149 - ـ فصل : إدخر المال و إستغن عن الناس .
حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال فرأيت العلماء أذل الناس عندهم فالعلماء يتواضعون لهم و يذلون لموضع طمعهم فيهم و هم لا يحلفون بهم لما يعلمونه من إحتياجهم إليهم .
فرأيت هذا عيبا في الفريقين .
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم و لكن لجهلهم بقدره فاتهم و آثروا عليه كسب الأموال فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون و لا يعلمون قدره .
و إنما أعود باللوم على العلماء و أقول : ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال و إن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم و الطلب منهم حراما عليكم و إن كنتم في كفاف فلم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف و العزوف عن الفضول فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام .
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى و يبالغ في الكسب و إن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم فإنه يصون بعرضه عرضه .
و قد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت و خلف مالا .
و خلف سفيان الثوري مالا و قال : [ لولاك لتمندلوا بي ] .
و قد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال و من كان من الصحابة و العلماء يقتنيه و السر في فعلهم ذلك .
و حثى طالبي العلم على ذلك ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف و لا تصبر على دوام التزهد .
و كم رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده ثم ضعفت فعاد يكتسب من أقبح وجه .
فالأولى إدخار المال و الاستغناء عن الناس ليخرج الطمع من القلب و يصفو نشر العلم من شائبة ميل .
و من تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة .
و إنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لم يؤثر عنده بذل الدين و الوجه فطلب الراحة و نسى أنها في المعنى عناء كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم و ادعاء التوكل و ما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل و إنما طلبوا طريق الراحة و جعلوا التعرض للناس كسبا و هذه طريقة مركبة من شيئين : أحدهما : قلة الأنفة على العرض الثاني : قلة العلم