وقفةٌ مع الصحوة وتجلياتها عند المسلمين

وقفةٌ مع الصحوة وتجلياتها عند المسلمين

 

وقفةٌ مع الصحوة وتجلياتها عند المسلمين

 

الدكتور أسعد السحمراني

مقدمة:

شهد العالم مع الربع الأخير من القرن الماضي العشرين للميلاد، والسنوات هي بدايات القرن الخامس عشر الهجري، يقظة إيمانية على مستوى أتباع الرسالات السماوية والعقائد والفلسفات الوضعية، وكذلك عند المسلمين. ولعلّ من أسباب ذلك ما أصاب الإجتماع البشري في العالم قاطبةً من تصدعاتٍ في القيم الناظمة لشبكة العلاقات الإجتماعية، وما أصاب العالم من فوضى في مستوى الفرد والمجتمع، وفي نظام الأسرة ومسارها في الوالدية والبنوّة، ولعلّ ما أوصل إلى ذلك المغالاة في تطبيق الماركسية والليبرالية قيمياً في إجتماعاتٍ بشرية كثيرة.

ولا يخفى على مستبصرٍ طغيان الماديات ولغة الأعداد والكميات في ظلّ الماركسية والليبرالية مما أضعف حضور الإنسان بمقومات شخصيته ومنظوماته القيمية المثالية. أمام هذا الواقع الذي غيّب القيم الدينية والإنسانية عموماً حدثت صدمةٌ في المجتمعات حرّكت الوعي الديني، ودفعت إلى الإلتزام، وبسبب ذلك اكتظّت دور العبادة أيًّا تكن تابعيتها بالرواد والعباد.

وقد عرف المسلمون الأمر نفسه مما دفع بعض أهل المنابر وحملة الأقلام إلى القول بأن صحوةً إسلامية قد حصلت.

والحقيقة أنّ ما حصل هو صحوةٌ للضمير الإيماني عند مسلمين وليس عند المسلمين عموماً، والصحيح أن يُقال صحوة مسلمين، وليس من المنهج السليم أن يُقال صحوة إسلامية وكأنّ الإسلام قد صحا وهذه نسبة غير صحيحة، ومن زلاّت الأقلام والألسنة نسبٌ مماثلة كأن يُقال: دولةٌ إسلامية، واقتصادٌ إسلامي، وتربيةٌ إسلامية، وكتابٌ إسلامي... الخ. والصحيح أن ننسب الأشياء إلى فاعليها وأن لا نترك المصطلح في دلالة عامة، وبالتالي يكون الصحيح أن يقال: الدولة في الإسلام، والإقتصاد في الإسلام، والتربية في الإسلام، والإعلام في الإسلام... الخ.

لماذا تسرّع القائلون بالصحوة؟:

إنّ الغزو القيمي الذي مارسته مدارس الإستعمار الفكري المادي اللاديني(Laïque)  المستند إلى النظريات الماركسية أو الليبرالية أدّى إلى حالاتٍ من التفريط بالقيم في اللباس والزي، وفي المأكل والمشرب، وفي العادات الإجتماعية وترتيب العلاقات بين الناس، وفي مسائل كثيرة وصولاً إلى ضعف ممارسة العبادات، لذلك كلّه عندما حدثت اليقظة الدينية وصحا مسلمون وغير مسلمين فرح المعنيون من المرجعيات الدينية علماء ودعاة فسارعوا إلى القول: إنه قد حدثت صحوة إسلامية. وقد مرّت ثلاثة عقودٍ ونيّف من الزمن ولازال الإستخدام هو هو في عناوين المؤتمرات والندوات أو الكتب وبرامج الإعلام، دون أن يكلِّف أحدٌ نفسه أمر المراجعة النقدية لاستخدامٍ مبالغٍ فيه لمصطلح الصحوة. وأحسب أن الواقع الحالي في العالم الإسلامي، وفي الوطن العربي في قلبه، وعلى مستوى المرجعيات الإسلامية يحتاج إلى مراجعة نقدية، وقراءة واعية لسيرورة الأفكار، ولصيرورة المجتمعات في موضوع الصحوة لجهة الفعل والتطبيق والإلتزام، ولأنه غير سليمٍ أن تبقى الأحكام في حدود الإلتزام النظري أو القول باللسان دون أن يتحوّل القول إلى فعلٍ، والإيمان القلبي إلى تصديقٍ بالعمل، فإنه لا يصحّ أن يغيب عن بال أحدٍ التوجيه القرآني بهذا الصدد الذي جاء في قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون."(سورة الصفّ، الآيتان 2 و 3).

الصحوة بين العبادات والمعاملات:

إن المتابع لمجتمعات المسلمين قبل نصف قرنٍ يعرف كيف أنّ من يأمّون المساجد كانوا قلّة، وكان أغلبهم من المتقدمين في السنّ ولم يكن بينهم أعدادٌ وفيرةٌ من الشباب والفتيان، وها هو اليوم نقيض ذلك إذ أن مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي كلّ بقعة من العالم تكتظُّ بالمصلين، وكثيراً ما يزدحم الناس في باحات المساجد وفي المساحات المحيطة بها، خاصةً في صلاة الجمعة وصلاة العيدين.

والأمر نفسه يحصل بشأن أداء فريضة الحجّ أو العمرة حيث يجد المتابع أنّ الأعداد قد ازدادت والأعمار كذلك فيها الشباب وفيها الصغار وفيها متوسطو السنّ، ومن كلّ فئات المجتمع وأطيافه.

كما أنّ متابعة وضع اللباس لجهة الحشمة والحجاب عند المرأة المسلمة نجده في أيامنا أحسن منه بكثيرٍ مما كان عليه قبل عقودٍ مضت، ولعلّ ذلك من المظاهر الإيجابية في الإلتزام بما يفرضه الإسلام في أمر طاعة المرأة لله تعالى والتزامها بشريعة الإسلام.

يرافق ذلك ثمّة عناية بالشكل والمظهر من مثل الاحتفالات، وما يُرفع من زينة ولافتات في المناسبات الدينية، وهناك تفنّن في اللوحات وبعض الأواني مما هو من صميم الفنّ الإسلامي.

وإذا اتجهنا إلى سوق الترويج باستخدام الدين معبراً للمصالح والمكاسب يلمس المتابع الغلو في استخدام الإسلام مما بات مسيئاً للإسلام نفسه. من نماذج ذلك أسماء المؤسسات والمتاجر بأسماء إسلامية من مثل: البركة – والحلال – والعروة الوثقى – و الفرقان – والإيمان – والإصلاح – والنور.. الخ.

ويلاحظ من مثل هذا عناوين هي: مصنع اللباس الشرعي، والذبح الشرعي، أو الذبح الحلال، ومعرض الكتاب الإسلامي،... الخ.

هذا عدا جمعيات، وأحزاب، وهيئات، ونوادٍ بالغت في إلصاق الإسلام بأسمائها، علماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل ذلك، فلم يستخدم رسول الله عبارة: غزوة بدر الإسلامية، بل غزوة بدر الكبرى.

ويثرب باتت بعد الهجرة: المدينة المنوّرة، ولم يطلق عليها اسم: المدينة الإسلامية، وهكذا الأمر في سائر المسميّات.

ويأتي البيان واضحاً عند تجهيز أمراء الجند في الغزوات، وإعطاء التوجيهات لهم التي كانت تنهاهم عن إعطاء الناس عهد الله تعالى وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الفاتح المسلم قد لا يستطيع الوفاء بكل موجبات الإسلام، ويستطيع تحقيق بعضها لهذا كان الأمر في الحديث الشريف: "حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقى، قال: حدثنا عمرو بن خالد الحرّاني، ويحيى بن بكير، قالا: حدثنا عبدالله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن بريدة عن أبيه قال: "ثمّ كان رسول الله إذا بعث سرية أو جيشاً، قال: إذا أنت حاصرت أهل حصن أو أهل قرية فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك، وإذا أنت حاصرت أهل حصن أو قرية فأرادوك أن تعطيهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطهم ذمة الله وذمة رسوله ولكن أعطهم ذمتك وذمم أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله." (أخرجة أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط).

هذا هو منهج الإسلام الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إنه منهج تنسب فيه المواثيق والأفعال والممارسات عموماً لمن يقوم بها، ولا تنسب لله تعالى، أو لرسول الله، أو للإسلام عامة. وهذا يقود إلى مطالبة المعنيين من أهل الأقلام والمنابر بأن يقوموا بمراجعة نقدية يعيدون فيها الامور إلى نصابها، بدءاً من الصحوة، فيقال: صحوة المسلمين، والتربية في الإسلام، والدولة أو الجمهورية في الإسلام، والسياسة في الإسلام... الخ.

أما إذا يممنا شطر الفعل والسلوك اليومي لغالبية المسلمين في مجتمعات وأمم عربية ومسلمة أو لمسلمين في أمم ذات أغلبية غير مسلمة نلاحظ أن هذا الإقبال المشار إليه آنفاً على العبادات لم ترافقه مسارات معيوشة في الحياة اليومية تلتزم الهدي الشرعي، وكثيراً ما يتصرف هؤلاء وكأنهم يغادرون الإسلام في المسجد أو حين أداء عبادة ما إلى سلوك بعيد كل البعد عن الإسلام.

إن المبالغين في الحديث عن صحوة مطالبون بالنزول إلى مواقع العمل، وإلى مؤسسات الإنتاج والتعليم، وإلى الأسواق، وإلى الدوائر الحكومية حيث مصالح المواطنين، وفي كل هذه المواقع سيصطدم بمنهج سلوكي لا يلتزم قيم الإسلام، ولا أبسط قواعد السلوك المتوافق عليه إنسانياً.

فالمزارع حين يقوم بتوضيب انتاجه من الخضار أو الفاكهة في مستوعبات تحضيراً لإنزالها إلى سوق البيع يمارس الغش من أوسع أبوابه حيث يعمل على إخفاء عيوب قسم من المنتج بوضعه في موقع من المستوعب لا ينتبه له المشتري.

والموظف في إدارة حكومية لا يقوم بإنجاز المعاملات والأوراق الرسمية المطلوبة لزوم مصالح المواطنين وحاجاتهم في الوقت المناسب، أو أنه لا يقوم بالإنجاز دون الحصول على الرشى، وهذا السلوك يلاحظه من تكون له حاجة في إدارة رسمية على الحدود حين دخوله إلى بلد، أو حين متابعته لمعاملة معينة في داخل المجمّعات الحكومية.

وقل الأمر نفسه عن الصناعيين، ومن يقومون بأعمال الصيانة حيث يجد المتابع الغش منتشراً، إضافة إلى الإستنسابية في بدل الأتعاب والأجر مما لا يقارب الحقّ والعدل.

وعندما ينتقل المعني إلى عالم التعليم والتربية، وهنا موقع الإعداد للناشئة، يجد معاناة وأبواباً من العبثية والمتاجرة بالعلم، من مثل السمسرة للدروس الخصوصية، أو تسريب أسئلة الإمتحانات وبيعها للطلاب، ويصل الأمر إلى حد العبث بالأبحاث الأكاديمية في الدراسات العليا في بعض الكليات والجامعات، حيث نجد من يكتب رسالة أو أطروحة لأحد النافذين أو المتمولين مقابل مصلحة، أو نجد أساتذة يسلبون الجهد العلمي في البحث لطلابهم، ليضمنون في كتب وأبحاث منسوبة لهم، وبذلك تكون اللصوصية قد دخلت عالم التعليم، وهنا المخاطر الكبرى، ونجد بين هؤلاء العابثين من حج واعتمر، ومن هو مصلٍّ وصائم، ومن يبالغ في إعلان أشكال يسترها بالتقوى الكاذبة.

أما الحالة المنسوبة للعلمائية، ومن يلقون الخطاب الديني فإن المشكلة تصبح أكثر تعقيداً حيث نجد الخطب إلا القليل منها، إما تقليدية سطحية في طرحها، أو أنها انفعالية يسودها الصراخ وكثيراً ما تجنح باتجاه الفتنة والفئوية، وبذلك تغذّي الإنقسامات الطائفية والمذهبية.

ولو أراد الباحث المتابع ملاحقة سائر الميادين والمواقع سترتفع حالة الإحباط عنده، وأحسب أن ما تمّ ذكره من العقبات والمعوّقات يشكّل سدّاً في وجه مسارات الصحوة أو اليقظة، ويعوّق نقل الإسلام من المسجد إلى الحياة اليومية للمسلمين، وهذا يضع تحدياً أمام قادة الرأي والعلماء الغيارى على الإسلام، وعلى مجتمع الأمة، والحلّ يكون بأن تتوافر الجهود لعملية إصلاح تشمل الخطاب الديني، وإنتاج الأقلام من الكتب والأبحاث، وإطلاق حركة واسعة في التدريب والإعداد تجعل الفرد المسلم في حالة ربط بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، ليكون المجتمع في فضاءات صحوة فعلية.

 

هل هناك تقريب بين المسلمين؟:

إن المعوّقات الأكثر تعطيلاً لمسيرة الصحوة حالات تصاعد العصبيات الرديئة التي تلبس جلباب المذاهب الفقهية أو الفكرية، وحالات الحراك الفكري العلمائي في مسألة التقريب لم تحقق ما هو في مقاصدها، سواء أكانت التحركات على مستوى المجامع والمؤسسات، أو على مستوى الأفراد، والمنابر، والمؤتمرات، والملتقيات، والكتب، والمؤلفات، وصولاً إلى الوثيقة التي أقرتها منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي كانت قد أعدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (isesco)، والمعنونة: "استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية" وكان ذلك في العام 2004م.

أما السبب فإنه أن بعض الأطراف فهم التقريب بأنه إلغاء للمذاهب، وليس هذا الأمر بين مقاصد التقريب. وبعضهم فهم التقريب على أنه استقطاب المسلمين إلى فقهه وفهمه ومواقفه، وهذا عقل يقوم على الإستتباع والإلغاء، ولا يحقق شيئاً، وإنما يزيد البلّة طيناً. وآخرون حسبوا التقريب حشداً لمسلمين ضدّ الطوائف الأخرى، وكأن الأمر انتقال من عصبية إلى عصبية، وهذه معالجة عقيمة.

إن صحوة حقيقية للمسلمين تحتاج إلى الامور الآتية:

1- اعتماد المنهج الوحدوي إسلامياً الذي يرى في المذاهب الفقهية والفكرية ثروة، وقوة دافعة للاجتهاد والتنافس في وجوه الخير على قاعدة أن التنوّع سنّة إلهية جاء البلاغ الإلهي بشأنها في الآية الكريمة: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين."(سورة هود، الآية 118).

فالتنوع ثراء وسنّة كونية شرط أن يكون في فضاء الوحدة لا على حسابها.

2- إن الوحدة الإسلامية إقرار بالتنوّع، واحترام من أتباع المذاهب لبعضهم وهي ليست دعوة الى الإلغاء أو  تعطيل المذاهب، وإنما هي دعوة لوحدة في الأساسات، وأمام التحديات والنوازل، وعمل من خلال المتفق عليه.

3- إن وحدة المسلمين ليست عصبية موجهة ضد المسيحيين أو ضدّ أي مجموعة من مكونات المجتمع العالمي، وإنما الإسلام دين الرحمة بحملها للعالمين كافة، والإسلام يقوم على الحب والألفة والتسامح والرحمة،  ويلتزم قيم الحق والخير والعدل والجمال، وفي رحاب هذه القيم يعمل لتحقيق كرامة الإنسان وسعادته.

4- يحتاج أمر الصحوة والتقريب العمل على تنقية التراث من الموروثات الفئوية في طرحها، والتي تنكأ الجراح، وتثير الفتن خاصة تلك المنسوبة إلى السابقين في عصور الإسلام الاولى حيث الكثير منها يقوم على ما نسجته خيالات ونفوس مريضة، وأقلام لم تتصرف بروح مسؤولة.

5- العمل على المستوى الإسلامي لتنفيذ مضامين وثيقة "استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي أقرتها منظمة المؤتمر الإسلامي لأن في ذلك ثمة خدمة لمسار صحوة المسلمين، وفي وحدة المسلمين خدمة لغير المسلمين لأن الوحدة الإسلامية تشكل فرصة للإستقرار في العالم الإسلامي الذي يسمونه: "القارة الوسيطة"، ومن خلال ذلك تكون فرصة كبرى للاستقرار العالمي.