الكبيرة الستون : الجدل و المراء و اللدد .
قال الله تعالى : { و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام * و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد } .
و مما يذم من الألفاظ : المراء و الجدال و الخصومة .
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي C : المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله و إظهار مزيتك عليه و قال : و أما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب و تقريرها قال : و أما الخصومة فلجاج في الكلام ليستوفي به مقصودا من مال غيره و تارة يكون ابتداء و تارة يكون اعتراضا و المراء لا يكون إلا اعتراضا هذا كلام الغزالي .
و قال النووي C : اعلم أن الجدال قد يكون بحق و قد يكون بباطل قال الله تعالى : { و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } و قال الله تعالى : { و جادلهم بالتي هي أحسن } و قال الله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } قال : فإن كان الجدال للوقوف على الحق و تقريره كان محمودا و إن كان في مدافعة الحق أو كان جدالا بغير علم كان مذموما و على هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته و ذمه و المجادلة و الجدال بمعنى واحد قال بعضهم : ما رأيت شيئا أذهب للدين و لا أنقص للمروءة و لا أشغل للقلب من الخصومة .
( فإن قلت ) لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه ( فالجواب ) ما أجاب به الغزالي C : اعلم أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل و بغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم .
و يدخل في الذم أيضا من يطلب حقه لأنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد و الكذب و الإيذاء و التسليط على خصمه كذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي و ليس له إليها حاجة في تحصيل حقه كذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم و كسره فهذا هو المذموم .
و أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد و إسراف و زيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد و لا إيذاء ففعل هذا ليس حراما و لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الإعتدال متعذر و الخصومة توغر الصدور و تهيج الغضب و إذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر و يحزن لمسرته و يطلق لسانه في عرضه فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات و أقل ما فيها اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته و خاطره متعلق بالمحاججة و الخصومة فلا تبقى حاله على الإستقامة و الخصومة مبدأ الشر و كذا الجدال و المراء فينبغي للإنسان ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها .
روينا في كتاب للترمذي [ عن ابن عباس Bهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما ] .
و جاء عن علي Bه قال : إن الخصومة لها قحم قلت القحم بضم القاف و فتح الحاء المهملة و هي : المهالك .
( فصل ) [ عن أبي هريرة Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط حتى ينزع ] .
و [ عن أبي أمامة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدال ثم تلا { ما ضربوه لك إلا جدلا } الآية ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : [ أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم و جدال منافق في القرآن و دنيا تقطع أعناقكم ] رواه ابن عمر .
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المراء في القرآن كفر ] .
( فصل ) : يكره التغيير في الكلام بالتشدق و تكلف السجع بالفصاحة بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون فكل ذلك من التكلف المذموم بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه جليا و لا يثقله .
روينا في كتاب الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص Bهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة ] قال الترمذي : حديث حسن و روينا فيه أيضا [ عن جابر Bه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارون و المتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون ] قال الترمذي حديث حسن قال : و الثرثار هو كثير الكلام و المتشدق من يتطاول على الناس في الكلام و يبذو عليهم .
و اعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب و المواعظ إذا لم يكن فيها إفراط و أغراب إلا أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى و لحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر و الله أعلم