قد يقال : إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والآخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لاشك في صحته ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لايكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه ولا يبعد أن يقال بإستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان مايحزنك أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه ويكفي في ذلك قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين .
وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب : أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والإضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب وطريق بديع غريب فقال سبحانه له : عذابي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين أن قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله ورحمتي وسعت كل شيء إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقر عينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لاشك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا علي أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ماأهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء مايراد منهم وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه : فسأكتبها للذين يتقون الخ ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب إنتشار النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لإستنهاض همهم إلى الإتصاف بما يمكن إتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال : قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا إختيارا لما هو أبلغ فيه وهذا الذي ذكرناه وإن كان لايخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه وأقول بعد هذا كله : خير الإحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل والسين في سأكتبها يحتمل أن تكون للتأكيد ويحتمل أن تكون للإستقبال كما لايخفى وجهه على ذوي الكمال الذين يتبعون الرسول الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام النبي