- ظن أناس ممن لم يمارس العلم ولم يؤت الفهم أن الاستحسان عند الحنفية هو الحكم بما يشتهيه الإنسان ويهواه ويلذه حتى فسره ابن حزم في " أحكامه " بأنه ما اشتهته النفس ووافقتها خطأ أو صوابا لكن لا يقول بمثل هذا الاستحسان فقيه من الفقهاء فلو كان هذا مراد الحنفية بالاستحسان لكان للمخالفين ملء الحق في تقريعهم والرد عليهم إلا أن المخالفين ساءت ظنونهم وطاشت أحلامهم ففوقوا سهاما إليهم ترتد إلى أنفسهم وذلك لتقاصر أفهامهم عن إدراك مرامهم ودقة مدرك هذا البحث في حد ذاته وايس بين القائلين بالقياس من لا يستحسن بالمعنى الذي يريده الحنفية وهذا الموضع لا يتسع لذكر نماذج من مذاهب الفقهاء في الأخذ بالاستحسان وإبطال الاستحسان ما هو إلا سبق قلم من الإمام الشافعي Bه فلو صحت حججه في إبطال الاستحسان لقضت على القياس الذي هو مذهبه قبل أن يقضي على الاستحسان .
ومن الحكايات الطريفة في هذا الباب ما يروى عن إبراهيم بن جابر أنه لما سأله أحد كبار القضاة في عهد المتقي لله العباسي عن سبب انتقاله من مذهب الشافعي إلى مذهب أهل الظاهر جاوبه قائلا : " إني قرأت إبطال الاستحسان للشافعي فرأيته صحيحا في معناه إلا أن جميع ما احتج به في إبطال الاستحسان هو بعينه يبطل القياس فصح به عندي بطلانه " كأنه لم يرد أن يبقى في مذهب يهد بعضه بعضا فانتقل إلى مذهب يبطلهما معا لكن القياس والاستحسان كلاهما بخير لم يبطل واحد منهما بالمعنى الذي يريده القائلون بهما بل الخلاف بين أهل القياس في الاستحسان لفظي بحت وأود أن أسوق بعض كلمات من فصول أبي بكر الرازي لتنوير المسألة لأنه من أحسن من تكلم فيه بإسهاب مفهوم - فيما أعلم - وهو يقول في الفصول في بحث الاستحسان : " وجميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان فإنهم قالوه مقرونا بدلائله وحججه لا على جهة الشهوة واتباع الهوى ووجوه دلائل مسائل الاستحسان موجودة في الكتب التي عملناها في شرح كتب أصحابنا ونحن نذكر هنا جملة تفضي بالناظر فيها إلى معرفة حقيقة قولهم في هذا الباب بعد تقدمة القول في جواز إطلاق لفظ الاستحسان فنقول : لما كان ماحسنه الله تعالى بإقامته الدلائل على حسنه مستحسنا جاز لنا إطلاق لفظ الاستحسان فيما قامت الدلالة بصحته وقد ندب الله تعالى إلى فعاله وأوجب الهداية لفاعله فقال عز من قائل : { فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } وروي عن ابن مسعود وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيء " فإذا كنا قد وجدنا لهذا اللفظ أصلا في الكتاب والسنة لم يمنع إطلاقه في بعض ما قامت عليه الدلالة بصحته على جهة تعريف المعنى وإفهام المراد ... ثم ليس يخلو العائب للاستحسان من أن ينازعنا في اللفظ أو في المعنى فإن نازعنا في اللفظ فاللفظ مسلم له فليعبر هو بما شاء على أنه ليس للمنازعة في اللفظ وجه لأن لكل أحد أن يعبر عن المعنى بما عقله من المعنى بما شاء من الألفاظ لا سيما بلفظ يطابق معناه في الشرع وفي اللغة وقد يعبر الإنسان عن المعنى بالعربية تارة وبالفارسية أخرى فلا ننكره وقد أطلق الفقهاء لفظ الاستحسان في كثير من الأشياء وقد روي عن إياس بن معاوية أنه قال : " قيسوا القضاء ما صلح الناس فإذا فسدوا فاستحسنوا " ولفظ الاستحسان موجود في كتب مالك بن أنس وقال الشافعي : أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما فسقط بما قلنا المنازعة في إطلاق الاسم أو منعه وإن نازعنا في المعنى فإنما لم يسلم خصمنا تسليم المعنى لنا بغير دلالة وقد اصطحب جميع المعاني التي تذكرها مما ينتظمه لفظ الاستحسان عند أصحابنا إقامة الدلالة على صحته وإثباته بحجته ولفظ الاستحسان يكتنفه معنيان : .
أحدهما : استعمال الاجتهاد وغلبة الرأي في إثبات المقادير الموكولة إلى اجتهادنا وآرائنا نحو تقدير متعة المطلقات قال الله تعالى : { فمتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } فأوجبها على مقدار يسار الرجل وإعساره ومقدارهما غير معلوم إلا من جهة أغلب الرأي وأكثر الظن ونظيرها أيضا نفقات الزوجات قال الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولا سبيل إلى إثبات المعروف من ذلك إلا من طريق الاجتهاد وقال تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } ثم لا يخلو المثل المراد بالآية من أن يكون القيمة أو النظير من النعم على حسب اختلاف الفقهاء فيه وأيهما كان فهو موكول إلى اجتهاد العدلين وكذلك أروش الجنايات التي لم يرد في مقاديرها نص ولا اتفاق ولا تعرف إلا من طريق الاجتهاد ونظائرها في الأصول أكثر من أن تحصى وإنما ذكرنا منها مثالا يستدل به على نظائره فسمى أصحابنا هذا الضرب من الاجتهاد استحسانا وليس في هذا المعنى خلاف بين الفقهاء ولا يمكن أحدا منهم القول بخلافه وأما المعنى الآخر من ضربي الاستحسان فهو ترك القياس إلى ما هو أولى منه وذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون فرع يتجاذبه أصلان يأخذ الشبه من كل واحد منهما فيجب إلحاقه بأحدهما دون الآخر لدلالة توجبه فسموا ذلك استحسانا اذ لو لم يعرض شبه للوجه الثاني لكان له شبه من الأصل الآخر فيجب إلحاقه به وأغمض ما يجيء من مسائل الفروع وأدقها مسلكا ما كان من هذا القبيل ووقف هذا الموقف لأنه محتاج في ترجيح أحد الوجهين على الآخر إلى إنعام النظر واستعمال الفكر والروية في إلحاقه بأحد الأصلين دون الآخر فنظير الفرع الذي يتجاذبه أصلان فيلحق بأحدهما دون الآخر ما قال أصحابنا في الرجل يقول لامرأته : إذا حضت فأنت طالق فتقول : قد حضت : إن القياس أن لا تصدق حتى يعلم وجود الحيض منها أو يصدقها الزوج إلا أنا نستحسن فنوقع الطلاق . قال محمد : وقد ندخل في هذا الاستحسان بعض القياس قال أبو بكر : أما قوله : إن القياس أن لا تصدق فإن وجهه أنه قد ثبت بأصل متفق عليه إن المرأة لا تصدق في مثله في إيقاع الطلاق عليها وهو : الرجل يقول لامراته : إن دخلت الدار فأنت طالق وإن كلمت زيدا فأنت طالق فقالت بعد ذلك : قد دخلتها بعد اليمين أو كلمت زيدا وكذبها الزوج إنها لا تصدق ولا تطلق حتى يعلم ذلك ببينة أو بإقرار الزوج فكان قياس هذا الأصل يوجب أن لا تصدق في وجود الحيض الذي جعله الزوج شرطا لإيقاع الطلاق وكما أنه لو قال لها : إذا حضت فإن عبدي حر أو قال فامرأتي الأخرى طالق فقالت : حضت وكذبها الزوج لم يعتق العبد ولم تطلق المرأة الأخرى فقد أخذت هذه الحادثة شبها من هذه الأصول التي ذكرنا فلو لم يكن لهذه الحادثة غير هذه الأصول لكان سبيلها أن تلحق بها ويحكم لها بحكمها إلا أنه قد عرض لها أصل آخر منع إلحاقها بالأصل الذي ذكرنا وأوجب إلحاقها بالأصل الثاني وهو أن الله تعالى لما قال : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } وروي عن السلف أنه أراد : من الحيض والحبل .
وعن أبي بن كعب أنه قال : " من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها " دل وعظه إياها ونهيه لها عن الكتمان على قبول قولها في براءة رحمها من الحبل وشغلها به ووجود الحيض وعدمه كما قال تعالى في الذي عليه الدين : { فليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا } فوعظه ونهاه عن البخس والنقصان علم أن المرجع إلى قوله في مقدار الدين فصارت الآية التي قدمنا أصلا في قبول قول المرأة إذا قالت : أنا حائض وتحريم وطئها في هذه الحال فإنها إذا قالت : قد طهرت حل لزوجها قربها وكذلك إذا قالت وهي معتدة : قد انقضت عدتي صدقت في ذلك وانقطعت رجعة الزوج عنها وانقطاع الزوجية بينهما . وكان المعنى في ذلك أن انقضاء العدة بالحيض معنى يخصها ولا يعلم إلا من جهتها فيوجب على ذلك إذا قال الزوج : إذا حضت فأنت طالق فقد قالت : قد حضت أن تصدق في باب وقوع الطلاق عليها كما صدقت في انقضاء العدة مع إنكار الزوج لأن ذلك معنى يخصها أعني أن الحيض لا يعلم وجوده إلا من جهتها ولا يطلع عليه غيرها ولأجل ذلك أنها لا تصدق على وجود الحيض إذا علق به طلاق غيرها أو علق به عتق العبد لأنه إنما جعل قولها كالبينة في الأحكام التي تخصها دون غيرها ألا ترى أنهم قالوا : إن الزوج لو قال : قد أخبرتني أن عدتها انقضت وأن أريد أن أتزوج أختها كان له ذلك ولا تصدق هي على بقاء العدة في حق غيرها وتكون عدتها باقية في حقها ولا تسقط نفقتها فصار كقولها : قد حضت وله حكمان : أحدهما : فيما يخصها ويتعلق بها . وانقضاء عدتها وما جرى مجرى ذلك فيجل قوله فيه كالبينة والآخر : في طلاق غيرها أو عتق العبد فصارت في هذه الحال شاهدة كإخبارها بدخول الدار وكلام زيد إذا علق به العتق أو الطلاق اه .
ثم ضرب أبو بكر الرازي أمثالا كثيرة مما يكون فيه لقولها حكمان من الوجهين وأجاد في ذكر النظائر إلى أن أتى دور الكلام في القسم الآخر من الاستحسان وهو تخصيص الحكم مع وجود العلة وشرحه شرحا ينثلج به الصدر ولا يدع شكا لمرتاب في أن هذا القسم من الاستحسان مقرون أيضا في جميع الفروع بدلالة ناهضة من نص . أو إجماع . أو قياس آخر يوجب حكما سواه في الحادثة وهذا القدر يكفي في لفت النظر إلى أن قول الخصوم في الاستحسان بعيد عن الوجاهة .
شروط قبول الأخبار