أقسام أهل الذكر .
فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام : .
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر و لا يزداد هدى و لا يرتدع عن ردىء و هؤلاء أشر الأقسام و يكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم و هؤلاء الظالمين لأنفسهم : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون } .
و منهم من ينتفع بما سمعه و هم على أقسام : فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات و يوجب له التزام الواجبات و هؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين و منهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات و التورع عن دقائق المكروهات و يشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات و هؤلاء السابقون المقربون .
و ينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس و الغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام : فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله و جلاله و كبريائه و وعده و وعيده و ثوابه و عقابه و هذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه و سلم و خشوا لكمال معرفتهم و شدة خوفهم أن يكون نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه و سلم أنه ليس نفاق و في صحيح مسلم [ عن حنظلة أنه قال : يا رسول الله نافق حنظلة قال : و ما ذاك قال : نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنها رأي عين فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج و الضيعة و نسينا كثيرا فقال : لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم و في طرقكم و لكن يا حنظلة ساعة و ساعة ] و في رواية له أيضا : [ لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق ] و معنى هذا : أن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدا و لا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانا و إن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة و لكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك بل يلوم نفسه عليه و يحزنه ذلك من نفسه العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا و يحن إلى زمان القرب و الوصال في حال الجفا .
( ما أكدر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد جفا ) .
( و اها لزماننا الذي كان صفا ... هل يرجع بعد فوته وا أسفا ) .
و قسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازما لهم و هؤلاء على قسمين : أحدهما : من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم و لا القيام بوفاء حقوقهم و كان كثير من السلف على هذه الحال فمنهم من كان لا يضحك أبدا و منهم من كان يقول : لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد و الثاني : من يستحضر ذكر الله و عظمته و ثوابه و عقابه بقلبه و يدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال و القيام على العيال و يخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه كتعلم العلم و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هؤلاء أشرف القسمين و هم خلفاء الرسل و هم الذين قال فيهم علي Bه : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمجل الأعلى .
و قد كان حال النبي صلى الله عليه و سلم عند الذكر يتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس و القيام بحقوقهم ففي مسند البزار و معجم الطبراني [ عن جابر Bه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي قلت : نذير قوم فإذا سري عنه فأكثر الناس ضحكا و أحسنهم خلقا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن علي أو الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه و كأنه نذير جيش يصحبهم الأمر غدوة و كان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه ] و في صحيح مسلم [ عن جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا خطب و ذكر الساعة اشتد غضبه و علا صوته منذر جيش يقول صبحكم و مساكم ] و في الصحيحين [ عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اتقوا النار و أشاح ثم قال : اتقوا النار ثم أعرض و أشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال : اتقوا النار و لو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ] و سئلت عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خلا مع نسائه ؟ قالت : [ كان كرجل من رجالكم إلا أنه : كان أكرم الناس و أحسن الناس خلقا و كان ضحاكا بساما ] فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله بقلوبهم و عاشروا الخلق بأبدانهم كما قالت رابعة : .
( و لقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... و أبحت جسمي من أراد جلوسي ) .
( فالجسم مني للجليس مؤانس ... و حبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ) .
المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن و الضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثر في حال وجوده لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته و ضعفه فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة و الوقار .
فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة أفضل الصدقة : تعليم جاهل أو إيقاظ غافل ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الوعظة ليستيقظ المواعظ كالسياط تقع على نياط القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح و من زاد ألمه فمات فدمه مباح .
( قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... و لكن دماء العاشقين جبار ) .
و عظ عبد الواحد بن زيد يوما فصاح به رجل : يا أبا عبيدة كف فقد كشفت بالموعظة قناع قلبي فأتم عبد الواحد موعظته فمات الرجل صاح رجل في حلقة الشبلي فمات فاستعدى أهله على الشبلي إلى الخليفة فقال الشبلي : نفس رقت فحنت فدعيت فأجابت فما ذنب الشبلي .
( فكر في أفعاله ثم صاح ... لا خير في الحب بغير افتضاح ) .
( قد جئتكم مستأمنا فارحموا ... لا تقتلوني قد رميت السلاح ) .
إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينقع تأديبه بالضرب كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها و كانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا و هم لا يعدون الدنيا شيئا و كان سفيان الثوري يتعزى بمجالسه عن الدنيا و كان أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه و لا تذكر عنده قال بعضهم : لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى قال بعض السلف : إن العالم إذا لم يرد بموعظة وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه : .
( مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها قلبه أولا ) .
( يا قوم من أظلم من واعظ ... قد خالف ما قاله في الملا ) .
( أظهر بين الناس إحسانه ... و بارز الرحمن لما خلا ) .
العالم الذي لا يعمل بعلمه كمثل المصباح يضيء للناس و يحرق نفسه قال أبو العتاهية : .
( وبخت غيرك بالعمى فأفدته ... بصرا و أنت محسن لعماك ) .
( و فتيلة المصباح تحرق نفسها ... و تضيء للأعشى و أنت كذاك ) .
المواعظ ذرياق الذنوب : فلا ينبغي أن يسقي الذرياق إلا طبيب حاذق معافى فأما لذيع الهوى فهو إلى شرب الذرياق أحوج من أن يسقيه لغيره في بعض الكتب السالفة : إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك فإن اتعظت و إلا فاستحي مني : .
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم ) .
( يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ) .
( فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم ) .
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم ) .
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ) .
لما جلس عبد الواحد بن زيد للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته : .
( يا واعظا قام لاحتساب ... يزجر قوما عن الذنوب ) .
( تنهى و أنت المريب حقا ... هذا من المنكر العجيب ) .
( لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت من قريب ) .
( كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب ) .
( تنهى عن الغي و التمادي ... و أنت في النهي كالمريب ) .
لما حاسب المتقون أنفسهم خافوا من عاقبة الوعظ و التذكير قال رجل لابن عباس : أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر فقال له ابن عباس : إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل و إلا فابدأ بنفسك ثم تلا : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم } و قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام : { و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال النخعي كانوا يكرهون القصص لهذه الآيات الثلاث قيل لمطرف : ألا تعظ أصحابك ؟ قال : أكره أن أقول ما لا أفعل تقدم بعض التابعين ليصلي بالناس إماما فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف و قال : استووا فغشي عليه فسئل عن سبب ذلك فقال : لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين .
( ما كل من وصف الدوا يستعمله ... و لا كل من وصف التقى ذو تقى ) .
( وصفت التقى حتى كأني ذو تقى ... و ريح الخطايا من ثيابي تعبق ) .
و مع هذا كله فلا بد للإنسان من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الوعظ .
و التذكير و لو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده : .
( لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب ... فمن يعظ العاصين بعد محمد ) .
و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كله و انهوا عن المنكر و إن لم تتناهوا عنه كله ] و قيل للحسن : إن فلانا لا يعظ و يقول : أخاف أن أقول مالا أفعل فقال الحسن : و أينا يفعل ما يقول ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر و قال مالك عن ربيعة : قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف و لا نهى عن منكر قال مالك : و صدق و من ذا الذي ليس فيه شيء : .
( من ذا الذي ما ساء قط ... و من له الحسنى فقط ) .
خطب عمر بن عبد العزيز C يوما فقال في موعظته : إني لأقول هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي فاستغفر الله و أتوب إليه و كتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه و قال في آخره : و إني لأعظك بهذا و إني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري و لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الخير و إذا لرفع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إذا لاستحلت المحارم و قل الواعظون و الساعون لله بالنصيحة في الأرض و الشيطان و أعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف و لا ينهى عن منكر و إذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه و بما ليس فيه كما قيل : .
( و أعلنت الفواحش في البوادي ... و صار الناس أعوان المريب ) .
( إذا ما عبتم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب ) .
( و ودوا لو كففنا فاستوينا ... فصار الناس كالشيء المشوب ) .
( و كنا نستطب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب ) .
و كان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ فجلس يوما فنظر إلى من حوله و هم خلق كثير و ما منهم إلا من قد رق قلبه أو دمعت عينه فقال لنفسه فيما بينه و بينها : كيف بك إن نجا هؤلاء و هلكت أنت ثم قال في نفسه : اللهم إن قضيت علي غدا بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي لئلا يقال : عذب من كان في الدنيا يدل عليه إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و سلم : اقتل ابن أبي المنافق فقال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] فامتنع من عقابه لما كان في الظاهر ينسب إليه و أنا على كل حال فإليك أنسب زور رجل شفاعة إلى بعض الملوك على لسان بعض أكابر الدولة فاطلع المزور عليه على الحال فسعى عند الملك في قضاء تلك الحاجة و اجتهد حتى قضيت ثم قال للمزور عليه : ما كنا نخيب من علق أمله بنا و رجى النفع من جهتنا إلهي فأنت أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين فلا تخيب من علق أمله و رجاءه بك و انتسب إليك و دعا عبادك إلى بابك و إن كان متطفلا على كرمك و لم يكن أهلا للسمسرة بينك و بين عبادك لكنه طمع في سعة جودك و كرمك فأنت أهل الجود و الكرم و ربما استحيا الكريم من رد من تطفل على سماط كرمه .
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم صفح عن الذنب ) .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم ] و خرجه مسلم من وجه آخر [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم لجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم ] و في [ حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون ثم يغفر لهم ] و في رواية له أيضا : [ لو لم يكن لكم ذنوب يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوب فيغفر لهم ] و المراد بهذا : أن لله تعالى حكمة في إلقاء الغفلة على قلوب عباده أحيانا حتى تقع منهم بعض الذنوب فإنه لو استمرت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذكر لما وقع منهم ذنب