نحو تجديد الفقه وتيسيره

نحو تجديد الفقه وتيسيره

 

 

نحو تجديد الفقه وتيسيره

 

الدكتور عمار الطالبي

مفكر وباحث اسلامي من الجزائر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يمكن القول بأن واقع الأمة الإسلامية في تغير مستمر، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وتتسارع وتيرة تغيره يوماً فيوماً، حيث تواجه الفقيه قضايا مستجدة متعددة، ومتشعبة، تتصل بصميم حياة المجتمع الإسلامي ومصيره، وتتحداه مشكلات داخلية وخارجية، تحاصره، وتضيق عليه مسالك حياته اليومية، ويحيط به خطر حضارة تزعم لنفسها أنها هي المعيار الذي ينبغي اتباعه، والمنهج الوحيد الذي يتأكد استنساخه للنجاة من التخلف.

 

الحق أن التجديد ضرورة حياتية لا في مجال الفقه وأحكامه فحسب، بل ان التجديد ينبغي ان يتجه إلى اوضاع الامة من حيث هي امة قائمة بذاتها لها مقوماتها وخصائصها، تجديد الدين في انفسها وفي واقعها، فان تغيير الأنفس والإرادات هو المقدمة الضرورية المنطقية لتغيير احوالها وواقعها الخارجي في جملته، لتشعر الأمة من جديد برسالتها التاريخية، وتسعى لتحقيق مصيرها في التاريخ.

 

والفقه في الدين والدنيا من أهم دوافع الحركة، وعوامل الصيرورة إلى الغايات المثلى، وذلك بوصل الإنسان بربه، ووصله بأمثاله، فالفقه تنوير للنفس وتحرير لها، ووعي برسالتها، إذا اخذ الفقه بمعناه العام، لا بالمعنى الاصطلاحي المعروف لدى المشتغلين بصناعة الفقه، وفن التفقيه.

ويبدو ان اولى مظاهر التجديد هو تجديد الاداة المنهجية.

 

بعض أوجه منهج التجديد

 

كل علم من العلوم يتحدد بمنهجه، ومنهجه يتحدد بموضوعه ومسائله، ومنهج الفقه باعتباره علماً للفروع العملية ارتبط بمنهج نسميه بأصول الفقه، الذي هو طريقة في الاستدلال والاستنباط للوصول إلى حكم شرعي من ادلته، فهو منهج موضوعه النص، نص الكتاب، ونص السنة الثابتة، وصناعة تعنى بالأوضاع اللغوية، فوجب على الفقيه المجتهد ان يكون فقيهاً باللغة العربية بقدر ما يمكنه من الاجتهاد في فهم معانيها الإفرادية والتركيبية وسياقاتها المختلفة، والوصول إلى وضع قواعد كلية مستقرأة من نصوصها، ولذلك نجد ان علم الأُصول تغلب عليه الابحاث اللغوية المنطقية، ولذلك أيضاً فانه ينبغي ان تتجه عناية الفقيه المجدّد إلى اصول الفقه باعتبارها منهجاً، والى الفقه باعتباره قضايا واحكاماً يؤدي إليها منطقياً هذا المنهج، فالعلاقة بين الأُصول وبين الفقه علاقة من الوثاقة بمكان.

 

ويمكن القول بناء على ذلك بان بداية العمل التجديدي في الفقه وتيسره هي العناية بتجديد المنهج الأصولي، لتكون اسس التجديد للفروع واضحة، اما إذا اهملنا المنهج فان التجديد يصبح غير واضح وغير مسدد، وان كان يرى بعض زملائنا مثل الاستاذ الدكتور جمال عطية حفظه الله، ان العناية باصول الفقه ضرورية ولكنها تؤجل مؤقتاً، ويتجه التجديد والتيسر إلى الفروع الفقهية والى مادة الفقه نفسها، للاستجابة إلى الضرورة الملحة في هذا المجال.

 

وأول ما ينبغي ان نقدمه في هذه العجالة الاشارة الضرورية إلى التفرقة بين الشريعة في مصادرها من الكتاب والسنّة، والفقه الذي هو اجتهادات المجتهدين، وافهامهم العقلية للنصوص في دلالاتها ومراميها، وهذه التفرقة في غاية الأهمية؛ لأنها تجعلنا أيضاً نفرق بين ما هو ثابت وما هو متغير، لأن الاجتهاد مرتبط بالواقع المتغير، الذي يواجهه كل مجتهد في عصره، واذا تغير هذا الواقع فان تنزيل الحكم على الواقع الجديد يكون بالضرورة محققاً لمصالح الأمة ومراعياً لمقاصد الشريعة وتغير الأعراف، ولهذا فان الاجتهادات القديمة لا ينبغي الجمود عليها وروايتها ونقلها على الواقع الجديد، الذي لا تستجيب فيه لحاجات الناس ومصالحهم، ولا تنطبق تلك الأحكام عليه، كما يؤدي ذلك أيضاً إلى توقف حركة الفكر في الأمة وفي مشاكلها الطارئة باستمرار([1]).

فالتجديد يتأكد قيامه على منهج محدد المعالم، واضح السمات.

 

ومن العناصر المنهجية العناية باستخلاص النظريات العامة للشريعة([2])، من حيث مقاصدها وغاياتها أو النظريات التي تنتظم امهات المسائل في كل فصل من فصول الفقه([3])، أو باب من ابوابه، وهي التي يسميها الفقهاء بالقواعد الفقهية، وهذا ما يجعل المسائل الفقهية منتظمة ومتماسكة فيما بينها كما تنتظم وتتكامل مع المنهج الأصولي والمقاصد الكلية، والتوسع في هذا التنظير يكون عنصراً تجديدياً في الفقه وفي صياغته صياغة فنية مترابطة الحلقات واضحة الأسس والمعالم.

 

سواء في ذلك الفقه الخاص أو المعاملات، وفقه القانون العام الذي هو السياسة الشرعية الذي فصله الفقهاء قديماً عن الفقه، وجعلوا له مصنفات خاصة يدخل فيها ما يتعلق بالمالية العامة والفقه الدستوري، والعلاقات الدولية مما يسمى عند الفقهاء بالسيرة.

 

ان التجديد الاصيل هو الذي ينبثق من داخل المنظمة الفقهية الإسلامية، ومصادرها الرئيسية، اما الاعتماد على النسق القانوني الوضعي الخارجي فإنه لا يؤدي إلا إلى التبعية والابتعاد عن اصالة تراثنا الفقهي، مما يجعل الباحث الفقيه يشتغل بتطبيق النظريات الأجنبية على الفقه الإسلامي في منهجها وصياغتها واصطلاحاتها، ويبتعد بذلك عن مصطلحات الفقه الإسلامي وصياغاته واسلوبه وينسلخ في النهاية عن هذا التراث الفقهي واصوله، وهذه الطريقة يسميها الأستاذ د. وهبة الزحيلي، بالطريقة التقريبية، تقريب الفقه الإسلامي من القانون الوضعي، ولا يرضاها طريقة في التجديد، ويميل إلى الطريقة الوسطية التي تحافظ على ثوابت الشرع، وتراعي المصالح المرسلة في مقتضيات التطور([4]).

 

وهذا ما يذهب إليه د. حسام الدين كامل الأهواني، الذي يرى انه لا يجوز ان تقرأ الشريعة من خلال افكار الثقافة القانونية الغربية؛ لأن ذلك يؤدي إلى طمس الفقه الإسلامي، والمفروض ان نسعى إلى ابراز الفقه الإسلامي بآرائه لا بأفكار غيره([5])، وان كان القانوني والفقيه الكبير د. السنهوري دعا إلى نهضة علمية لدراسة الشريعة الإسلامية، في ضوء القانون المقارن، وقد آخذه الشيخ جواد الشهرستاني أنّه جعل الشريعة المصدر الثالث للقانون المدني، بعد النصوص التشريعية الوضعية والعرف([6]).

 

لأن القانوني مشتق من ثقافة معينة وأوضاع حضارية ونظم قانونية خاصة بمجتمع معين، فلا ينبغي ان نعنى بتفاصيل القوانين في المقارنة وإنّما بالنظم والنظريات والأسس التي انبثقت منها.

 

وقد نبه السنهوري رحمه الله: "إلى ان القانون الذي يشتق من الفقه الإسلامي يجب ان يكون في منطقه وصياغته وأسلوبه فقهاً اسلامياً خالصاً، لا مجرد محاكاة للقوانين الغربية"([7]).

 

ويخالفه في ذلك المستشار طارق البشري، الذي يرى اسناد الحكم القانوني إلى الحكم الفقهي الذي يتفق معه فيكون هو اساسه الفقهي، وتقطع صلته بمصدره الوضعي([8]).

 

كما ان الدكتور فؤاد محمّد ممدوح وهو خبير في القانون يرى اعادة تقسيم الفقه الإسلامي إلى فروع تشابه فروع القانون الوضعي، وفصل الاحكام العامة والمبادئ والنظريات عن الاحكام الخاصة، واعادة كتابة موضوعات الفقه الإسلامي وتبويبها على غرار كتب شروح القانون الوضعي في لغة تماثل اللغة التي يكتب بها ويفهمها أهل القانون، والاحتفاظ بالمصطلحات الإسلامية وتقريبها ([9])، ولعل اتباع التصنيف الغربي للفقه ومفاهيمه يؤدي إلى تبعية الفقه الإسلامي في شكله ومحتواه لهذا القانون، ولذلك نجد د. السنهوري رحمه الله، ينصح بأن توضح التصورات العامة للفقه الإسلامي من داخل مادة هذا الفقه نفسه، ومن نسقه ومرجعياته الموثوق بها.

 

وقد سلك السنهوري منهجاً موضوعياً في الموازنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، وبيّن ذلك بوضوح من الناحية المنهجية في الموازنة يقول: "لن يكون همنا في هذا البحث اخفاء ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي في الصنعة والأسلوب والتصوير، بل على النقيض من ذلك سنعنى بإبراز هذه الفروق ليحتفظ الفقه الإسلامي بطابعه الخاص، ولن نحاول أن نصطنع التقريب ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي على اسس موهومة أو خاطئة فان الفقه الإسلامي نظام قانون عظيم له صنعة يستقل بها، ويتميز على سائر النظم القانونية في صياغته وتقتضي الدقة والأمانة العلمية علينا ان نحتفظ لهذا الفقه الجليل بمقوماته.

 

ونحن في هذا اشد حرصاً من بعض الفقهاء المحدثين، فيما يؤنس فيهم من ميل إلى تقريب الفقه الإسلامي من الفقه الغربي، ولا يعنينا ان يكون الفقه الإسلامي قريباً من الفقه الغربي، فإن هذا لا يكسب الفقه الإسلامي قوة، بل لعله يبتعد به عن جانب الجدة والابداع، وهو جانب للفقه الإسلامي منه حظ عظيم([10])، وان كان السنهوري جرى في أسلوب المقارنة على أنه يعرض أحكام القانون أولاً ثم يأتي إلى ما يقابل تلك الأحكام من الفقه الإسلامي، وهذا جرياً منه على اسلوب القانون قصداً منه فيما يبدو إلى تقريب الشريعة إلى رجال القانون الذين لا يعلمون عن الفقه الإسلامي ما يمكنهم من ادراك مفاهيمه ونظرياته. فهو يقول: "ونسير فيه على غرار نظريات الفقه الغربي تيسير المقارنة بين هذا الفقه والفقه الإسلامي"([11]).

 

ولكن المرحوم محمّد قدري باشا خالف هذا الاسلوب وسلك منهجاً ينبثق من داخل النسق الفقهي الإسلامي ذاته. كما ان الدكتور محمّد زكي عبدالبر رحمه الله انتقد معالجة الفقه الإسلامي بطريقة الفقه الغربي، وذلك للحفاظ على طبيعة هذا الفقه وعلى الصلة بين ماضيه وحاضره ومستقبله.

 

وينتقد بشدة ما جرى عليه الدكتور السنهوري، ويرى الدكتور محمّد وحيد الدين ان تحديث الصياغة لا يؤدي إلى قطع الصلة بين ماضي الفقه الإسلامي وحاضره([12]).

 

والواقع ان تجديد صياغة الفقه الإسلامي من عناصر تحديثه وتقريبه لأذهان الفقهاء عموماً بما في ذلك أهل القانون، ولا يضيره ان يفيد من اسلوب الصياغة التي جرى عليها الفقه الغربي مادامت مادته ومحتواه مختلفين، ولا يخل ذلك بمصدره ولا بمضمونه الشرعي. واذا درسنا بعض المصنفات المعاصرة في الفقه الإسلامي، التي قامت على منهج الموازنة، فاننا نجدها واضحة، وميسرة ومبرزة أكثر لمزايا الفقه الإسلامي، ويفهمها رجل القانون كما يفهمها الفقيه كما فعل د. عبدالحميد متولي في كتابه "اصول الحكم في الإسلام" وعبدالقادر عودة في كتابه "التشريع الجنائي الإسلامي" والشيخ عبدالوهاب خلاف في "احكام الأحوال الشخصية" و"السياسة الشرعية أو السلطات الثلاث" وغيرهم كثير، ممن جدد في صياغة الفقه الإسلامي وأسلوبه، فزاده ذلك كله رونقاً ووضوحاً في مفاهيمه ومبادئه ومزاياه، فلا ينبغي الخوف من هذا التقريب وهذه الموازنة التي لا تخل بالفقه في مضمونه وأصوله بل ان هذه الموازنة توسع من آفاق الفقيه وتجعله أكثر ادراكاً لمفاهيم القانون ونظرياته لمعرفة مواطن الاختلاف والاتفاق لا استنساخ القانون الوضعي، وخلع سمات الفقه الإسلامي عليه.

معرفة الواقع

إذا كان موضوع الفقه هو أفعال المكلفين؛ وهو السلوك الفردي والاجتماعي وما ينتظم ذلك كله من علاقات، علاقة الفرد بربه (عبادات) وعلاقته بالمجتمع (معاملات) فإن هذا هو الذي يكون الواقع الذي ينزّل عليه الحكم الشرعي، ولا يستطيع الفقيه ان ينزل حكماً على شيء من هذا الواقع ان لم يكن على دراية تامة به، والحكم على الشيء، كما يقول المناطقة، فرع عن تصوره. فالفقيه انما هو الفقيه بأحوال عصره وأوضاعه وثقافته واتجاهاته وعاداته، ومشاكله اليومية ومستجدات الحياة وتطورها فيه، فكل زمن له حاجاته ومستواه الحضاري، ان الامام الشافعي (150 – 204هـ) واضع اللبنة الأساسية في أصول الفقه اشار في رسالته: "لا يحل لفقيه عاقل ان يقول في ثمن درهم، ولا خبرة له بسوقه"([13]).

 

وينقل ابن القيم (ت 751 هـ) عن الإمام أحمد (164 ـ 241هـ) ان من خصال المفتي الضرورية "معرفة الناس" وعلق على ذلك: "فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم (…) بل ينبغي له ان يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله"([14]).

 

والعلم الذي يتناول هذه القضايا هو العلم الاجتماعي، بل العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية، وقد اشار الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي إلى ضرورة هذه المعرفة، إذ كيف يستطيع المجتهد أو المفتي ان يحكم في قضايا الاجهاض وقضايا الهندسة الوراثية والجينات وعوامل الوراثة ان لم يطلع على مستجدات العلم الحديث عن الحيوانات المنوية والبويضة؟، وان أية دراسة إسلامية تستبعد هذه العلوم من مناهجها لا يمكن القول بأنها تكوّن رجالاً ذوي أهلية للاجتهاد([15]).

 

ويرى الدكتور حسن الترابي أنه كما لا يمكن أن يجتهد في الفقه الإسلامي من لم تكن له دراية بعلوم الشريعة، فلا يصح كذلك ان يجتهد في الشريعة، من لم يكن على علم وتمكن من العلوم الإنسانية والاجتماعية تمكناً كافياً: "لا يمكن ان نجتهد إلا إذا تعلمنا علوم الطبيعة كما نتعلم علوم الشريعة ذلك ان علم الطبيعة يقصد (به) ما يصطلح عليه بالعلوم الانسانية والتطبيقية هو الذي يعرفك بالواقع وادارته، ومهما حصل لك من العلم الديني بمعالجات الشريعة وبأدوية الشريعة، فلابد لك من تشخيص المجتمع لتعلم الداء، ثم تقدّر ما هو الدواء الشرعي، الذي يناسب ذلك المجتمع، وذلك يستدعيك ان تدرس المجتمع دراسة اجتماعية اقتصادية، وان تدرس البيئة الطبيعية (…) حتى تستطيع ان تحقق الدين بأكمل ما يتيسر لك"([16]).

 

وهذا امر يكاد يتفق عليه الذين كتبوا في التجديد من المعاصرين كما اشار إليه بعض القدماء أيضاً كالشاطبي (ت 690 هـ) في موافقاته وغيره ممن ذكرنا سابقاً. فبسط الحكم الشرعي على الواقع يتوقف على معرفة هذا الواقع معرفة كافية، ولكن ينبغي الآن في عصرنا الذي تعقدت فيه المشكلات، وتشعبت المعارف ان لا يقتصر المجتهد على هذه المعارف العامة، بل ينبغي له ان يتخصص في الشريعة، وفي الواقع الذي يجتهد فيه، كأن يكون عالماً بالشريعة وبالاقتصاد، أو بالشريعة والهندسة الوراثية، وان لم يمكن ذلك يطلب رأي الخبراء كل في تخصصه، فيكون الاجتهاد جماعياً مجمعياً، وهو امر آخر يكاد يتفق عليه الذين يدعون إلى الاجتهاد وتجديد الفقه الإسلامي، حتى لا ينفصل الدين عن الحياة ومجراها، الذي لا يتوقف عن الصيرورة والتغير، ولا يبقى الفقيه يردد احكاماً مجردة في ذهنه أو في كتبه يحفظها، ولكن ليس لها صلة واضحة بواقع الناس. فهذه المعارف الإنسانية التي تعنى بدراسة الإنسان من جميع نواحيه أدوات مهمة في منهج المجتهد، وتطلعه إلى ان يرعى مصالح الأمة، كما يرعي النصوص التي ينزلها على واقع الحياة، وبذلك يأخذ المجتهد في منهجه بمعطيات الشريعة ومقاصدها والمصالح المعتبرة فيها، كما يأخذ بمعطيات عصره ومشاكل الناس التي هي موضوع الحكم الشرعي ومحله وموقع تنزيله.

 

ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى ان مراعاة واقع الناس المتجدد يجعل المجتهد يراجع اجتهادات الأقدمين وفتاواهم؛ لأنها تعالج واقعاً قد تغير، فلزم ان يتغير الحكم بتغير طبيعة محله وموقع تنزيله، ولهذا فان الاجتهاد لا يسري على القضايا المستجدة في عصرنا هذا مما لم يحدث قبل، ولم يجتهد فيه المجتهدون فحسب، لأن هذا واضحة ضرورته بداهة، ولكن يجري الاجتهاد أيضاً في اجتهادات المجتهدين الماضين، الذين اعملوا عقولهم وبذلوا جهودهم الفكرية على ضوء نصوص الكتاب والسنة، للوصول إلى حكم شرعي في قضية ما من قضايا عصرهم، وان لم يفعل ذلك فقد ظلم الشريعة، وظلم مصالح الناس، وحكم بأحكام لا تنطبق على الواقع الجديد، ولم يرد في الشرع ما يلزم بتقليد المجتهدين في اجتهاداتهم، وان تغيرت أزمنتهم وتغيرت القضايا التي اجتهدوا فيها، وهذا امر لا اظن انه ينازع فيه منازع. ولذلك اشتهر بين الفقهاء ما عبروا عنه بأنه: لا ينكر تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والعادات، ويقصدون بذلك الأحكام والفتاوى التي تستند إلى مجريات الأعراف والعادات والمصالح المتغيرة، فاذا تغيرت العادة، أو المصلحة تغير الحكم الواقع عليها، والذي يتغير في الحقيقة ليس هو الحكم في حد ذاته، وإنّما هو فهم تلك الأحكام على انها مناسبة لتلك الوقائع؛ لان الحكم الشرعي الذي هو خطاب الله لا يتغير وإنّما الذي يتغير تنزيله، على واقع مناسب في زمن ما، ورفعه عن ذلك الواقع الذي تغير ليحل محله حكم آخر شرعي مناسب له، تدعو إليه مقاصد الشريعة وحكمتها، ولذلك جاء تعبير ابن القيم مناسباً حيث عبر عنه بالفتوى، لأن الفتوى هي تنزيل حكم شرعي على نازلة من النوازل، وهذا ما يضمن حسن تنزيل الحكم على اية واقعة تستجد، ومعنى هذا ان الأفهام تتجدد بتجدد الواقع، وان الاجتهادات القديمة لا يمكن الجمود عليها إذا تبين تغير واقع ما انبنت عليه، وكذلك اجتهادات عصرنا يمكن مراجعتها من اجيال أخرى استجدت لديهم مستجدات تدعو لاعادة النظر والمراجعة، دون ان يخل ذلك بمراعاة الشريعة في نصوصها ومقاصدها، ولا بمصالح الناس وطبيعة مشاكلهم وما يناسبها من حلول في اطار الشرع أيضاً. ومعنى هذا ان المجتهد لا ينفصل عن واقع الحياة، كما لا ينفصل عن الشرع ومقاصده.

 

وخلاصة القول: انه ينبغي ان يكون من ادوات المجتهد التي تؤهله لعمله الفقهي، هذه المعارف الانسانية وغيرها، مما يساعده على معرفة الحكم الشرعي المناسب له، وان لم يتمكن المجتهد الفرد من ذلك فليلجأ إلى ذوي الخبرة والعلم بذلك الواقع، فيكون الاجتهاد شوروياً وجماعياً، وهذا هو الواجب في عصرنا هذا، والا اخطأنا في فهم مراد الله من النصوص القرآنية، ومراد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من نصوص السنة، واخطأنا في ضمان تنزيل حكمه على مشاكل الناس، ذلك ان هذه المعارف تعين المجتهد على الوصول إلى وجه من وجوه محتملة في النص فيسدد ذلك طريقه وحسن تفهمه.

 

وهذا ما يجعلنا نشير إلى عامل آخر مهم نتفادى به ان يكون الفقيه منقطعاً عن حياة الناس ومشاكلهم ومعارف عصره غريباً عنها، كما نتفادى ان يكون العالم من علمائنا مفصولاً عن الشريعة وعلومها، مغترباً في معارف مقطوعة الصلة بالمنهج الرباني، هذا العامل يتمثل في الازدواجية في التعليم عندنا، فهذا عالم في الشريعة فحسب، وهذا عالم في علم القانون أو الاجتماع أو الطب فحسب، مما يمزق شمل الثقافة، ويحدث شرخاً في نسيجها، وقد تفطن إلى هذا ابن حزم (ت 456 هـ) قديماً، واشار إلى الضرر الذي يحدث من هذا الازدواج والانفصام في التكوين العلمي([17]).

 

مبيناً الصراع الذي كان يحدث في عصره بين طائفة اقتصرت على دراسة الرياضيات والطبيعيات دون علم الدين، والأخرى التي تدرس العلوم الشرعية دون العلوم الاخرى. كما اشار إلى ذلك ابو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في كتابه المنقذ من الضلال وغيره.

 

كما ان فقيهاً حكيماً من فقهائنا الاعلام وهو القرافي (ت 684 هـ) تفطن إلى وجوب تجديد الاجتهاد، وعدم الجمود عند اقوال القدماء، وعبر عن ذلك أفضل تعبير في كتابه "الفروق": "فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط اسقطه، ولا تجمد على السطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل اقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجرِهِ عليه، وافته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"([18]).

 

وهذه العلوم التي تساعد المجتهد تخدمه من جهتين، من حيث كشفه عن المقاصد الشرعية، ومن حيث انها تضبط الوسائل التي تمكن من الكشف عن هوة المقاصد، ومن هنا أصبح الوصل بين العلم العقلي والعلم الشرعي ضرورياً لكمال العلم الإسلامي، فليس العلم العقلي دون النقلي في اتصافه بالشرعية. ومهمة التجديد تحتاج إلى حرية، والى الاستماع إلى آراء الآخرين، ولذلك كان الخلاف في هذا المجال الاجتهادي مشروعاً، وتاريخ الفقه الإسلامي اكبر دليل عليه، وتعدد المذاهب اوضح برهان مما يشير إلى حرية كافية في الاجتهاد ليخلص المجتهد إلى ما اداه إليه اجتهاده، واذا اخطأ فان خطأه لا يخرجه عن الاجتهاد بل يؤجر عليه.

 

ومن شروط هذا التجديد التحرر من العصبية المذهبية، واعتبار المذاهب الإسلامية الفقهية المشهورة وغير المشهورة، كمذهب ابن عباس (ت 68 هـ) وسعيد بن المسيب (ت 94 هـ) وابراهيم التحفي (ت 96 هـ) ومذهب عبدالرحمن الاوزاعي (157هـ)، ومذهب سفيان الثوري (161هـ) والمذهب الظاهري ومذهب داود بن علي (ت 270هـ) ومذهب ابي جعفر الطبري، (ت 310هـ) ومذهب الامام جعفر الصادق (80ـ148هـ) عليه السلام، وما نقل عنه من فقه في المدينة المنورة، والفضل بن شاذان النيشابوري القمي (260 هـ) ويونس بن عبدالرحمن وغيرهم من تلاميذ الإمام جعفر الصادق، وفي دور التدوين نجد علي بن بابويه (ت 329هـ) في كتابه: "الشرائع"([19])، وابنه الشيخ الصدوق في كتابه "الهداية" وكتاب "المقنع"، وأبو محمّد الحسن بن علي الحذاء في كتابه "المستمسك بحبل آل الرسول"، والشيخ محمّد بن محمّد المفيد (337 ـ 413هـ) في كتابه: "المقنعة في الفقه"([20])، وغيره من مؤلفاته ورسائله الكثيرة. وأبو علي محمّد الاسكافي (ت 381هـ) صاحب كتاب "الاحمدي في الفقه المحمدي"، و"تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة"، والشيخ المرتضى علم الهدى (ت 436هـ) ومحمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) في كتابه "الخلاف"، وكتاب "النهاية" وكتاب "العدة" والشيخ محمّد بن ادريس الحلي وغيرهم كثير مثل صاحب كتاب شرائع الإسلام نجم الدين بن الحسن الحلي (ت 676هـ) إلى ان جاء المحقق الكركي (940هـ) في كتابه جامع المقاصد. وكذلك مذهب الاباضية وأهم كتاب وصلنا من كتبهم كتاب النيل الذي الفه الشيخ عبدالعزيز الثميني (1133 ـ 1223هـ) ومختصر المنهاج في علوم الشريعة، وشرح كتابه النيل في العبادات والمعاملات الشيخ العلّامة محمّد بن يوسف اطفيش (1236هـ - 1332هـ).

والحق انه يجب اعتبار المذاهب الإسلامية وحدة متكاملة إذا قورن الفقه الإسلامي بغيره من الفقه، لأنه يمثل امة واحدة ومصادره واحدة في أساسها.

أهمية مقارنة المذاهب الإسلامية في الفقه

لقد درجت الموسوعات الفقهية الحديثة في العالم الإسلامي على الأخذ من المذاهب الإسلامية الثمانية، بما في ذلك الجعفرية والظاهرية والزيدية والاباضية، كما ان مقارنة هذه المذاهب فيما بينها تفيد في تجديد الفقه الإسلامي والاجتهاد فيه، ومن شأنها ان تذهب بما يمكن ان يكون من تعصب مذهبي، وتمسك بالتقليد لمذهب واحد دون غيره في كل المسائل، ويؤدي ذلك أيضاً إلى وحدة الأمة في تشريعاتها وحل مشاكلها بلا ضيق، فان ثروة هذه المذاهب كلها ثروة متنوعة ورحبة، تتيح للمجتهد ان ينتقي منها ما هو اقرب إلى تحقيق المصلحة في عصرنا، وما هو يراعي أكثر مقاصد الشريعة وادلتها، ولا ضير في ترجيح رأي فقهي على آخر، سواء داخل المذهب الواحد أو ضمن المذاهب الفقهية في جملتها، دون جمود، ولا تحيز، فهي بهذا تتكامل وتتعاضد وتساعد المجتهد في ان يتوسع في هذه الوجهات المختلفة من النظر الفقهي.

الاجتهاد الجماعي إن المشكلات المتصلة بالأمة في مجملها يصعب ان يتولى فرد الإفتاء فيها، ولذلك فان مشكلات عصرنا المعقدة وخاصة ما يمس الأمة قاطبة لا يتولى الاجتهاد فيها إلا مجمع إسلامي يضم الفقهاء والخبراء في مختلف التخصصات من علوم العصر ووسائله، يتطلبون الحق ومصلحة الأمة، بعيداً عن كل تعصب قومي أو وطني أو حزبي أو سياسي، ويصيرون إلى اجتهاد موضوعي لا يراعي إلا مقاصد الشريعة ومصالح الأمة.

اما المسائل الفردية والمحلية أو الاقليمية فتتكون لها مجامع أخرى فرعية تتولى حلها بالاجتهاد الذي يراعي اعراف واوضاع كل وطن أو بلد أو اقليم، ويكون بينها تنسيق وتعاون وتشاور منظم. وقد تناول هذه المسألة عدد من الباحثين، وأشاروا إلى عدة آراء مفيدة؛ منها ما كتبه الأستاذ جمال البنا في مؤلفه "نحو فقه جديد"، ودعا فيه إلى الاجتهاد الجماعي الذي يكشف عن الحكم الشرعي في المستجدات، وكذلك مؤلف في ادوات النظر الاجتهادي المنشود([21])، للدكتور قطب مصطفى وله اهميته ووجاهته سواء في بيان أدوات الاجتهاد أو تصنيف المجامع الاجتهادية تبعاً لطبيعة الموضوعات التي تستجد من حيث هي فردية أو اجتماعية، وطنية أو اقليمية أو عامة في الأمة.

أما تيسير الفقه للناس فَهْماً وعَرضاً لغة ومحتوى واصطلاحاً فإن عدداً من فقهائنا كتبوا في الموضوع، وفي مقدمتهم الشيخ العلّامة الدكتور يوسف القرضاوي، وهو ضرورة في عصرنا هذا، الذي تطورت فيه أساليب الكتابة الواضحة، التي تخلو من تعقيد الاصطلاحات وتشعب التحرير، الذي يدخل المسائل المتنوعة في باب واحد مع استطرادات يصعب على الباحث ان يجد ما يريد بسهولة في هذه المراجع، ولهذا فان الفقهاء مدعوون في ايامنا هذه إلى توخي اليسر في العرض والتبويب، ووضع المصطلحات وتحديدها، ووضع الفهارس الدقيقة للمسائل الفرعية في مختلف ابواب الفقه، ليسهل الرجوع إليها سواء في ذلك المؤلفات الموجهة إلى الجمهور الإسلامي العام أو المؤلفة للطلبة، أو التي يقصد منها التأليف العلمي من المستوى العالي المرجعي يكون مرجعاً معتمداً لمن يسعى لفهم مسألة أو درسها أو تطبيقها.

الهوامش:

([1]). جمال عطية، تجديد الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت لبنان، ودار الفكر، دمشق سوريا، 1420هـ/2000م ص18ـ 19.

([2]). وهذا ما يقرره الدكتور جمال عطية نفسه، المرجع السابق ص15.

([3]). سلك ابن رشد في البداية هذا المنهج في العناية بإبراز أمهات مسائل الباب، أو الكتاب من كتب البداية.

([4]). د. وهبة الزحيلي، تجديد الفقه الإسلامي، المصدر السابق (اشترك في هذا الكتاب مع د. جمال عطية) ص213.

([5]). حسام الدين كامل الأهواني: "المنهج المقارن في دراسة القانون" ضمن "ندوة تدريس القانون واحتياجات المجتمع القطري"، البحوث المقدمة للندوة، قطر، 1997 ح/ص 303.

([6]). المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي، جامع المقاصد في شرح القواعد، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث (مقدمة) ج1 ص، ذ قم 1408.

([7]). نقلاً عن جمال عطية في كتاب تجديد الفقه الإسلامي ص 40ـ411.

([8]). قدم طارق البشري المستشار بحثاً مهماً في هذا في ندوة تدريس القانون بجامعة قطر ج2، ص645ـ 666.

([9]). انظر جمال عطية، المرجع السابق ص40.

فؤاد محمد ممدوح: تحديث كتب الفقه، بحوث ندوة تدريس القانون ج2، ص535.

([10]). مصادر الحق ج1، ص6.

([11]). مصادر الحق، ج1، ص40.

([12]). د. محمد وحيد الدين سوار "الموازنة بين الفقه الإسلامي والقانون المعاصر من حيث أهميتها ونهجها وصعوباتها" ندوة القانون جامعة قطر ج2، ص694.

([13]). الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، القاهرة 1979، ص511.

([14]). ابن القيم، اعلام الموقعين عن رب العالمين، ج4، ص204.

([15]). يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة ص 48.

([16]). د. حسن الترابي، قضايا التجديد؛ نحو منهج اصولي، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، الخرطوم 1990، ص 176ـ177.

([17]). انظر مقدمتنا لكتاب ابن النفيس: المختصر في علم اصول الحديث، الجزائر 1422هـ 2001 ص72، وهذا ناشئ منذ نظام الملك (ن 485هـ) في المدارس التي اسسها وجعلها تقتصر على العلوم الشرعية واللغوية.

([18]). الفروق ج1، ص176.

([19]). وله من الكتب الوضوء، الصلاة، التوحيد، والتفسير. انظر: الطوسي الفهرست ص93، الخوانساري، روضات الجنات ص377، البغدادي هدية العارفين ج1، ص678.

([20]). وعليه شرح الشيخ الطوسي في تهذيب الاحكام.

([21]). ط. دار القطر المعاصر، بيروت – لبنان، ودار الفكر دمشق – سورية 1421هـ/2000.