فصل هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد .
هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله A وصفهم : .
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قولبهم لأن الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم وما تقدم أيضا من قوله E : [ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] إلى آخره .
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر Bه ذات يوم فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس Bهما فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا وقال سعيد : فيكون لكل قوم رأي فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره علي فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه .
وما قاله ابن عباس Bهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادىء الرأي أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا .
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين فسر سعيد بن جبير من ذلك فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ويقرنون معها : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك فهؤلاء مشركون خرجوا على الأمة يقتلون ما يرونه مخالفا لهم لأنهم يتأولون هذه الآية فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس وهو الناشىء عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .
فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم عنه في واسطة بين طرفين فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما فلم تفعل بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير وهو الاختلاف في الفروع .
فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا أما الجهة الأخرى فإن عدم ذكرهم في هذه الآمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة ولا أخبر الشارع به ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها كذلك لا نقول : اختلفت الأمة وافترقت الأمة بعد اتفاقها أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة ولذلك [ قال رسول الله A في الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ثم قال : [ وتتمارى في الفوق ] وفي رواية : .
[ فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم شيء ] و [ التمارى في الفوق ] فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة ؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا .
وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع علي Bه في الخوارج ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم علي ولا قاتلهم ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله E : .
[ من بدل دينه فاقتلوه ] ولأن أبا بكر Bه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين .
وأيضا فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي Bه ولم يعاملهم معاملة المرتدين .
ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا وهو كفر وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه مبتع للدليل يمثله لا يقال : إنه صاحب هوى بإطلاق بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة .
وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد وهو الانتساب إلى الشريعة ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟ .
وأيضا فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده كما رجع من الحرورية الخارجين على علي Bه ألفان وإن كان الغالب عدم الرجوع كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة .
حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس Bهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين ! إن القوم خارجون عليك قال : دعهم حتى يخرجوا فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين ! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهو قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرخصة فقالوا : ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه الحلة عليك ؟ ـ قال ـ قلت : ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول الله A وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ثم قرأت هذه الآية : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فقالوا : ما جاء بك ؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله A وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم رسول الله A وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : { بل هم قوم خصمون } فقال بعضهم : بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا : ثلاثا فقلت : ما هن ؟ قالوا : حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : { إن الحكم إلا لله } ـ قال ـ هذه واحدة ماذا أيضا ؟ قالوا : فإنه قاتل فلم سب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم ـ قال ـ قلت : وماذا أيضا ؟ قالوا : ومحا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن امير المؤمنين فهو أمير الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا أترجعون ؟ قالوا : وما لنا لا نرجع ؟ .
قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } وقال في المرأة وزوجها : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فناشدتكم الله ! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم ؟ وفي بضع امرأة ؟ قالوا : بلى ! هذا أفضل : قال : أخرجتم من هذه ؟ قالوا : نعم ! .
قال وأما قولكم : قاتل ولم سب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم فأنتم ترددون بين ضلالتين اخرجتم من هذه ؟ قالوا : بلى ! .
قال : وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون [ إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله A : اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون ]