات من زاوية واحدة ولذلك فشلت وتراجعت النظريات التي طرحت موضوع العامل الواحد في تصميم الفكر الإنساني وإعادة بناءه فكانت نظرية العامل الاقتصادي أو النظرية الجنسية وأمثال ذلك من النظريات ولو انها لم تكن أطروحات تجزيئية لكنـّها جزءت كيان الإنسان واعتبرته حقيقة قائمة ومنسجمة حين تشبع من جانب واحد فإذن حتى في رفع شعار النظرية يبقى الإنسان يشعر بالنقص ويتجه للبحث عن إشعاع يرفد كل وجوده نفسيا وروحيا وعقلياً ووجدانيا مما أدى إلى تصاعد الأزمة النفسية والفكرية حتى ضاعت إنسانيته وافتقد أعلى حقيقة في وجوده وهي القوة العقلية والفكرية وروح الانتماء إلى المبدأ والتصور الصحيح الذي يمتلك الشمولية ويمتد إلى كل أبعاد الإنسان ومقوماته الأساسية التي يجمع في ظلها شخصيته المتوازنة ويشعر بتحقق طموحه وتطلعاته حين يتفاعل مع الفكرة الكفوئة الصالحة المتجاوبة مع فلسفة تواجد الإنسان وعلاقاته الفكرية والعقائدية والمنهجية والإنسانية بكل ضروراتها.

الدراسات النظرية منهج تبني ومعرفة

ان ممارسة تحديد إبعاد النظرية الفقهية قائمة على مفترق جوهري يعطيها الميزة المتفوقة والقابلية الميسرة في التطبيق والتبنى والتفكير وفي الصياغة والتصميم المنهجي وقدرة الإشراف على إدارة الحياة الإنسانية مما يمهد للمجتمع والدولة وللفرد التمكين في الجمع بين النظرية والتنفيذ باعتبار ان عملية الاكتشاف توفر الفرصة والزمن القريب لقيادة الحياة العملية باعتبار أن النظرية موجودة ومنجزة بكل خطوطها وتفصيلات ولكنها بحاجة إلى الاكتشاف وتوفير الأساليب المناسبة لتلقيها ودراستها والإحاطة بما تشتمل عليه من حقائق موضوعية يكون المتصدي لاكتشاف النظرية مدعوٌ إلى تميزها بوجهها الحقيقي ثم تحديد الهيكل العام الذي تتكون منه إلى جانب الكشف عن قواعدها الفكرية لإبرازها بمقوماتها وخصائصها الأصيلة وهذا الاتجاه والمنهج ينسجم مع عملية الاكتشاف للنظرية باعتبارها قد أعطيت مسبقا في دائرة الكتاب والسنة وهي بحاجة إلى قدرة الاكتشاف والتشخيص وتحديد صلتها بالحياة الإنسانية وإنما يحقق ذلك بالابتعاد عن التجارب الغير الأمينة التي تصدت تطبيق الإسلام وحاولت حصره في حاجات فردية وجزئية وحصره في بعض العلاقات المدنية في منهج تجزيئي فردي وكان ذلك يتم في اطر الثقافات الغير الإسلامية التي كانت توجه القضايا وفقا لطبيعتها واتجاهها في التفكير وعلى هذا الأساس فان المنهج الذي تمارسه هو عملية اكتشاف النظرية القائمة والثابتة وبعكسه النظريات الأخرى والفقه الغربي فان نظرياته خاضعة لتكوين النظرية وإبداعها ثم تخضع لتجربته التطبيقية وهي احد المقاييس التي تكشف عن التأثير في الحياة مما أدى إلى الفشل في الانتماء والممارسة وتواجد النفس الفردي والحالات والنزعات المختلفة وكلها تنعكس على النظرية سلبا وايجابا وهذا من ابرز الفوارق في تشخيص النظرية الفقهية ونظريات الفقه الاخر.

النظرية الفقهية اكتشاف لا تكوين

أن الذي يريد أن يقف على ابعاد النظرية الفقهية يبدأ من الابنية الفوقية ويتدرج تدرجاً طبيعياً من العلو إلى القاعدة وأما الاخرون في نظرياتهم التي تبدأ بتكوين النظرية فهم ينطلقون من القاعدة إلى الفوق لانهم يمارسون عملية بناء وتكوين وهذا الاتجاه أدى إلى نتائج وخيمه.

في البنية الاجتماعية للانسانية التي تعرضت للاتجاهات والقوانين في النظريات الأخرى مما أدى إلى وضع الإنسان في حالة الارباك والجهد الضائع الذي يتعرض للالغاء أو التجميد أو اصدار البدائل القانونية المتعددة حيث ازداد القلق والاضطراب في أمثال المجتمعات التي انصاعت لهذة النظريات وهذا الجهد من البحث والدراسة في آفاقة الواسعة لم يتم ويتكامل ويأخذ تأثيره وتواجده إلا في الفترات الزمنية الاخيرة في مطلع الستينات والتي تفاعلت فيها الادبيات البناءة في الطرح والتوجيه والاكتشاف وتحديد أُصول النظرية الفقهية في ابعادها المختلفة لكن كانت دراسات ترفع منهج الاولويات وما تتطلبه الاوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية والعقائدية بعد أن ظهرت على الساحة المحلية والعالمية اطروحات ترفع شعار النظرية الشاملة والمستوعبة لكل آفاق الإنسان وتمكنت أن تحصر قابليات وخصائص الإنسان بنظرية العامل الواحد في الاتجاه الماركسى والنظريات الأخرى التي تتميز بهذا الاتجاه ومع وجود هذا الخلل الكبير لكن التمسك باسلوب تبنى النظرية استقبلت واصبحت مبدأ ينتمى إليها الكثير ويتبناها ويدافع عنها لذلك جائت الدراسات الإسلامية للمفكرين الاسلاميين تصب في هذه الجوانب وكانت المحاولة الفريدة التي كشفت أسس النظرية الفقهية في الملكية والارض ومشروع الانتاج والتوزيع والعدالة الاجتماعية وتأثيرها في توزيع الثروة.. وان العامل الاساسي في التوزيع العادل هو الإنسان وليس وسائل الانتاج وهذا ما حدده واستوعبه الشهيد الامام الصدر في بحوثه الفقهية في نظرية الاقتصاد الإسلامية.

و أهم ما حققه في جانب من فقه الاقتصاد على أساس النظرية المستوعبة والجامعة لكل الاطراف هو تشخيص المشكلة الاقتصادية التي تخبطت فيها النظريتان العالميتان الرأسمالية والماركسية حيث اعلنت الرأسمالية بان المشكلة هي في قلة الموارد الطبيعية نسبياً نظراً إلى أن الطبيعة محدودة وتمسكت بأنه لا يمكن ان يزاد في كمية الأرض ولا في كمية الثروات الطبيعية واعلنت الماركسية ان المشكلة الاقتصادية هي قائمة على أساس مشكلة التناقض بين شكل الانتاج وعلاقات التوزيع أي أن وسائل الانتاج هي الاساس والمؤثر وجاءت النظرية الإسلامية التي رّدت هذين التصورين واقامت النظرية الكفوءة في الفقه والتصور الإسلامي التي اعتبرت أن المشكلة هي مشكلة الإنسان نفسه حيث اكد القرآن الكريم في قوله تعالى (و أتاكم من كل ما سألتموة وان تعدوا نعمت اللّه لاتحصوها ان الإنسان لظلوم كفار) ([1]).

والآية تقرر أن الله تعالى قد حشّد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه ووفر له المواد الكافية ولكن الإنسان هو الذي ضيّع على نفسه هذه الفرصة في سلوكه وممارسته التي حملت عنصرين خطيرين هما الظلم وكفران النعمة. والظلم يتجسد في سوء التوزيع وكفران النعمة في الموقف السلبي من الأرض وثرواتها وإهمال الاستثمار ثم أعطى الحلول المناسبة لكل ذلك ورد ما تبنته النظريتان الماركسية والرأسمالية.

 هذا ماحقة الشهيد الإمام الصدر في بحوثه حتى اتصل هذا المنهج في الحقل النظري بما جسّده الإمام الخمينيv في الجمع بين النظرية والتطبيق في المجالات التي دخلت في اجرائات وتنفيذ الحكومة الإسلامية وقد طرح الإمام الخمينيv نظرية الزمان والمكان وأثرهما في تقويم النظرية الفقهية في الدراسات الفقهية العلمية والتطبيقية وهو جانب مهم في التمهيد لرسم هيكلية النظريات الفقهية في تقويم النص ودلالته في إطار الزمان والمكان وتأثيرهما الايجابي على سعة الأفق وروح الاستنتاج التي يضيفها عامل العصر والموقع المكاني.

الاستيعاب والمعرفة في تشخيََص النظرية

ان الدراسات العليا التي انصبت باستيعاب واتزان ودقة علمية على إبراز النظرية المجمدة في المنهج التجزيئي أعطت الساحة الإسلامية والمجال الفقهي حياته وأهميته العلمية والعملية والمذهبية مما رفع مستوى الفقه الإسلامي بعد الحصار بأسلوب الطرح الجزئي مما أدى إلى ظهور نظرية عليا قادرة على توجيه الإنسان نحو الحياة المتفوقة في بناء الإنسان ورفدة بتحقيق شروط النهضة والنمو وتكافئ الفرص والتطلع إلى الإصلاح في أكثر المجالات التي أصابها الخلل والضمور ووجّة الحالة الإسلامية والإنسانية إلى معرفة التقييم الصحيح لصلاحية النظريات الواقعية في إدارة الإنسان مما أدى إلى تبني النظريات الفقهية الإسلامية كنظريات متفوقة ومتكاملة في حلولها ونتائجها حيث تمكنت ان تضع الحلول الفاضلة لأكبر أزمة في الاقتصاد الدولي والاجتماعي الذي سارت عليه النظريات الغربية والشرقية خاصةً في موضوع تداول الثروة بالرّبا والإرباح الغير المشروعة وقد جاء فقه البنك اللاربوى كنظرية كفوئة وصالحة أدت إلى تحقيق طموح الإنسانية وإصلاح قضية معقّدة في المعاملات اليومية التي ساعدت على الفقر إلى حدّ المجاعة في كثير من أجزاء العالم والى الطبقية الفاحشة في المساحات التي تحكمها الرأسمالية وهذا المنهج كان نتاج الدراسات والبحوث الفقهية المتقدمة التي تبناها الشهيد الصدر في تشخيص النظرية التي انبثق على طريقها عدة بحوث أعطت ثمارها في إنشاء وإيجاد ثقافة ومعرفة ذات عمق وتأثير في الحياة وتجاوب مع تطلعات المسلم إلى تواجد كيانه الإسلامي المتفوق بسبب شمول نظرياته وتكافئها مع الطموح الإنساني في البحث عن ريادة النظرية الصالحة لحل الأزمات الفكرية والحضارية والتطبيقية والتجاوب مع البحث الإنساني الدائم لتحقيق الحلول المناسبة والعادلة للحالات المعقدة والأزمات التي تمر بها البشرية.

التفاعل المستمر بين النظرية والتطبيق

إن التفاعل الإنساني فرداً أو مجتمعاً يتعامل دائماً مع تحديد الوجه ومعرفة التصور الذي يفرز الفكرة ويشخص الأبعاد التي ترسم فلسفة النظرية حتى كشف طريقها لتتجاوب مع العقلية وتناغي الوجدان بما تحمله من تجاوب مع روح الرعاية والضمان والعدالة مما يجعلها قادرة على صنع وتكوين الدوافع وقوة التفاعل مع التطبيق في النفس الإنسانية بعد المعرفة والتعقل وهذه الحركة القائمة بين مشاعر الإنسان في انجذابه للنظرة المبدئية والقاعدة العامة التي تنشأ فهماً مركزياً قابلا للتبنـّي والانتماء وهما من أهم العوامل في دوافع الالتزام والتنفيذ لان أي إنسان حين يستوعب الفكرة يقترب من تبنيها وحمايتها والعمل من أجل تواجدها على الأرض وإبقاء صلاحيتها للاجراء والعمل ولذلك أصبحت النظرية الصحيحة في أكثر المجالات الإنسانية مؤهلة للطرح على مستوى الحياة والواقع وإرادة الإنسان ورغبته بما تعطيه الترشيد والإمكانات والقابليات من مجال لصلاحيات التطبيق والانسجام العملي مع روح النظرية وجوهرها وفلسفتها والقدرة على أدراك الهدف والغاية وان معرفة هذه الحقائق من اكبر العوامل المساعدة على استمرارية التطبيق والاستمرارية في الصلة الفاعلة بين النظرية والتطبيق وان كل هذه الالتزامات لا يمكن ان تتحقق في التجزئ لان الموضوع الفقهي وغيره سوف يفقد أهميته وعظمته ووضوح ارتباطه في الواقع الميداني الذي يعايشه المجتمع ويتصل به الفرد فيفقد الموضوع صلته الشاملة وامتداداته في الدراسة التجزيئية وبعدها يفقد القابلية وصلاحية التطبيق كحالة وصورة جزئية لا يكون لها أي موقع في الكيان الإنساني حتى تتواصل الصلة ويرتفع مستوى دافع الحضور التطبيقي في حركة الحياة وآفاقها الواسعة ولا يكون هناك استجابة إلا لمقطع محدود من الزمن.

النظرية تقوّم الثقافة الفردية والاجتماعية

ان النظرية دائماً تحدد وجهة النظر وتصوغ ثقافة الشعوب على مستوى الفرد والمجتمع فتظهر الثقافة على ساحة الحياة في حالة يمكنها ان تطبع وتصنع الحياة بلونها ومنهجها وتوجيهاتها في آدابها التي تظهر على أدبيات الجماعة خطاباً وسلوكاً حيث يلمس المتطلع إلى ذلك مظهراً ثقافياً مشخصاً يرفد الحياة ويشرف عليها وحينما تتعامل الشعوب مع النظريات الصحيحة تزداد بصيرة ومعرفة وتتفاعل مع القيم العليا التي تنطلق من دائرة النفس إلى دائرة العمل والممارسة وكل هذا الاتجاه منطلق ومنبعث من توفر شروط صلاحيات النظرية الفقهية أو غيرها وكفائتها في استيعاب تطلعات الإنسان وطموحه إلى تشخيص الحق والوصول إلى معرفة حقايق الأمور...وكل هذا إنّما يتمّ في آفاق النظرية ومحتواها لتكون حالة التجاوب الدائمة بينما تفرزه النظرية من النتائج اليومية والعلمية والعملية والميدانية وما يتحرك فيه الإنسان في مجال الرغبة في التطبيق والممارسة في التفصيلات التي تصب بها أُصول النظرية في شق طريقها إلى الضرورات المتعددة التي يطرحها الإنسان ليتلقى إجاباتها الكاملة والشاملة في ظل النظرية خاصة النظرية الفقهية باعتبارها الخط العملي الذي يقنن حياة المجتمع وفق موازين ومعايير وقيم تحملها وتبشّر بها متبنيات النظرية في نظرتها إلى الإنسان والحياة والعلاقات بين الإنسان وأخيه ثم العلاقة الدائمة بين الإنسان والأرض وموقع الإنسان بالنسبة إلى كل ذلك بعد ان أكد القرآن الكريم خلافة الإنسان على الأرض وانه مسؤول عن أعمارها ومسؤول عن حفظ الموازين في الصِلاة المبنية على القيم المنهجية الايجابية كما بين ذلك القران الكريم في العلاقة بين الناس بأنها ارتباط ايجابي كما في قوله تعالى: (وتعاونوا على البّر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وهذا هو المنهج الثقافي الأعلى الذي أستمد من أبعاد النظرية في بناء الثقافة الملتزمة في حياة الفرد والجماعة وهذه النتائج التي لاحظنا أثرها الايجابي في بناء الحياة لا يمكن للدراسة التجزيئية ان توفرها وغاية ما تصل إليه أنها قد تجمد الطاقة الفكرية بين الأجزاء المتناثرة المتشتتة التي لا يجمعها جامع وملتقى يعطي للفكرة مركزيتها فلذلك تفقد أهميتها في العقلية الإنسانية ويضمر التطلع الفردي والاجتماعي في الحركة نحو التبنّي لعدم القدرة التجزيئية في تكون الفكرة والتصور في الذهنية والتفكير وهذا ما يظهر في شأن الرسالة العملية التي تمثل الأهمية في المعرفة الفقهية الفردية فإنها لم تعطي ثمرتها حتى في مطالعات الفرد وإحاطته بالأحكام الشرعية المبتلى بها ممّا أدى إلى وضع تصورات كلية ومفاهيم تشكل حالة من البعد النظري وهذا ما قامت عليه الفتاوى الواضحة في الرسالة العملية للشهيد الصدر على غير المنهج السابق الذي قسّم الفقه إلى العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات وهو تقسيم شبه تجزيئي لمحاور الفقه ونأمل ان يكون التقسيم الذي تبنّاه الشهيد الصدر... ممهداً للدراسات الفقهية الذي يعتمد تبنى النظرية الفقهية.

النظرية تواجد متفوق في الساحة الإنسانية

ان طبيعة النظرية نتيجة لتكوين وبناء فكرة محددة وواضحة يقترب منها أي إنسان في متبنياته الفكرية وتصوراته العقلية مما يجعل النظرية الفقهية أو غيرها تواجه الحياة الإنسانية بإحاطتها بشروط توفر المنهج الصالح بالقدر الذي توصلت له العقلية من البحث والدراسة المنسقة والمتصاعدة في مراحلها سواء على مستوى اكتشاف النظرية كما هو في الفقه الإسلامي وتكوين النظرية كما هو في الفقه الغربي فان هذا التدرج والتكامل في ظل الأساليب المناسبة يكتسب فيه البحث العلمي والمتخصصون التجارب الكثيرة من حيث التصور وأرضية التطبيق ضمن ما يكتشف من خلال التجربة التي تحقق أحسن وسائل الأجراء والتنفيذ لمدلول النظرية العملي على أبعاد وساحات الحياة الإنسانية وهذه حقائق موضوعية تفرزها النظريات في أطار البحث والتحقيق وفي ميدان المكتسبات المتنوعة التي تضاف إلى تجارب الإنسان حين يبدأ بتحويل التوجيه والنظرية إلى وجود عملي حقيقي في يوميات الحياة مما يؤكّد ويرفع مستوى الدراسات وترشيد مساحات الجوانب العملية فتكون النظرية متفوقة التواجد والصلاحيات وتمتلك القدرة على توفير عوامل النهضة والإبداع لتربط بين الوسائل والأهداف وتميز بينها وتفك حالة الالتباس التي تتعرض لها الفئات الاجتماعية أحياناً بين أعطاء الأولويات... والأخذ بنظر الاعتبار أهمية تقييم الغاية واعتبار الوسائل الناجحة كقضايا تصب في طريق الغايات الكريمة.

وهذا يرفع ويحجب التخلف الذي يفرزه الالتباس والخلط بين الوسيلة والهدف فيعايش الفرد أو الجماعة الوسائل ويحولها إلى غاية لأنه بعد ان يحقق الوسيلة ينتهي ليتوقف تفكيره بقدر ما أدى من الوسيلة كما هو الأمر في نظرية العبادات والفرائض ولما كانت النظرية الفقهية والدينية قائمة على أساس أداء الفرائض كوسائل توصل إلى حالة الاستمرار بالنتائج وهي الغايات التي توصل إليها الفريضة والتي شخصها القرآن الكريم بوضوح كامل حين علل الفرائض واحدةً بعد الأخرى واعتبر الصلاة تقرر حالة النهي عن الفحشاء والمنكر واعتبر الصوم يفرز التقوى كما في قوله تعالى: ان الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر.

وفي قوله تعالى.... (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فإذا حولت الصلاة إلى غاية فقد أداها المصلى وانتهي منها ولم يكن لها شيء بعد انتهاءها بتمامها وحين تكون وسيلة فبأداءها والانتهاء منها سوف تبدأ آثارها وهي الغاية وحينئذ سيجد المصلى موقفه أمام الفحشاء والمنكر حين يمارس أعماله ويلامس حياته العملية فسوف يجد قدرته وموقفه من المنكر وحين يقاوم المنكر يغيره في نفسه ومجتمعه فمعناه بدأ يحقق غايته بعد ان أكمل الوسيلة وهذا التفوق لا يمكن أن يكتسب إلا باعتبار الفرائض مدارس ونظريات في تربية الإنسان وبناء تصوراته وعقليته.

قوة الخطاب في النظرية

ان من ابرز وسائل التفاهم والحوار الإنساني هو نوع الخطاب وصلاحياته لأنة يمثل الصلة القوية والعميقة بين إرادات الجماعات في تحقيق شروط التقييم الصحيح لحركة الجماعة في أفكارها وسلوكها وتعهداتها في حفظ المسؤولية والأمانة باعتبار أن التقييم الأساسي للإنسان انه يحمل أمانة كبرى وهذا ما كشفه القرآن الكريم في تأكيده على هذه الظاهرة بأروع تعبير في قوله تعالى: (أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان أنة كان ظلوماً جهولا).

فالاتجاه القرآني اتجاه يحمل معنى النظرية في توجيه الإنسان فانه هنا في هذه الآية وأمثالها لم يتعرض مسؤولية الإنسان في تجزئ تكاليفه ومسؤولياته وإنما تمسك بشكل واضح وبتحديد نظرية ان الإنسان أمين ويحمل أمانة كبرى وهي الرسالة الشاملة بكل أبعادها ولم يصور القرآن الكريم أي حالة جزئية فلم يقل أنا عرضنا الجهاد على الإنسان أو الصلاة وقد ذكر كل هذه الفروع والأجزاء في ظل نظرية الأمانة وأعطى للأجزاء معناها بعد ان اعتبرها حقائق تنضوي في ظل الأمانة الكبرى وهذا النوع من الخطاب الذي تطلقه النظرية في حقولها المختلفة يمتلك التفوق الكامل في جذب الإنسان والتفافة حول الفكرة والمنهج والرسالة التي سوف يتلقى معناها ودلالتها بعمق وإيمان وتكامل وكل ذلك ناتج من مؤدى الخطاب واستكماله لشروط التأثير البناء في النفوس والعقول التي تتلقاه في انطلاقته وامتداده إلى الإنسان في أي زمان ومكان وهو ما تحققه النظرية في صلاحية استيعابها للزمان والمكان مما يعطيها السعة والهيمنة والاستمرارية وبناء الأجيال المتباعدة وان أي خطاب ينطلق عنها فهو مستجمع لقابلية التأثير والتفوق معنى وزمناً وموقعا وتأثيراً في تغيير الحياة ورفدها وتأهيلها لإدراك معاني الحق والفضيلة مجسداً في عمق الانتماء ثم قابليات الخطاب الذي يفرض الحكمة والصواب والترشيد والثبات.

ارتفاع مستوى العلاقات الإنسانية في ظل النظرية

في تصميم الفقه الإسلامي على منهج الأطروحة والنظرية سوف يتواجد الفقه في الساحة الإنسانية كمنهج مقارن أو بديل عن كثير من النظريات والقوانين في فقه الحياة لان الكثير من المجتمعات أصبحت تحت محاصرة وأسر النظريات المنطلقة من نظرة قاصرة ومحدودة زمانا ومكانا لمحدودية الفرد أو الجماعة في التصور الموضوعي لتقييم متطلبات الإنسان وحاجاته الأساسية ورغباته المختلفة مما أدى إلى نتائج سلبية وخيمة قتلت القابليات وهدمت الكثير من الأسس والصلاة خاصة ما نواجهه من تقويض البناء العائلي ونشوء الأسرة غير الطبيعي حيث افتقد الإنسان الغربي أعمق حقيقة في الوجدان الإنساني وهو العلاقات العائلية الفاضلة القائمة على أُصول بنّاءة في النظرية الفقهية الإسلامية وعلى علاقات وأدبيات في أعلى المستويات وأعمق الوشائج المتكافئة في الحقوق العائلية ابتداء من موقع الأبوين ودرجة مسئولية حقوقهما على عاتق الأبناء كتقنين محاط بالعدالة القانونية المؤطرة بالعواطف الشفافة التي يدخل فيها الأدب العالي والأخلاقية الكريمة من حيث الامتزاج بين الموازين القانونية والقيم الأخلاقية من روح الاحترام والتقدير والشكر لكل ما يبذله الأبوان في حق الأبناء وكذلك مروراً بالحقوق الزوجية وتأكيد أقوى الصلاة والعلاقات بين ركن تشكيل العائلة من التكافئ والرعاية والإحسان واعتبر التوجيه الإسلامي في نظرياته الفقهية أو في النصوص القرآنية.

ان الصلة والعلاقة الصالحة بين أعضاء الأسرة وتلقى الفضيلة لها أرضية مسددة للارتفاع بمستوى العلاقات الاجتماعية التي تصاغ في رحاب امتدادات علاقات الأسرة التي تنطلق في دائرة الخلية الأولى لتجري في امتداداتها في حقوق الأرحام الذين يحيطون العائلة من صلاة أوسع ومسؤوليات ملزمة أحيانا وأخلاقية وأدبية أخرى وهذه تتحرك بهذا المنهج لتنعكس على الإنسانية في حقولها الواسعة. هذا كله تؤكده نظرية التشريع المدني في الفقه الإسلامي وتقنين الحقوق المتعددة في هذا الحقل وهو يعطى هذه الثمار بظهور النظرية بأصولها وأسسها ومقوماتها.

وبعكسه تجزئ هذه العلاقات منفصلة بعضها عن البعض مما أدى إلى عدم استيعاب هذه الحقيقة فانعكست هذه الصلة إلى نوع من التفكك حتى في المجتمعات الإسلامية التي تتعامل مع الفقه لكن بشكل تجزيئي وأدى إلى زوال الأسرة وحرمان بعض الشعوب الغير الإسلامية وخاصة الغربية من هذا الشأن حتى أصبح الإنسان يعيش حياة منزوية قاسية يعايش الإنسان فيها الخلل والنقص وهو يفقد أهم مقومات حياته لذا لابد وان تتبلور النظرية الفقهية وتخرج وتظهر إلى الوجود من بين دراسات ذوي الاختصاص والكفاءات بإشراف الفقهاء

العمل الجماعي في أطار الهيئات الاجتماعية يتجاوب مع النظرية

إن الاختصاصات المتعددة حين تنسق عملها في الميادين المختلفة تكتسب قوتها وفاعليتها واستمرارها في ظل النظرية فالشورى والمؤتمرات والحركات الإصلاحية والتغييرية تعتمد في بناء كيانها وترابطها وتبنيها للمواقف في انتمائها إلى النظريات كأقرب جامع ييسر جمع كلمتها والتفافها حول أهدافها واحترام المواثيق والعهود في مختلف شؤونها وتحركها ولما كان المنهج الديني يحمل لواء الإصلاح في طول المجتمع الإنساني لذلك تبنى الهيئات الاجتماعية واشراف الجماعة الإصلاحية في حركتها التحصينية ضمن دوائرها يجمعها رابط النظرية التي تمثل نظرتها إلى الحياة وتواجدها البناء في الوسط الاجتماعي الواسع وهذا ما تبناه لقرآن الكريم في التأكيد على انبثاق اللجان والهيئات المشرفة والموجهة والمصممة للمنهج والثقافة والعودة إلى الفكر الديني الصحيح في المعرفة والسلوك وفسح المجال أمام مقومات الشخصية الإسلامية لتأخذ ثباتها وقوتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية وقد أوضح القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى... (و لتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) والفقه العلمي يتكامل في نظرياته وينشأ المسؤولية الاجتماعية في التجاوب مع شروط الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما طرحته الكتب الفقهية والدراسات العليا الفقهية من جزئيات في شكل مسائل منفصلة من غير تفرع عن النظرية افتقدت تأثيراتها العملية والاجتماعية وتحولت إلى مسؤولية فردية عادية لا تملك قوة وتأثيراً وقدرة على التغيير مما أدى إلى انحسار الفقه عن توجيه الحياة اليومية والأشراف على متطلباتها في أطار الاتجاه الذي ترسمه النظريات الفقهية في إنشاء الحياة وتصميمها وفق الإرادة الفقهيّة في السلوك والممارسة التي هي المظهر العملي لتواجد الفقه على سطح الحياة الفردية والاجتماعية كل هذه الصلاحيات توجدها فلسفة النظرية في ترابطها المبدئي وانسجامها العملي التنفيذي في حركة دائمة بين التفكير والتطبيق يمكن لأي عمل جماعي واجتماعي ان ينضوي في ظله.

التلقي الملتزم في ظل النظرية

ان النظرية دائما تستطيع ان تحدد الهدف وتتجه نحو مثل أعلى يقود الجماعة نحو المعرفة والالتزام بما ينطوي عليه من قيم ويحول المثل الأعلى المعرفة إلى إيمان وتمسك يدفع الشخصية نحو قوة التلقي لكل ما يتعلق بالمثل الأعلى من مشخصات ومعاني في دائرة التفكير والتطبيق فالشخصية أذن تتلقى المبدئية وقدسية المثل وتمتزج عندها العواطف والأفكار ليؤدي دائما إلى السلوك الملتزم حتى تكون حالة وقابلية التلقي في حركة الإنسان إنّما تصنعه النظرية فيما تعطيه من فكرة لها أبعادها ولها تأثيرها العميق على إنشاء التفاعل الاجتماعي الذي يواصل التلقي حتى تنشأ تشكيلة عقلية متمكنة من استيعاب منهج وإدراك الهدف وهذه عوامل تفتح الطريق أمام الشخصية لأن تتلقى المستويات المتصاعدة نحو خلق حالة الالتزام فان الجانب القانوني إنّما تبرز قيمته العلمية حين ينشأ ويظهر على مستوى حركة اجتماعية يتفاعل امتزاجها الأدبي والقانوني مع ابعاد النظريات. ان كل هذه الحقائق الموضوعية تؤكد وجودها إلى جانب النظرية التي تخلق الدوافع في الشخصية نحو قوة التلقي العلمي والعملي لتحدث روح الالتزام لكنه في الاتجاه التجزيئي تفتقد هذه الحالات ويبرز ضمور الأجزاء وتفتقد قيمتها وشأنها ولا يكون لها أهمية حتى تكون دافعا وموجها فيفقد الجزء حيويته المحدودة من حيث التلقي والالتزام حتى يصل الأمر إلى هامشية القضايا الجزئية وضعف تحريكها للقابليات الإنسانية.

تخريج الشخصية الصالحة

ان الانتماء إلى النظرية المنسجمة مع تطلعات الإنسان في أي جانب من جوانب حياته والمستجمعة لشرائط الصحة والكفاءة خاصة الفقه الذي هو أقوى المناهج التي تنسق حركة الحياة وفق الموازين العلمية التي يحتاجها الإنسان في مطابقة عمله لقيم الايمان والدين باعتبار اَن العمل الصالح أحد مقومات تمركز العقيدة في النفوس وتجذرها وان الخلل في الممارسة يترك آثاره السلبية ويسلب الكثير من الطاقات التي تؤهل الإنسان للمسؤلية والريادة وخاصة المسؤليات التي يؤهل لها المؤمن في ميدان الحياة والتي تقوم في أصلها على التزكية والتهذيب وإعداد النفس وقد صرح القران الكريم مؤكدا ذلك في قوله تعالى:  (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) وفي قوله تعالى (قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى...). وفي قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).

وهذا المنهج له صلة دائمة في تبلور النظريات الفقهية بحثا ودراسة ثم عملاً وتطبيقاً فالنظريات الفقهية تصنع الأرضية وتؤهل الإنسان في مطابقة سلوكه ولانجاز عملية التزكية واستمرارية العمل الصالح في ممارسات الشخصية الصالحة وقد جاء التعبير القرآني يحمل هذا الذوق ويؤكد هذا المنهج في قوله تعالى: (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فهناك اذن عملية صياغة وتخريج للجماعة والشخصية تتفاعل فيها الأفكار والسلوك والمناهج التربوية البناءة التي تقود الإنسان إلى العمل الصالح المطابق لمفاهيم الدين وتعاليم الشريعة ليبدأ من معرفة وتقييم النظرية في خطوطها العريضة ثم إلى الأجزاء والتفاصيل التي تدخل جميعهاً في منهج التقوى الذي تحدث عنه القرآن الكريم في حالات ومواقع متعددة... حيث جاء النص القرآني في قوله تعالى..

(ان أكرمكم عند اللّه اتقاكم...) وفي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وقولوا قولا سديداً). ان هذه الآيات تخرج الشخصية الصالحة في خطابها وكلمتها وعملها.

النظرية وقوة المواجهة في الصراع

لما كانت الحياة الإنسانية قائمة على الصراع بين الحق والباطل والصواب والخطاء وحرية الاختيار للأفكار والسلوك والمقاومة في حماية القيم الصالحة والدفاع عن المنهج الذي تحاول الفئات الاجتماعية العمل من اجل تواجده واستمرارية منهجه في ساحة الحياة حتى تكتسب كل فئة شروط التصدي والاشراف على زمام الحياة الاجتماعية فان الدخول في الصراع وطلب البقاء بحاجة دائمة إلى مقومات تمد الجماعة في صراعها بالقوة والقدرة واكتساب شروط المواجهة والمبادرة وكذلك التصميم والخطة والكفاءات المتمثلة بأعضاء الجماعة كافراد وكصف اجتماعي يكونه الانتماء إلى منهج وفكرة وتصور وهدف أعلى يلتقي حوله الجميع ليواجه صراعه مع الآخرين وهذه الحالات تقوم بالضرورة على وجود فكرة تدور فيها ابعاد النظرية فان حمل فلسفة النظرية التي تتجاوب مع الكيان الإنساني والمحاور الأساسية في حياته، ان هذه الأفكار التي تكونها النظرية تبعث في النفوس فهما موضوعياً يوجه الأعمال ويلامس الحياة بنظرة عملية من ناحية العلاقات والحقوق والواجبات وروح الالتزام بالتقنين خاصة بما تفرزه الضرورات الفقهية والحلول المنسجمة مع التطلعات والطموح الذي تعطيه العلاقات القانونية والإنسانية في كيفية التعامل والتعايش مما يجعل المنهج الذي يملك النظرية له قدرة البناء بعد قدرة الصراع والمواجهة ويكشف من هذا أن الحالة التجزيئية تفتقد قدرتها ولا تكتسب الطاقة المناسبة التي تمد حركة الصراع بين النظريات الصحيحة وغيرها مما يفرز الوضع التجزيئي إلى الضعف والتراجع والانهزام اما الطرح الأقوى الشامل فهو الذي ينطلق من فكرة واضحة محددة بينما التجزيئي لا تتكون منه فكرة ونظرة شاملة في امتداداتها وآفاقها للجوانب المتعددة من الحياة الإنسانية فالنظرية اذن تملك قدرة المواجهة ثم الوصول إلى التصدي والتنفيذ.

النقد الموضوعي للدراسات الفقهية

وفي آخر المطاف والى جانب هذه الدراسة نشير إلى بعض العوامل التي أدت إلى الدراسات التجزيئية كأساس واما الدراسات النظرية في الفقه كمحاولة لا زالت قائمة في التصور ومتواجدة في الأذهان أو حققت بعض الخطوات أحياناً وفي مجال محدود يمكن ان نضع اليد على أهم عامل وهو فقدان المنهج وان الدراسات الفقهية قائمة على أساس الأساليب الفردية وقابليات الأشخاص ابتداء من الكتاب الدرسي وانتهاء بعدم التزامية البحوث التي تؤهل الدارس للتخرج بالدرجة العلمية المحدودة وفق موازين مشخصة يتلقى فيها الطالب تقييم أحاطته بالموضوع الفقهي ثم مرورا بالمؤلف الفرد حيث لا زالت الدراسات والبحوث تتعامل مع الكتاب الذي ألفه الفرد المعين فأصبح كتابه يدرس وتدور حوله البحوث وهو يمثل أسلوبا ومستوى علميا محدوداً بقابليات وكفاءة واحدة بينما الدراسة المنهجية الصحيحة هي وضع المناهج من قبل تظافر جهود عدة اختصاصات وكفاءات وطاقات تملأ الفراغ وتنهض بالإحاطة بالنظرية ثم أعطاء الأهمية للدراسات المقارنة مع النظريات الأخرى بعد شمولية الدراسات والبحوث لمعنى النظرية ومكوناتها وكيفية اكتشافها خاصة في الفقه الإسلامي.

والفقه المقارن طريق صالح لتأكيد الدراسات النظرية لتصبح الدراسات الابتدائية دراسات تجزيئية تمهيدية تكون الأرضية في مرحلة محدودة من حيث الزمن والمنهج حتى تتم الانتقالة العلمية بعد جعل المتون مقدمة أولية لتناول النظريات عن سابقة معرفة إجمالية واستيعاب يستهدف إيصال الطالب إلى مستوى ادارك حقيقة النظرية واكتساب قابلية الإحاطة بخصائص الإنسان وحاجاته في علاقاته وحركته اليومية.

وهكذا يعتمد المنهج الذي يصب في قناة طبيعية توصل إلى روح التطلع إلى معنى النظرية وأهميتها في الدراسات الفقهية ولا يتّم ذلك إلا بمنهجة دراسة الخطوط والأصول العامة لنظرية الدين وفلسفته ثم تشخيص ودراسة نظرياته في حقولها الخاصة.

الهوامش:

([1]).سورة إبراهيم: 33