29 - ـ فصل : لماذا تكثر الحسنات و السيئات ؟ .
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة و كل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في االآخرة فأما المخلوق منها فقال ابن عباس Bهما : [ ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء ] .
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم و خوف بعذاب من عذاب .
فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل و كذلك كل مذهب ذنبا وهو معنى قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } .
و ربما رأى العاصي سلامة بدنه و ماله فظن أن لا عقوبة و غفلة عما عوقبت به عقوبة .
و قد قال الحكماء : المعصية و الحسنة بعد الحسنه ثواب الحسنه .
و ربما كان العقاب العاجل معنويا كما قال بعض أحبار بني إسرائيل : [ يا رب كم أعصيك و لا تعاقبني ؟ ] فقيل له : [ كم أعاقبك وأنت لا تدري أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟ ] .
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد حتى قال وهب بن الورد و قد سئل : أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال : و لا من هم .
فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته أو لسانه فحرم صفاء قلبه أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك .
و هذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس و على ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلا كما [ في حديث أبي أمامة : عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى : النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] .
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها .
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس و من ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الصبحة تمنع الرزق وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ] .
و قد روى المفسرون : أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولدا و جاء يوسف بأحد عشر بالهمة و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء و فهم كما قال الفضيل : [ إني لأعصي الله D فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي ] .
و عن أبي العثمان النيسابوري : أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة ثم قال : [ ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة ] .
و من عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف { و شروه بثمن بخس } امتدت أكفهم بين يديه بالطلب يقولون : { و تصدق علينا } .
و لما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالا و لما بغت عليه بدعواها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوء } أنطقها الحق بقولها { أنا راودته } .
ولو أن شخصا ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك وكذلك إذا فعل طاعة و في الحديث : [ إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة ] أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة .
و لقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع طلبا للراحة العاجلة انقلبت أحواله إلى التنغص العاجل و عكست عليه المقاصد .
حكى بعض المشايخ : أنه اشترى في زمن شبابه جارية قال : [ فلما ملكتها تاقت نفسي إليها فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقا يرخص لي ] .
فكلهم قال : [ لا يجوز النظر إليها بشهوة و لا لمسها و لا جماعها إلا بعد حيضها ] .
قال : فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت و هي حائض ] فقلت : [ قرب الأمر ] .
فسألت الفقهاء فقالوا : [ لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه ] .
قال : فقلت لنفسي و هي شديدة التوقان لقوة الشهوة و تمكن القدرة و قرب المصاقبة : [ ما تقولين ؟ ] .
فقالت : [ الإيمان بالصبر على الجمر شئت أم أبيت ] .
فصبرت إلى أن حان ذلك فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلى منها وأرفع