285 - فصل : شر البلاء عشق المال .
سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض و المتوسط منهم يندر .
منهم من يغضب فيقتل و يضرب .
و منهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب .
و منهم شره يتناول كل ما يشتهي .
و منهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها .
و كذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط .
فالمنفق كل ما يجد مبذر و البخيل يخبىء المال و يمنع نفسه حظها .
و معلوم أن المال لا يراد لنفسه بل للمصالح فإذا بذر الإنسان فيه إحتاج إلى بذل و جهه و دينه و منه البخلاء عليه و هذا لا يصلح .
و لأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه .
و من الناس من يبخل ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال .
فربما مات أحدهم هزالا و هو لا ينفقه فيأخذه الغير و يندم المخلف .
و لقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد ذكرته لتعتبر به .
فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر عن شيخه عبد المحسن الصوري قال : [ كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين و جوزة فيدخل إلى غرفته و قت المغرب فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزل ثوبه .
و في زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين و يأكلهما .
فبقي على هذا مدة فمات فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفا ] .
و رأيت أن رجلا من كبار العلماء قد مرض فاستلقى عند بعض أصدقائه ليس له من يخدمه و لا يرافقه و هو مضر فلما مات و جدوا بين كتبه خمسمائة دينار .
و حدثني أبو الحسن الراندسي قال : [ مرض رجل عندنا فبعث إلي فحضرت فقال : قد : ختم القاضي على مالي فقلت : إن شئت قمت و فتحت الختم و أعطيتك الثلث تفرقة و تعمل به ما تشاء .
فقال : لا و الله ما أريد أن أفرقه بل أريد مالي أن يكون عندي فقلت : ما يعطونك بلى أنا آخذ لك الثلث كي تكون حرا فيه .
فقال : لا أريد فمات و أخذ ماله ] .
قال : [ وجاء رجل فحدثني بعجيبة قال : مرضت حماتي فقالت لي : أريد أن تشتري لي خبيصا فإشتريت لها و كانت ملقاة في صفة و نحن في صفة أخرى .
فجاءني ولدي الصغير و قال : يا سيدي إنها تبلع الذهب فقمت و إذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه .
فأمسكت يدها و زجرتها عن هذا .
فقالت : أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي فقلت : ما أفعل فقالت إحلف لي فحلفت فأعطتني باقي الذهب ثم ماتت فدفنتها .
فلما كان بعد أشهر مات لنا طفل فحملناه إليها و أخذت معي خرقة خام و قلت للحفار : إجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة فجئت بها إلى البيت و تركتها في أجانة و صببت عليها الماء و حركتها فأخرت ثمانين دينارا أو نحوها كانت قد إبتلعتها ] .
و حكى لي صديق لنا أن رجلا مات و دفن في الدار ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة .
فسأل أهله عنها فقالوا : هو قير هذه اللبنة و أوصى أن تترك تحت رأسه في قبره و قال : إن اللبن يبلى سريعا و هذه لموضع القار لا تبلى .
فأخذوها فوجدوها رزينة فكسروها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات .
و بلغني أن رجلا كان يكنس المساجد و يجمع ترابها ثم ضربه لبنا فقيل له هذا لأي شيء ؟ فقال : هذا تراب مبارك و أريد أن يجعلوه على لحدي فلما مات جعل على لحده ففضل منه لبنات فرموها في البيت فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير .
فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده و كله مملوء دنانير .
و لقد مات بعض أصدقائنا و كنت أعلم أن له مالا كثيرا و طال مرضه فما أطلع أهله علىشيء و لا أكاد أشك أنه من شحه و حرصه على الحياة و رجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه خوفا أن يؤخذ فيحيا هو و قد أخذ المال .
و ما يكون بعد هذا الخزي شيء .
و حدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن قال : [ كان فلان له و لدان ذكران و بنت و له ألف دينار مدفونة .
فمرض مرضا شديدا فاحتوشته أهله فقال لأحد ابنيه : لا تبرح من عندي .
فلما خلا به قال له : إن أخاك مشغول باللعب بالطيور و إن أختك لها زوج تركي و متى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب و أنت على سيتي و أخلاقي ولي في الموضع الفلاني ألف دينار فإذا أنا مت فخذها وحدك فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل فمرض الولد فجعل الأب يتضرع إليه و يقول : ويحك خصصتك بالمال دونهم فتموت فيذهب المال و يحك لا تفعل فما زال به حتى أخبره بمكانه فأخذه ثم عوفي الولد و مضت مدة فمرض الأب فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال و بالغ فلم يخبره و مات و ضاع المال .
فسبحان من أعدم هؤلاء العقول و الفهوم إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلوا سبيلا