الفصل الأول : في فضل العمل فيه .
و قد دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها و إذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده و قد ورد هذا الحديث بلفظ : [ ما من أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر ] و روي بالشك في لفظه : [ أحب أو أفضل ] و إذا كان العمل في أيام العشر أفضل و أحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها صار العمل فيه و إن كان مفضولا أفضل من العمل في غيره و إن كان فاضلا و لهذا قالوا : يا رسول الله و لا الجهاد في سبيل الله قال : [ و لا الجهاد ] ثم استثنى جهادا واحدا هو أفضل الجهاد فإنه صلى الله عليه و سلم سئل : أي الجهاد أفضل قال : [ من عقر جواده و أهريق دمه و صاحبه أفضل الناس درجة عند الله ] سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يدعو يقول : اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين قال : [ إذن يعقر جوادك و تستشهد ] فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر و أما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل و أحب إلى الله عز و جل منها و كذلك سائر الأعمال و هذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره و يزيد عليه لمضاعفة ثوابه و أجره و قد روي في حديث ابن عباس Bهما : [ هذا زيادة و العمل فيهن يضاعف بسبعمائة ] و في إسنادها ضعف و قد ورد في قدر المضاعفة روايات متعددة مختلفة فخرج الترمذي و ابن ماجه [ من رواية النهاس بن قهم عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بسنة و كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ] و النهاس بن قهم ضعفوه و ذكر الترمذي عن البخاري أن الحديث يروى عن قتادة عن سعيد مرسلا و روى ثوير بن أبي فاخته ـ و فيه ضعف ـ عن مجاهد عن ابن عمر Bهما قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر فإن العمل فيها يعدل عمل سنة و روى أبو عمر و النيسابوري في كتاب الحكايات بإسناده عن حميد قال : سمعت ابن سيرين و قتادة يقولان : صوم كل يوم من العشر يعدل سنة و قد روي في المضاعفة أكثر من ذلك فروى هارون بن موسى النحوي قال : سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك قال : كان يقال في أيام العشر : بكل يوم ألف يوم و يوم عرفة عشرة آلاف قال الحاكم : هذا من المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و روى في المضاعفة أقل من سنة قال حميد بن زنجويه : [ حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : صيام كل يوم من أيام من أيام العشر كصيام شهر ] و هذا مرسل ضعيف الإسناد و روى عبد الرزاق في كتابه عن جعفر عن هشام عن الحسن قال : صيام يوم العشر يعدل شهرين و قال عبد الكريم عن مجاهد : العمل في العشر يضاعف و في المضاعفة أحاديث أخر مرفوعة لكنها موضوعة فلذلك أعرضنا عنها و عما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر و هي كثيرة .
و قد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها و قد روي في خصوص صيام أيامه و قيام لياليه و كثرة الذكر فيه ما يذكر مما يحسن ذكره دون ما لا يحسن لعدم صحته و قد سبق حديث أبي هريرة في ذلك و مرسل راشد بن سعد و ما روي عن الحسن و ابن سيرين و قتادة في صومه و في المسند و السنن [ عن حفصة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدع صيام عاشوراء و العشر و ثلاثة أيام من كل شهر ] و في إسناده اختلاف و روي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة ] و ممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر Bهما و قد تقدم عن الحسن و ابن سيرين و قتادة ذكر فضل صيامه و هو قول أكثر العلماء أو كثير منهم و في صحيح مسلم [ عن عائشة Bها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما العشر قط ] و في رواية في العشر قط و قد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روى خلافه و ذكر حديث حفصة و أشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة فأسنده الأعمش و رواه منصور عن إبراهيم مرسلا و كذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة و حفصة في النفي و الإثبات أخذ بقول المثبت لأن معه علما خفي على النافي و أجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملا يعني و حفصة أرادت انه كان يصوم غالبه فينبغي أن يصام بعضه و يفطر بعضه و هذا الجمع يصح في رواية من روى ما رأيته صائما العشر و أما من روى ما رأيته صائما في العشر فيبعد أو يتعذر هذا الجمع فيه و كان ابن سيرين يكره أن يقال : صام العشر لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه و إنما يقال : صام التسع و لكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه و قد سبق حديث : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم العشر ] و لو نذر صيام العشر فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضا فلا يلزم بفطر يوم النحر قضاء و لا كفارة فإنه غلب استعماله عرفا في التسع و يحتمل أن يخرج في لزوم القضاء و الكفارة خلاف فإن أحمد قال فيمن نذر صوم شوال فأفطر يوم الفطر و صام باقيه : أنه يلزمه قضاء يوم و كفارة و قال القاضي أبو يعلى : هذا إذا نوى صوم جميعه فأما إن أطلق لم يلزمه شيء لأنه يوم الفطر مستثنى شرعا و هذا قاعدة من قواعد الفقه و هي أن العموم هل يخص بالشرع أم لا ؟ ففي المسألة خلاف مشهور و أما قيام ليالي العشر فمستحب و قد سبق الحديث في ذلك و قد ورد في خصوص إحياء ليلتي العيدين أحاديث لا تصح و ورد إجابة الدعاء فيهما و استحبه الشافعي و غيره من العلماء و كان سعيد بن جبير و هو الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس Bهما إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه و روي عنه أنه قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة و أما استحباب الإكثار من الذكر فيها فقد دل عليه قول الله عز و جل : { و يذكروا اسم الله في أيام معلومات } فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء و سيأتي ذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عمر Bهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أعظم و لا أحب إليه العمل فيهن عند الله من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد ] فإن قيل : فإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها ؟ و إن كان ذلك العمل أفضل في نفسه مما عمل في العشر لفضيلة العشر في نفسه ؟ فيصير العمل المفضول فيه فاضلا حتى يفضل على الجهاد الذي هو أفضل الأعمال كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة و هو قول الإمام أحمد و غيره من العلماء فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد لأن الحج مخصوص بالعشر و هو من أفضل ما عمل في العشر أو أفضل ما عمل فيه ؟ فكيف كان الجهاد أفضل من الحج ؟ فإنه ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة Bه أن رجلا قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله و رسوله ] قال : ثم ماذا ؟ قال : [ جهاد في سبيل الله ] قال : ثم ماذا ؟ قال : [ حج مبرور ] .
قيل التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج عند جمهور العلماء و قد نص عليه الإمام أحمد و هو مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص و روي فيه أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال و حديث أبي هريرة هذا صريح في ذلك و يمكن الجمع بينه و بين حديث ابن عباس بوجهين : أحدهما : أن حديث ابن عباس قد صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع من نفسه و ماله بشيء يفضل على العمل في العشر فيمكن أن يقال : الحج أفضل من الجهاد إلا جهاد من لم يرجع من نفسه بشيء و يكون هو المراد من حديث أبي هريرة و يجتمع حينئذ الحديثان و الثاني : و هو الأظهر : أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصير أفضل من الفاضل في نفسه كما تقدم و حينئذ فقد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد و قد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد حينئذ أفضل منه فإن كان الحج مفروضا فهو أفضل من التطوع بالجهاد فإن فروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات عند جمهور العلماء و قد روي هذا في الحج و الجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص و روي مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها لين و قد دل على ذلك ما حكاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ربه عز و جل أنه قال : [ ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ] و إن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجه أفضل من جهاده كالمرأة و في صحيح البخاري [ عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ فقال : أفضل الجهاد حج مبرور ] و في رواية له : [ جهادكن الحج ] و في رواية له : [ نعم الجهاد الحج ] و كذلك إذا استغرق العشر كله عمل الحج و أتى به على أكمل وجوه البر من أداء الواجبات و اجتناب المحرمات و انضم إلى ذلك الإحسان إلى الناس ببذل السلام و إطعام الطعام و ضم إليه كثرة ذكر الله عز و جل و العج و الثج و هو رفع الصوت بالتلبية و سوق الهدي فإن هذا الحج على هذا الوجه قد يفضل على الجهاد و إن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر و لم يؤت به على الوجه المبرور فالجهاد أفضل منه و قد روي عن عمر و ابن عمر و أبي موسى الأشعري و مجاهد ما يدل على تفضيل الحج على الجهاد و سائر الأعمال و ينبغي حمله على الحج المبرور الذي كمل بره و استوعب فعله أيام العشر و الله أعلم فإن قيل : قوله صلى الله عليه و سلم : [ ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ] هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها و إن طالت مدته أم لا ؟ قيل : الظاهر و الله أعلم أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره و قد قيل : إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل فيها مستغرقا لأيام العشر فيفضل على جهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر و إن كان العمل مستغرقا لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر و استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل العمل الدائم الذي لا يفتر من صيام و صلاة معادلا للجهاد في أي وقت كان فإذا وقع ذلك العمل الدائم في العشر كان أفضل من الجهاد في مثل أيامه لفضل العشر و شرفه ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : أجده قال لا هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم و لا تفتر و تصوم و لا تفطر ] قال : و من يستطيع ذلك و لفظه للبخاري و لمسلم معناه و زاد ثم قال : [ مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله الذي لا يفتر من صلاة و لا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ] و للبخاري : [ مثل المجاهد في سبيل الله و الله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم ] و للنسائي : [ كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع الساجد ] و يدل على أن المراد تفضيله على جهاد في مثل أيامه خاصة : ما في صحيح ابن حبان [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة فقال رجل : يا رسول الله هو أفضل أم عدتهن جهاد في سبيل الله ؟ قال : هو أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ] فلم يفضل العمل في العشر إلا على الجهاد في عدة أيام العشر لا مطلقا .
و أما ما تقدم من أن كل يوم منه يعدل سنة أو سنتين أو ألف يوم فكلها من أحاديث الفضائل و ليست بقوية ثم إن أكثر ما ورد ذلك في صيامها و الصيام له خصوصية في المضاعفة فإنه لله و الله يجزي به فإن قيل : إنه لا يختص بالصوم بل يعم سائر الأعمال فإنما يدل على تفضيل كل عمل في العشر على مثل ذلك العمل في غيره سنة فلا يدخل فيه إلا تفضيل من جاهد في العشر على من جاهد في غيرها سنة و إذا قيل يلزم من تفضيل العمل في هذا العشر على كل عشر غيره أن يكون صيام هذا العشر أفضل من صوم عشر رمضان و قيام لياليه أفضل من قيام لياليه ؟ قيل : أما صيام رمضان فأفضل من صيامه بلا شك فإن صوم الفرض أفضل من النفل بلا تردد و حينئذ فيكون المراد أن ما فعل في العشر في فرض فهو أفضل مما فعل في عشر غيره من فرض غيره من فرض فقد تضاعف صلواته المكتوبة على صلوات عشر رمضان و ما فعل فيه من نفل فهو أفضل مما فعل في غيره من نفل و قد اختلف عمر و علي Bهما في قضاء رمضان في عشر ذي الحجة فكان عمر يحتسبه أفضل أيامه فيكون قضاء رمضان فيه أفضل من غيره و هذا يدل على مضاعفة الفرض فيه على النفل و كان علي ينهي عنه و عن أحمد في ذلك روايتان و قد علل قول علي : بأن القضاء فيه يفوت به فضل صيامه تطوعا و بهذا علله الإمام أحمد و غيره و قد قيل : إنه يحصل به فضيلة صيام التطوع بها و هذا على قول من يقول : إن نذر صيام شهر فصام رمضان أجزاءه عن فرضه و نذره متوجه و قد علل بغير ذلك و أما قيام لياليه و تفضيل قيامه على قيام عشر رمضان فيأتي الكلام فيه إن شاء الله