الحكمة في النهي عن صيام الدهر .
و قد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه : منها : قوله صلى الله عليه و سلم في صيام الدهر : [ لا صام و لا أفطر ] يعني أنه لا يجد مشقة الصيام و لا فقد الطعام و الشراب و الشهوة لأنه صار الصيام له عادة مألوفة فربما تضرر بتركه فإذا صام تارة و أفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات و في نفسه داعية إليها و ذلك أفضل من أن يتركها و نفسه لا تتوق إليها و منها قوله صلى الله عليه و سلم في حق داود عليه السلام : [ كان يصوم يوما و يفطر يوما و لا يفر إذا لاقى ] يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه و مجاهدته في سبيل الله و لهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأصحابه يوم الفتح و كان في رمضان : [ إن هذا يوم قتال فافطروا ] و كان عمر إذا بعث سرية قال لهم : لا تصوموا فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم .
فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل فالأول : مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي عن صيام الجمعة و يوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر و الدعاء في هذين اليومين و كان ابن مسعود يقل الصوم و يقول : إنه يمنعني من قراءة القرآن و قراءة القرآن أحب إلي فقراءة القرآن أفضل من الصيام نص عليه سفيان الثوري و غيره من الأئمة و كذلك تعلم العلم النافع و تعليمه أفضل من الصيام و قد نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة و الصلاة أفضل من الصيام المتطوع به فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى فإن العلم مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل و الهوى فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب قال ابن سيرين : إن قوما تركوا العلم و اتخذوا محاريب فصلوا و صاموا بغير علم و الله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح و الثاني : مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال أو القيام بحقوق الزوجات فيكون تركه أفضل و إليه الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم : [ إن لأهلك عليك حقا ] .
و منها : ما أشار إليه صلى الله عليه و سلم بقوله : [ إن لنفسك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه ] يشير إلى أن النفس وديعة لله عند ابن آدم و هو مأمور أن يقوم بحقها و من حقها اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل قال الحسن : نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك كما قال معاذ بن جبل : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و من قصر في حقها حتى ضعفت و تضررت كان ظالما و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص : [ إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس و هجمت له العين ] و معنى نفهت : كلت و أعيت و معنى هجمت العين : غارت و قال لأعرابي جاءه فأسلم ثم أتاه من عام قابل و قد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله ؟ قال : [ ما أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و من أمرك أن تعذب نفسك ؟ ! ] فمن عذب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام و نحوه فربما أثر ذلك في ضعف بدنه و عقله فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما حصله بتعذيبه نفسه بالصيام .
و كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يتوسط في إعطاء نفسه حقها و يعدل فيها غاية العدل فيصوم و يفطر و يقوم و ينام و ينكح النساء و يأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء و العسل و لحم الدجاج و تارة يجوع يربط على بطنه الحجر و قال : عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب و لكن أجوع يوما و أشبع يوما فإذا جعت تضرعت إليك و ذكرتك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك ] فاختار لنفسه أفضل الأحوال ليجمع بين مقامي الشكر و الصبر و الرضا و منها ما أشار إليه بقوله صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر : [ و لعله أن يطول بك حياة ] يعني : أن من تكلف الإجتهاد في العبادة فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية فإذا ذهب الشباب و جاء المشيب و الكبر عجز عن حمل ذلك فإن صابره و جاهد و استمر فربما هلك بدنه و إن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى و هو المداومة على العمل و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اكلفوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل ] .
فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره في قوته و ضعفه استقام سيره و من حمل ما لا يطيق فإنه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية و قد يسأم و يضجر فيقطع العمل فيصير كالمنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى و أما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين و الخميس و كذا روي [ عن عائشة Bها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام الإثنين و الخميس ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و حسنه و خرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم الإثنين و الخميس فقيل له : يا رسول الله إنك تصوم الإثنين و الخميس ؟ فقال : إن يوم الإثنين و الخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين فيقول : دعوهما حتى يصطلحا ] و خرجه الإمام أحمد و عنده : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أكثر ما يصوم الإثنين و الخميس فقيل له ؟ : قال : إن الأعمال تعرض كل اثنين و خميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول : أخرهما ] و خرجه الترمذي و لفظه قال : [ تعرض الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و روي موقوفا على أبي هريرة و رجح بعضهم وقفه و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء يقول : انظروا هذين حتى يصطلحا ] و يروى بإسناد فيه ضعف [ عن أبي أمامة مرفوعا ترفع الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد بحقدهم ] و روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير و شر حتى أنه ليكتب قوله : أكلت و شربت و ذهبت و جئت و رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله و عمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر و ألقى سائره فذلك قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } خرجه ابن أبي حاتم و غيره فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره و كان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز و جل فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض دائم بكرة و عشيا و يدل على ذلك ما في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر فيسأل الذين باتوا فيكم و هو أعلم : كيف تركتم عبادي فيقولون : أتيناهم و هم يصلون و تركناهم و هم يصلون ] و في صحيح مسلم [ عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام و لا ينبغي له أن ينام يخفض القسط و يرفعه يرفع الله عمل الليل قبل النهار و عمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ] و يروى عن ابن مسعود قال : إن مقدار كل يوم من أيامكم عند ربكم اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات و ذكر باقيه كان الضحاك يبكي آخر النهار و يقول : لا أدري ما رفع من عملي يا من عمله معروض على من يعلم السر و أخفى لا تبهرج فإن الناقد بصير .
( السقم على الجسم له ترداد ... و العمر ينقص و الذنوب تزاد ) .
( ما أبعد شقتي و مالي زاد ... ما أكثر بهرجي و لي نقاد ) .
و حديث أسامة فيه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سرد الفطر يصوم الإثنين و الخميس ] فدل على مواظبة النبي صلى الله عليه و سلم على صيامهما و قد كان أسامة يصومهما حضرا و سفرا لهذا و في مسند الإمام أحمد و سنن النسائي [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال له : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم من الجمعة يوم الإثنين و الخميس قال : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم صيام داود ] .
و في مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني أنس بن سيرين قال : أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى الغداء فتغذى بعض القوم و أمسك بعض ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال أنس : لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم و ظاهر هذا الحديث يخالف حديث أسامة و أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يصوم الإثنين و الخميس إذا دخلا في صيامه و لم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره و لكن عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين و غيره و حديث أسامة أصح منه و قد روي [ من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول خميس و الإثنين و الإثنين ] و في رواية بالعكس الإثنين و الخميس و الخميس و أكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين و الخميس و روي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه و كان مجاهد يفعله ثم يتركه و كرهه و كره أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين و كرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر بالإنسان روي عن عمران بن حصين و ابن عباس و الشعبي و النخعي ونقله ابن القاسم عن مالك و قال الشافعي في القديم أكره ذلك قال : و إنما كرهته لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال : فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد الوجوب .
و إنما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور و في الصحيحين [ عن عائشة Bها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان و ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ] زاد البخاري في رواية : [ كان يصوم شعبان كله ] و لمسلم في رواية : [ كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و في رواية النسائي [ عن عائشة قالت : كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصوم شعبان كان يصله برمضان ] و عنها و عن أم سلمة قالتا : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله ] و عن أم سلمة قالت : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان و رمضان ] و قد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك و غيره : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستكمل صيام شعبان و إنما كان يصوم أكثره و يشهد له ما في صحيح مسلم [ عن عائشة Bها قالت : ما علمته تعني النبي صلى الله عليه و سلم صام شهرا كله إلا رمضان ] و في رواية له أيضا عنها قالت : [ ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ] و في رواية له أيضا : أنها قالت : [ لا أعلم نبي الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن كله في ليلة و لا صام شهرا كاملا غير رمضان ] و في رواية له أيضا قالت : [ ما رأيته قام ليلة حتى الصباح و لا صام شهرا متتابعا إلا رمضان ] و في الصحيحين [ عن ابن عباس قال : ما صام رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا كاملا غير رمضان ] و كان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان و روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس بنهى عن صيام الشهر كاملا و يقول : ليصمه إلا أياما و كان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر به و عن صيام الأيام المعلومة و كان يقول : لا تصم أياما معلومة .
فإن قيل : فكيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال : [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ؟ ] فالجواب : أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم و الأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية و غيرهم و الأظهر خلاف ذلك و أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم و يدل على ذلك ما خرجه الترمذي [ من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الصيام أفضل بعد رمضان ؟ قال : شعبان تعظيما لرمضان ] و في إسناده مقال و في سنن ابن ماجة : [ أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات و في إسناده إرسال و قد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم و إنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان يليه من قبله و شعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه و سلم له دون شوال فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله و بعده و ذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه و تكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها و بعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل و هي تكملة لنقص الفرائض و كذلك صيام ما قبل رمضان و بعده فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان و بعده أفضل من صيام ما بعد منه و يكون قوله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد رمضان المحرم ] : محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان و بعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة : قيام الليل ] إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما و يفطر يوما ] و لم يصم كذلك بل كان يصوم سردا و يفطر سردا و يصوم شعبان و كل اثنين و خميس ؟ قيل : صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه و سلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر و كان صيام النبي صلى الله عليه و سلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه و قد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة و إنما كان يفرق صيامه و لا يصوم يوما و يفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة و لا يضر تفريق الصيام و الفطر أكثر من يوم و يوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة و تبليغها و الجهاد عليها و القيام بحقوقها فكان صيام يوم و فطر يوم يضعفه عن ذلك و لهذا سئل النبي صلى الله عليه و سلم في [ حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما و يفطر يومين ؟ قال : وددت أني طوقت ذلك ] و قد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه و سلم من صيام شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه و سلم أجر صيام شطر الدهر و أزيد منه بصيامه المتفرق و حصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك و إنما عاقه عنه الإشتغال بما هو أهم منه و أفضل و الله أعلم و قد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه و سلم لشعبان دون غيره من الشهور و فيه معان أخر : و قد ذكر منها النبي في [ حديث أسامة معنيين : أحدهما : أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان ] يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه و كثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك و روى ابن وهب قال : [ حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت : ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا ؟ فقال : فأين هم عن شعبان ] و في قوله : [ يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان ] إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه و يفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم و فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة و أن ذلك محبوب لله عز و جل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة و يقولون : هي ساعة غفلة و لذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن ] و لهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه و سلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل و إنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس و لما خرج على أصحابه و هم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم : [ ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم ] و في هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له و لهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع و الآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح : إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق و سبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة و في [ حديث أبي ذر المرفوع : ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني و يتلو آياتي و قوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل و ذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا ] فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم و بينه فأحبهم الله فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام .
و في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء النوافل و إسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه و لهذا قيل : إنه ليس فيه رياء و قد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان يخرج من بيته إلى سوقه و معه رغيفان فيتصدق بهما و يصوم فيظن أهله أنه أكلهما و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته و كانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود : أنه قال : إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين و قال قتادة : يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام و قال أبو التياح : أدركت أبي و مشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح ثيابه و يروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : ( إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته و ليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم ) اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة و الناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه و يمصه و لا يزدرد منه شيئا و يبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء و ما دخل إلى حلقه منه شيء كم ستر الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم علهيم ريح الصيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين و إن خفي و كلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه .
( كم أكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسراري ) .
( كم أستركم هتكتموا أسراري ... من يخفي في الهوى لهيب النار ) .
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية .
( وهبني كتمت السرا و قلت غيره ... أتخفي على أهل القلوب السرائر ) .
( أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق ... و إن بضمير القلب في العين ظاهر ) .
و منها : أنه أشق على النفوس : و أفضل الأعمال أشقها على النفوس و سبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس و طاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات و إذا كثرت الغفلات و أهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها و لهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا و لا يجدون ] .
و قال : [ بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ] و في رواية قيل : [ و من الغرباء : قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ] و في صحيح مسلم [ من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العباد في الهرج كالهجرة إلي ] و خرجه الإمام أحمد و لفظه : [ العباد في الفتنة كالهجرة إلي ] و سبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم و لا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه و يعبد ربه و يتبع مراضيه و يجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه و منها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي و الغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم و يدافع عنهم و في حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا : [ ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين و ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصرير ـ و الصرير : البرد الشديد ـ و ذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب و يابس و ذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة ] قال بعض السلف : ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى فقال بعضهم لبعض : اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم : كيف نخسف بها و فلان قائم يصلي و رأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد و يقول : .
( لولا الذين لهم ورد يصلونا ... و آخرون لهم سرد يصومونا ) .
( لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء ما تطيعونا ) .
و في مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا : [ مهلا عن الله مهلا فلولا عباد ركع و أطفال رضع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ] و لبعضهم في المعنى : .
( لولا عباد للإله ركع ... و صبية من اليتامى رضع ) .
( و مهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الموجع ) .
و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة و جاء في الأثر : أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله و ولده و ذريته و من حوله و في بعض الآثار يقول الله عز و جل : [ أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المشاؤن في الأرض بالنصيحة الماشون على أقدامهم إلى الجمعات ] و في رواية : [ المتعلقة قلوبهم بالمساجد و المستغفرون بالأسحار فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس ] و قال مكحول : ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا و عشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة و الآثار في هذا المعنى كثيرة جدا .
و قد روي في صيام النبي صلى الله عليه و سلم شعبان معنى آخر و هو أنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه ضعف [ عن عائشة قالت : كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعبان فقلت : يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟ قال : إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا و أنا صائم ] و قد روي مرسلا و قيل : إنه أصح و في حديث آخر مرسل : [ تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح و يولد له و لقد خرج اسمه في الموتى ] .
و روي في ذلك معنى آخر و هو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان ] رواه ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة Bها خرجه الطبراني و رواه غيره و زاد : قالت عائشة : فربما أردت أن أصوم فلم أطق حتى إذا صام صمت معه و قد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من أية كان ] و فيه أيضا عنها قالت : [ ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه و سلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان و لا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله ] و قد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين و الخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في شعبان مع صومه الإثنين و الخميس .
و بكل حال فكان صلى الله عليه و سلم عمله ديمة و كان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة و ما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا دخل شعبان و عليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض و كانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه و سلم فإن المرأة لا تصوم و بعلها شاهد إلا بإذنه فمن دخل عليه شعبان و قد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين و من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة و لا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك و كان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني و لا شيء عليه مع القضاء و إن كان ذلك لغير عذر فقيل : يقضي و يطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا و هو قول مالك و الشافعي و أحمد اتباعا لآثار وردت بذلك و قيل : يقضي و لا إطعام عليه و هو قول أبي حنيفة و قيل : يطعم و لا يقضي و هو ضعيف .
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال : كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها و أخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف و المسكين على صيام رمضان و قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن قال الحسن بن سهل : قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات الشريفة و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة و بئس ما استودعها .
( مضى رجب و ما أحسنت فيه ... و هذا شهر شعبان المبارك ) .
( فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق و احذر بوارك ) .
( فسوف تفارق اللذات قسرا ... و يخلي الموت كرها منك دارك ) .
( تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص و اجعل مدارك ) .
( على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك )