المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر .
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب Bه أن رجلا من اليهود له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا المعنى : .
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح ) .
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح ) .
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح ) .
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح ) .
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح ) .
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة : هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد الشهادتين .
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات : .
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود ) .
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد ) .
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود ) .
و أنشد غيره : .
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد ) .
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد ) .
و أنشد الشبلي : .
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان ) .
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان ) .
و أنشد : .
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد ) .
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود ) .
و أنشد : .
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا ) .
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا ) .
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا ) .
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا ) .
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه .
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه ) .
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي : .
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف ) .
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف ) .
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد ] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } .
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما } و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها : أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا : الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [ أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها : أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى .
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة Bها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ] .
قيل : و ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟ قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما .
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ .
فمن طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار كان حكيم بن حزام Bه يقف بعرفة و معه مائة بدنة مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون : ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم .
و ليحذر من الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا : { قل هو من عند أنفسكم } .
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار ) .
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك بذلك نفسه .
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن ) .
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول : .
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل ) .
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )