33 - ـ فصل : شغل الحياة .
خطر لي خاطر و المجلس قد طيب و القلوب قد حضرت والعيون جارية و الرؤوس مطرقة و النفوس قد ندمت على تفريطها و العزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها و ألسنة اللوم تعمل في الباطن على تضييع الحزم و ترك الحذر فقلت لنفسي : ما بال هذه اليقظة لا تدوم فإني أرى النفس و اليقظة في المجلس متصادقين متصافيين فإذا قمنا عن هذه التربة و قعت الغربة .
فتأمت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة و القلب ما يزال عارفا غير أن القواطع كثيرة و الفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه تعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا و تحصيل حوائج النفوس و القلب منغمس في ذلك و البدن أسير مستخدم .
و بينا الفكر يجول في اجتلاب الطعام و الشراب و الكسوة و ينظر في صدد ذلك و ما يدخر لعده و سنته إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية ـ و منها المني فاحتاج إلى النكاح فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه .
ثم جاء الولد فاهتم به وله و إذا الفكر عامل في أصول الدنيا و فروعها فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائغا و لا حاقنا بل يحضره جائعا لهمه ناسيا ما كان من الدنيا على ذكره فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما ألف و بجذبه بما عرف فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه فيحضرون النفس إلى باب المطالبة بالتفريط و يؤاخذون الحس بما مضى من العيوب فتجري عيون الندم و تنعقد عزائم الاستدراك .
و لو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها لتشاغلت بخدمة باريها .
و لو وقعت في سورة حبه لاستوحشت عن الكل شغلا بقربه .
و لهذا سكن الزهاد الخلوات و تشاغلوا بقطع المعوقات و على قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم كما أن الحصاد على مقدار البذر .
غير أن تلمحت في هذه الحالة ـ دقيقة ـ و هو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها و هو العجب بحالها و الاحتقار لجنسها .
و ربما ترقت بقوة علمها و عرفانها إلى دعوى قولها : لي و عندي و أستحق فتركها في حومة ذنوبها تتخبط .
فإذا وقفت على الشاطئ قامت بحق ذلة العبودية و ذلك أولى لها .
هذا حكم الغالب من الخلق و لذلك شغلوا عن هذا المقام فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح عبوديته و تسلم له عبادته .
و إلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح : [ لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ]