المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان و تلاوة القرآن .
في الصحيحين [ عن ابن عباس Bهما قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن و كان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى الله عليه و سلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ] و خرجه الإمام أحمد بزيادة في آخره و هي : [ لا يسأل عن شيء إلا أعطاه ] الجود : هو سعة العطاء و كثرته و الله تعالى يوصف بالجود و في الترمذي [ من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله جواد يحب الجود كريم يحب الكرم ] و فيه أيضا [ من حديث أبي ذر Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم : عن ربه قال : يا عبادي لو أن أولكم و أخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له : كن فيكون ] و في الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : أن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا الجواد و مني الجود أنا الكريم و مني الكرم فالله سبحانه و تعالى أجود الأجودين و جوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان و فيه أنزل قوله { و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } و في الحديث الذي خرجه الترمذي و غيره : [ أنه ينادي فيه مناديا يا باغي الخير هلم و يا باغي الشر أقصر ] و لله عتقاء من النار و ذلك في كل ليلة و لما كان الله عز و جل قد جب نبيه صلى الله عليه و سلم على أكمل الأخلاق و أشرفها كما في [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ] و ذكره مالك في الموطأ بلاغا : [ فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس كلهم ] و خرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من [ حديث أنس مرفوعا : ألا أخبركم بالأجود الأجود الله الأجود الأجود و أنا أجود بني آدم و أجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده و رجل جاد بنفسه في سبيل الله ] فدلك هذا على أنه صلى الله عليه و سلم أجود بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم و أعلمهم و أشجعهم و أكملهم في جميع الأوصاف الحميدة و كان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم و المال و بذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه و هداية عباده و إيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم و وعظ جاهلهم و قضاء حوائجهم و تحمل أثقالهم و لم يزل صلى الله عليه و سلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ و لهذا قالت له خديجة في أول مبعثه : و الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تقري الضيف و تحمل الكل و تكسب المعدوم و تعين على نوائب الحق ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة و تضاعفت أضعافا كثيرة و في الصحيحين [ عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس و أشجع الناس و أجود الناس ] و في صحيح مسلم [ عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ] و في رواية : [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر ] قال أنس : إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا و ما عليها و فيه أيضا [ عن صفوان بن أمية قال : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطاني و أنه لمن أبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ] قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة و في مغازي الواقدي : أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوء إبلا و نعما فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي و في الصحيحين [ عن جبير بن مطعم : أن الأعراب علقوا بالنبي صلى الله عليه و سلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال : لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا و لا كذوبا و لا جبانا ] و فيهما [ عن جابر قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا فقال : لا و إنه قال لجابر : لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا و هكذا و هكذا و قال : بيديه جميعا ] و خرج البخاري [ من حديث سهل بن سعد : إن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم فلبسها و هو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس و قالوا : كان محتاجا إليها و قد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه ] و كان جوده صلى الله عليه و سلم كله لله و في ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام من يقوي الإسلام بإسلامه و كان يؤثر على نفسه و أهله و أولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى و قيصر و يعيش في نفسه عيش الفقراء فيأتي عليه الشهر و الشهران لا يوقد في بيته نار و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع و كان قد أتاه صبي مرة فشكت إليه فاطمة ما تلقي من خدمة البيت و طلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح و التكبير و التحميد عند نومها و قال : [ لا أعطيك و أدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع ] و كان جوده صلى الله عليه و سلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور كما أن جود ربه تضاعف فيه أيضا فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة و كان على ذلك من قبل البعثة و ذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها و ذلك الشهر شهر رمضان خرج إلى حراء كما يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته و رحم العباد بها جاءه جبريل من الله عز و جل ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك فإنه كان يلتقي هو و جبريل عليه السلام و هو أفضل الملائكة و أكرمهم و يدارسه الكتاب الذي جاء به إليه و هو أشرف الكتب و أفضلها و هو يحث على الإحسان و مكارم الأخلاق و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه و يسخط لسخطه و يسارع إلى ما حث عليه و يمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده و إفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام و كثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم و الجود و لا شك إن المخالطة تؤثر و تورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده و فرقها كلها على الناس فأنشد : .
( لمست بكفي كفه أبتغي الغنا ... و لم أدر أن الجود من كفه يعدي ) .
فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة و قد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد و لا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
( تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله ) .
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ) .
( هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف و الجود ساحله ) .
( و لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله ) .
سمع الشبلي قائلا يقول : يا الله يا جواد فتأوه و صاح و قال : كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود و مخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى و قال : بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح و بسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل الجود فإنهم يعطون عن محدود و عطائك لأحد له و لا صفة فيا جوادا يعلو كل جواد و به جاد كل من جاد .
و في تضاعف جوده صلى الله عليه و سلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة : منها : شرف الزمان و مضاعفة أجر العمل فيه و في الترمذي [ عن أنس مرفوعا : أفضل الصدقة صدقة رمضان ] .
و منها إعانة الصائمين و القائمين و الذاكرين على طاعتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا و من خلفه في أهله فقط غزا و في [ حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه و خرجه الطبراني من [ حديث عائشة و زاد : و ما عمل الصائم من أعمال البر إلا كان لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه ] و خرج ابن خزيمة في صحيحه من [ حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان و فيه : و هو شهر المواساة و شهر يزاد فيه في رزق المؤمن من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء و من أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ] .
و منها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و العتق من النار لا سيما في ليلة القدر و الله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل و الجزاء من جنس العمل .
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة من موجبات الجنة كما في [ حديث علي Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة غرفا الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها من ظهورها قالوا : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن طيب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى بالليل و الناس نيام ] و هذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام و القيام و الصدقة و طيب الكلام فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو و الرفث و الصيام و الصلاة و الصدقة توصل صاحبها إلى الله عز و جل قال بعض السلف : الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق و الصيام يوصله إلى باب الملك و الصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر : أنا قال : ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ] .
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة أبلغ في تفكير الخطايا و اتقاء جهنم و المباعدة عنها و خصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الصيام جنة ] و في رواية : [ جنة أحدكم من النار كجنته من القتال ] و في [ حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و قيام الرجل من جوف الليل يعني أنه يطفىء الخطيئة ] أيضا و قد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد و في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اتقوا النار و لو بشق تمرة ] كان أبو الدرداء يقول : صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير .
و منها : أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص و تكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما نبغي التحفظ منه كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه و عامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي و لهذا نهى أن يقول الرجل : صمت رمضان كله أو قمته كله فالصدقة تجبر ما فيه من النقص و الخلل و لهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الصيام و الصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان و محظورات الإحرام و كفارة الوطء في رمضان و لهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام و إطعام المسكين ثم نسخ ذلك و بقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره و من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه و يضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء كما أفتى به الصحابة و كذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل و المرضع على قول طائفة من العلماء .
و منها : أن الصائم يدع طعامه و شرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم و شرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله و آثر بها أو واسى منها و لهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه و يكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام و الشراب له و رده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها و سئل بعض السلف : لم شرع الصيام ؟ قال : ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع و هذا من بعض حكم الصوم و فوائده و قد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان و فيه : [ و هو شهر المواساة ] فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به و يطوون كان ابن عمر يصوم و لا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة و كان إذا جاءه سائل و هو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام و قام فأعطاه السائل فيرجع و قد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما و لم يأكل شيئا و اشتهى بعض الصالحين من السلف طعاما و كان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا يقول : من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال عبده المعدم من الحسنات فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه و بات طاويا و جاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى و أصبح صائما و كان الحسن يطعم إخوانه و هو صائم تطوعا و يجلس يروحهم و هم يأكلون و كان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء و غيرها و هو صائم سلام الله على تلك الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح لم يبق إلا أخبار و آثار كم بين من يمنع الحق الواجب عليه و بين أهل الإيثار .
( لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد ) .
و له فوائد أخر قال الشافعي Bه : أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم و لتشاغل كثير منهم بالصوم و الصلاة عن مكاسبهم و كذا قال القاضي أبو يعلى و غيره من أصحابنا أيضا و دل الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان و الإجتماع على ذلك و عرض القرآن على من هو أحفظ له و فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان و في [ حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه و سلم : أنه أخبرها أن جبريل عليه كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ] و في حديث ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم و يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و شهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } و قد قال ابن عباس Bهما : إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } و قوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } و قد سبق [ عن عبيد بن عمير : أن النبي صلى الله عليه و سلم بدىء بالوحي و نزول القرآن عليه في شهر رمضان ] و في المسند [ عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من رمضان ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره و قد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال : فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف و سأل فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فأذنه بالصلاة ] خرجه الإمام أحمد و خرجه النسائي و عنده أنه ما صلى إلا أربع ركعات و كان عمر قد أمر أبي بن كعب و تميما الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارىء يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصى من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر و في رواية : أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها و روي أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين و أوسطهم بخمس و عشرين و أبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف قال ابن منصور : سئل إسحاق بن راهوية كم يقرأ في قيام شهر رمضان فلم يرخص في دون عشر آيات فقيل له : إنهم لا يرضون ؟ فقال : لا رضوا فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة ثم إذا صرت إلى الآيات الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة يعني في كل ركعة و كذلك كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات و سئل الإمام أحمد عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع القراءة و البطيء فقال : في هذا مشقة على الناس و لا سيما في هذه الليالي القصار و إنما الأمر على ما يحتمله الناس و قال أحمد لبعض أصحابه و كان يصلي بهم في رمضان : هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسا ستا سبعا قال : فقرأت فختمت ليلة سبع و عشرين و قد روى الحسن : أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان يقرأ خمس آيات ست آيات و كلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين فلا يشق عليهم و قاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و غيرهم و قد روي [ عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بهم ليلة ثلاث و عشرين إلى ثلث الليل و ليلة خمس و عشرين إلى نصف الليل فقالوا له : لو نفلتنا بقية ليلتنا فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته ] خرجه أهل السنن و حسنه الترمذي و هذا يدل على أن قيام ثلث الليل و نصفه يكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام و كان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث و يصلي مع الإمام حتى ينصرف و لا ينصرف حتى ينصرف الإمام و قال بعض السلف : من قام نصف الليل فقد قام الليل و في سنن أبي داود [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين ] ـ يعني أنه كتب له قنطار من الأجر ـ و يروى من [ حديث تميم و أنس مرفوعا : من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قيام ليلة ] و في إسنادهما ضعف .
و روي حديث تميم موقوفا عليه و هو أصح و عن ابن مسعود قال : من قرأ ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين و من قرأ بمائة آية كتب من القانتين و من قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار و من أراد أن يزيد في القراءة و يطيل و كان يصلي لنفسه فليطول ما شاء كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته و كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة و غيرها كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان و كان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة و في بقية الشهر في ثلاث و كان قتادة يختم في كل سبع دائما و في رمضان في كل ثلاث و في العشر الأواخر كل ليلة و كان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة و عن أبي حنيفة نحوه و كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان و كان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة القرآن من المصحف قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري : إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن و كانت عائشة Bها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت و قال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه و إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان و المكان و هو قول أحمد و إسحاق و غيرهما من الأئمة و عليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره و اعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفى بحقوقهما و صبر عليهما و فى أجره بغير حساب قال كعب ينادي يوم القيامة مناد بأن كل حارث يعطى بحرثه و يزاد غير أهل القرآن و الصيام يعطون أجورهم بغير حساب و يشفعان له أيضا عند الله عز و جل كما في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصيام و القيام يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب منعته الطعام و الشراب بالنهار و يقول بالقرآن : منعته النوم بالنهار فشفعني فيه فيشفعان ] فالصيام يشفع لمن منعه الطعام و الشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام و الشراب و النكاح و مقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم و النظر المحرم و السماع المحرم و الكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة و يقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه و منعه من شهواته فأما من ضيع صيامه و لم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه و يقول له : ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد مثل ذلك في الصلاة قال بعض السلف : إذا احتضر المؤمن يقال للملك : شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال شم قلبه فيقول : أجد في قلبه الصيام فيقال : شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه حفظه الله عز و جل و كذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل فأما من قرأ القرآن و قام به فقد قام بحقه فيشفع له و قد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم رجلا فقال : ذاك لا يتوسد القرآن ـ يعني لا ينام عليه فيصير له كالوسادة ـ و خرج الإمام أحمد من [ حديث بريدة مرفوعا : أن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك و كل تاجر من وراء تجارته فيعطي الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له : اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا ] و في [ حديث عبادة بن الصامت الطويل : إن القرآن يأتي صاحبه في القبر فيقول له : أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمىء نهارك و أمنعك شهوتك و سمعك و بصرك فستجدني من الأخلاء خليل صدق ثم يصعد فيسأل له فراشا و دثارا فيؤمر له بفراش من الجنة و قنديل من الجنة و ياسمين من الجنة ثم يدفع القرآن في قبلة القبر فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك ] قال ابن مسعود : ينبغي لقارىء القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون و نهاره إذا الناس يفطرون و ببكائه إذا الناس يضحكون و بورعه إذا الناس يخلطون و بصمته إذا الناس يخوضون و بخشوعه إذا الناس يختالون و بحزنه إذا الناس يفرحون قال محمد بن كعب : كنا نعرف قارىء القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره و طول تهجده قال وهيب بن الورد : قيل لرجل ألا تنام ؟ قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي و صحب رجل رجلا شهرين فلم يره نائما فقال : مالي لا أراك نائما قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى قال أحمد أبي الحواري : إني لأقرا القرآن و أنظر في آيه فيحير عقلي بها و أعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم و يسعهم أن يشغلوا بشيء من الدنيا و هم يتلون كلام الله و أما إنهم لو فهموا ما يتلون و عرفوا حقه و تلذذوا به و استحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا أنشد ذو النون المصري : .
( منع القرآن بوعده و وعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع ) .
( فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهما تذل له الرقاب و تخضع ) .
فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب القرآن خصما له يطالبه بحقوقه التي ضيعها و خرج الإمام أحمد [ من حديث سمرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه و رجل قائم بيده فهر أو صخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه ؟ فقيل له : هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة ] و قد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ و في [ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم : يمثل القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصما فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حامل تعدى حدودي و ضيع فرائضي و ركب معصيتي و ترك طاعتي فما يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال شأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار و يؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله و حفظ أمره فيتمثل خصما دونه فيقول : يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي و عمل بفرائضي و اجتنب معصيتي و اتبع طاعتي فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق و يعقد عليه تاج الملك و يسقيه كأس الخمر ] يا من ضيع عمره في غير الطاعة يا من فرط في شهره بل في دهره و أضاعه يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة يا من جعل خصمه القرآن و شهر رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة .
( ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... و الصور في يوم القيامة ينفخ ) .
رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و قائم حظه من قيامه السهر كل قيام لا ينهى عن الفحشاء و المنكر لا يزيده صاحبه إلا بعدا و كل صيام لا يصان عن قول الزور و العمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا و ردا يا قوم أين آثار الصيام أين أنوار القيام .
( إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين فأين شاهد الأحزان ) .
( أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان ) .
هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن و في بقيته للعابدين مستمتع و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع و هو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع و مع هذا فلا قلب يخشع و لا عين تدمع و لا صيام يصان عن الحرام فينفع و لا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع و تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر و لا تسمع كم تتلى علينا آيات القرآن و قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة و كم يتوالى علينا شهر رمضان و حالنا فيه كحال أهل الشقوة لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة و لا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة و إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة و إذا صاموا صامت منه الألسنة و الأسماع و الأبصار أفما لنا فيهم أسوة ؟ كما بيننا و بين حال الصفا أبعد مما بيننا و بين الصفا و المروة كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و حسبنا الله .
( يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... و أبصروا الحق و قلبي قد عمي ) .
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم ) .
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم ) .
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم ) .
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم ) .
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي ) .
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )