عمومه الملائكة والمسخر له أفضل من المسخر ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب فكانت عبادتهم أشق وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين والقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك الا بالاعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك الا الثابت على دينه ولا يتم ذلك الا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة واما أدلة الآخرين فقد قيل ان حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم والمراد بهم الملائكة حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلّم ذكرهم الله في ملأ خير منهم وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال ان يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فانهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية انما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خيرا من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت انه مبتكر ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال ان الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فانما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله هو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله ومنك ومن نوح وإبراهيم فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وبالغ الزمخشري فادعى ان دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى ولا الملائكة المقربون أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل واسرافيل قال ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث أن الكلام انما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح فقيل لهم لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وانما هو بحسب المقام وذلك ان كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا يتكبر والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات واحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة فان كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم ان الملائكة أفضل من الأنبياء وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي ان يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة فاريد بالعطف المبالغة