وجملة ( له الحكم وإليه ترجعون ) تذييل فلذلك كانت مفصولة عما قبلها . وتقديم المجرور باللام لإفادة الحصر والمحصور فيه هو الحكم الأتم أي الذي لا يرده راد .
والرجوع مستعمل في معنى : آخر الكون على وجه الاستعارة لأن حقيقته الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق وهو البعث بعد الموت ؛ شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله ووجه الشبه هو الاستقرار والخلود فهو مراد منه طول الإقامة .
وتقديم المجرور ب ( إلى ) للاهتمام بالخبر لأن المشركين نفوا الرجوع من أصله ولم يقولوا بالشركة في ذلك حتى يكون التقديم للتخصيص .
والمقصود من تعدد هذه الجمل إثبات أن الله منفرد بالإلهية في ذاته وهو مدلول جملة ( لا إله إلا هو ) . وذلك أيضا يدل على صفة القدم لأنه لما انتفى جنس الإلهية عن غيره تعالى تعين أنه لم يوجده غيره فثبت له القدم الأزلي وأن الله تعالى باق لا يعتريه العدم لاستحالة عدم القديم وذلك مدلول ( كل شيء هالك إلا وجهه ) وأنه تعالى منفرد في أفعاله بالتصرف المطلق الذي لا يرده غيره فيتضمن ذلك إثبات الإرادة والقدرة . وفي كل هذا رد على المشركين الذين جوزوا شركته في الإلهية وأشركوا معه آلهتهم في التصرف بالشفاعة والغوث .
ثم أبطل إنكارهم البعث بقوله ( وإليه ترجعون ) .
بسم الله الحمن الرحيم .
سورة العنكبوت .
اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله A لما رواه عكرمة قال : كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى ( إنا كفيناك المستهزئين ) يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) في سورة البقرة .
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) .
وهي مكية كلها في قول الجمهور ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة وقيل بعضها مدني . روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله ( وليعلمن الكاذبين ) نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي A من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم .
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) إلى قوله ( وليعلمن المنافقين ) نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي .
وفي أسباب النزول للواحدي : عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين . وعن علي ابن أبي طالب أن السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة . وقيل : إن آية ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها .
وقال في الإتقان : ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي A أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) .
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين . وسورة المطففين آخر السور المكية . ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة .
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين