لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى وللمتكلمين في الإستدلال على وجود الصانع بمثل هذه المذكورات طريقان : أحدهما طريق التغير والثاني طريق الإمكان والأكثرون على ترجيح الثاني والبحث مفصل في موضعه .
وإنما أقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض وإلى الثالثة بإختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم وقال ناصر الدين : لعل ذلك لأن مناط الإستدلال هو التغير وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الإفلاك بتبدل أوضاعها وأعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولي والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لماذكر في تلك السورة من أن المقصود ههنا بيان إستبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فأكتفى بها وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان إختصاصه تعالى بالألوهية بيان إتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته .
ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ماأخرجه الطبراني وإبن مردويه وغيرهما عن إبن عباس أنه قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيبسى فيكم قالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي أدع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت : إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وأخرج إبن حبان في صحيحه وإبن عساكر وغيرهما عن عطاء قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا ! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت : يارسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة إن في خلق السموات والأرض إلى قوله سبحانه : فقنا عذاب النار ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إن في خلق السموات الآية .
وأخرج الشيخان وأبو داؤد والنسائي وغيرهم عن إبن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إنتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم أستيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم .
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم في موضع جر على أنه نعت لأولى ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون ربنا آمنا بعيد لما فيه من تفكيك