ذكر ما يتعلق برجب من أحكام .
و يتعلق بشهر رجب أحكام كثيرة فمنها ما كان في الجاهلية و اختلف العلماء في استمراره في الإسلام كالقتال و قد سبق ذكره و كالذبائح فإنهم كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة و اختلف العلماء في حكمها في الإسلام فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها و في الصحيحين [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا فرع و لا عتيرة ] و منهم من قال : بل هي مستحبة منهم ابن سيرين و حكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة و رجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين و نقل حنبل عن أحمد نحوه و في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة [ عن خنف بن سليم الغامدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال بعرفة : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية أو عتيرة ] و هي التي يسمونها الرجبية و في النسائي [ عن نبيشة أنهم قالوا : يا رسول الله إنا كنا نعتر في الجاهلية يعني في رجب ؟ قال : اذبحوا لله في أي شهر كان و بروا لله و أطعموا ] و روى الحرث بن عمرو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الفرع و العتائر ؟ فقال : من شاء فرع و من شاء لم يفرع و من شاء عتر و من شاء لم يعتر ] و في حديث آخر قال : [ العتيرة حق ] و في النسائي [ عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كنا نذبح ذبائح في الجاهلية يعني في رجب فنأكل و نطعم من جاءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بأس به ] و خرج الطبراني بإسناده [ عن ابن عباس قال : استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم في العتيرة ؟ فقال : اعتر كعتر الجاهلية و لكن من أحب منكم أن يذبح لله فيأكل و يتصدق فليفعل ] وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث و بين حديث : [ لا فرع و لا عتيرة ] بأن المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح لغير الله و حمله سفيان بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب و من العلماء من قال : حديث أبي هريرة أصح من هذه الأحاديث و أثبت فيكون العمل عليها دونها و هذه طريقة الإمام أحمد و روى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : ليس في الإسلام عتيرة إنما كانت العتيرة في الجاهلية كان أحدهم يصوم رجب و يعتر فيه و يشبه الذبح في رجب اتخاذه موسما و عيدا كأكل الحلوى و نحوها و قد روي عن ابن عباس Bهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيدا و روى عبد الرزاق [ عن ابن جريج عن عطاء قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيدا ] و [ عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تتخذوا شهرا عيدا و لا يوما عيدا ] و أصل هذا : أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيدا و هو يوم الفطر و يوم الأضحى و أيام التشريق و هي أعياد العام و يوم الجمعة و هو عيد الأسبوع و ما عدا ذلك فاتخاذه عيدا و موسما بدعة لا أصل له في الشريعة .
و من أحكام رجب ما ورد فيه من الصلاة و الزكاة و الصيام و الإعتمار فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به و الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و باطل لا تصح و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء و من ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري و أبو بكر بن السمعاني و أبو الفضل بن ناصر و أبو الفرج بن الجوزي و غيرهم إنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم و أول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون و لم يتكلموا فيها و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و لكن روي عن أبي قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب قال البيهقي : أبو قلابة من كبار التابعين لا يقول مثله إلا عن بلاغ و إنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها [ حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : صم من الحرم و اترك قالها ثلاثا ] خرجه أبو داود و غيره و خرجه ابن ماجة و عنده : [ صم أشهر الحرم ] و قد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلها منهم ابن عمر و الحسن البصري و أبو اسحاق السبيعي و قال الثوري : الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها و جاء في حديث خرجه ابن ماجة [ أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : صم شوالا ] فترك أشهر الحرم و صام شوالا حتى مات و في إسناده انقطاع و خرج ابن ماجة أيضا بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صيام رجب ] و الصحيح وقفه على ابن عباس و رواه عطاء عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا و قد سبق لفظه و روى عبد الرزاق في كتابه [ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم : ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم قوم يصومون رجبا فقال : أين هم من شعبان ] و روى أزهر بن سعيد الجمحي عن أمه أنها سألت عائشة عن صوم رجب فقالت : إن كنت صائمة فعليك بشعبان و روي مرفوعا و وقفه أصح و روي عن عمر Bه : أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام و يقول : ما رجب ؟ إن رجبا كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك و في رواية كره أن يكون صيامه سنة و عن أبي بكرة : أنه رأى أهله يتهيأون لصيام رجب فقال لهم أجعلتم رجب كرمضان و ألقى السلال و كسر الكيزان .
و عن ابن عباس : أنه كره أن يصام رجب كله و عن ابن عمر و ابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما و كرهه أنس أيضا و سعيد بن جبير و كره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري و الإمام أحمد و قال : يفطر منه يوما أو يومين و حكاه عن ابن عمر و ابن عباس و قال الشافعي في القديم : أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان و احتج بحديث عائشة : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل شهرا قط إلا رمضان ] قال : و كذلك يوما من بين الأيام و قال : إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب و إن فعل فحسن و تزول كراهة إفراد رجب بالصوم بأن يصوم معه شهر آخر تطوعا عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب و شعبان و قد تقدم عن ابن عمر و غيره صيام الأشهر الحرم و المنصوص عن أحمد أنه .
لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر و روي عن ابن عمر ما يدل عليه فإنه بلغه أن قوما أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب فقال : كيف بمن يصوم الدهر و هذا يدل على : أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر و روى يوسف بن عطية [ عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصم بعد رمضان إلا رجبا و شعبان ] .
و يوسف ضعيف جدا و روى أبو يوسف القاضي [ عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه في رجب و شعبان ] ورواه عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى فلم يذكر فيه رجبا و هو أصح .
و أما الزكاة فقد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب و لا أصل لذلك في السنة و لا عرف عن أحد من السلف و لكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر فقال : إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه و ليزك ما بقي خرجه مالك في الموطأ و قد قيل : إن ذلك الشهر الذي كانوا يخرجون فيه زكاتهم نسي و لم يعرف و قيل : بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول و قد ذكر الفقهاء من أصحابنا و غيرهم أن الإمام يبعث سعاته لأخذ الزكاة في المحرم و قيل بل كان شهر رمضان لفضله و فضل الصدقة فيه و بكل حال فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب فكل أحد له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان فإن عجل زكاته قبل الحول أجزأه عند جمهور العلماء و سواء كان تعجيله لاغتنام زمان فاضل أو لاغتنام الصدقة على من لا يجد مثله في الحاجة أو كان لمشقة إخراج الزكاة عليه عند تمام الحول جملة فيكون التفريق في طول الحول أرفق به و قد صرح مجاهد بجواز التعجيل على هذا الوجه و هو مقتضى إطلاق الأكثرين و خالف في هذه الصورة اسحاق نقله عنه ابن منصور و أما إذا حال الحول فليس له التأخير بعد ذلك عند الأكثرين و عن أحمد يجوز تأخيرها لانتظار قوم لا يجد مثلهم في الحاجة و أجاز مالك و أحمد في رواية نقلها إلى بلد فاضل فعلى قياس هذا لا يبعد جواز تأخيرها إلى زمان فاضل لا يوجد مثله كرمضان و نحوه و روى يزيد الرقاشي عن أنس : أن المسلمين كانوا يخرجون زكاتهم في شعبان تقوية على الإستعداد لرمضان و في الإسناد ضعف .
و أما الإعتمار في رجب فقد [ روى ابن عمر Bهما أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه و هو يسمع فسكت ] و استحب الإعتمار في رجب عمر بن الخطاب و غيره و كانت عائشة تفعله و ابن عمر أيضا و نقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه فإن أفضل الانساك أن يؤتى بالحج في سفرة و العمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحج و ذلك جملة إتمام الحج و العمرة المأمور به كذلك قاله جمهور الصحابة : كعمر و عثمان و علي و غيرهم .
و قد روي : أنه في شهر رجب حوادث عظيمة و لم يصح شيء من ذلك فروي : أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد في أول ليلة منه و أنه بعث في السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و العشرين و لا يصح شيء من ذلك و روى بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد : أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع و عشرين من رجب و انكر ذلك إبراهيم الحربي و غيره و روي عن قيس بن عباد قال : في اليوم العاشر من رجب : { يمحو الله ما يشاء و يثبت } و كان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه على الظالم و كان يستجاب لهم و لهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب مجاب الدعوة و غيره و قد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال عمر : إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض و إن الله جعل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر و روى زائدة بن أبي الرقاد [ عن زياد التميمي عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل رجب قال : اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] و روي عن أبي إسماعيل الأنصاري أنه قال : لم يصح في فضل رجب غير هذا الحديث و في قوله نظر فإن هذا الإسناد فيه ضعف و في هذا الحديث دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا و خير الناس من طال عمره و حسن عمله و كان السلف يستحبون أن يموتوا عقب عمل صالح من صوم رمضان أو رجوع من حج و كان يقال : من مات كذلك غفر له كان بعض العلماء الصالحين قد مرض قبل شهر رجب فقال : إني دعوت الله أن يؤخر وفاتي إلى شهر رجب فإنه بلغني أن لله فيه عتقاء فبلغه الله ذلك و مات في شهر رجب .
شهر رجب مفتاح أشهر الخير و البركة قال أبو بكر الوراق البلخي : شهر رجب شهر للزرع و شعبان شهر السقي للزرع و رمضان شهر حصاد الزرع و عنه قال : مثل شهر رجب مثل الريح و مثل شعبان مثل الغيم و مثل رمضان مثل القطر و قال بعضهم : السنة مثل الشجرة و شهر رجب أيام توريقها و شعبان أيام تفريعها و رمضان أيام قطفها و المؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر و بمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر .
( بيض صحيفتك السوداء في رجب ... بصالح العمل المنجي من اللهب ) .
( شهر حرام أتي من أشهر حرم ... إذا دعا الله داع فيه لم يخب ) .
( طوبى لعبد زكى فيه له عمل ... فكف فيه عن الفحشاء و الريب ) .
انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة و اغتنام أوقاته بالطاعات له فضيلة عظيمة .
( يا عبد أقبل منيبا و اغتنم رجبا ... فإن عفوي عمن تاب قد وجبا ) .
( في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت ... للتائبين فكل نحونا هربا ) .
( حطوا الركائب في أبواب رحمتنا ... بحسن ظن فكل نال ما طلبا ) .
( و قد نثرنا عليهم من تعطفنا ... نثار حسن قبول فاز من نهبا )