الفصل الأول : أفضل التطوع بالصيام .
و هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم و قد يحتمل أن يراد : أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال و نحو ذلك و يشهد لهذا ما خرجه الترمذي من [ حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله و فيه يوم تاب الله فيه على قوم و يتوب على آخرين ] و في اسناده مقال و لكن يقال : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شهر شعبان و لم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء و قوله في آخر سنة : [ لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ] يدل على أنه كان يصوم التاسع قبل ذلك و قد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف و الذي ظهر لي و الله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان : أحدهما : التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل و الثاني : ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله و بعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان و هو ملتحق بصيام رمضان و لهذا قيل : إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان و يكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا و قد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بصيام شوال فترك الأشهر الحرم و صام شوالا و سنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان و صيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر رجلا أن يصوم الحرم و سنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى و أفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم و يشهد لهذا أنه صلى الله عليه و سلم قال في هذا الحديث : [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ] و مراده بعد المكتوبة : و لو أحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض و بعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض و إنما خالف في ذلك بعض الشافعية فكذلك الصيام قبل رمضان و بعده ملتحق برمضان و صيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم و أفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم .
و قد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن و غيره أفضلها شهر الله المحرم و رجحه طائفة من المتأخرين و روى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال : إن الله افتتح السنة بشهر حرام و ختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم و كان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه و قد روي عنه مرفوعا و مرسلا قال آدم بن أبي إياس : [ حدثنا أبو الهلال الراسي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل الأوسط و أفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم و هو شهر الله الأصم ] و خرج النسائي [ من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الليل خير و أي الأشهر أفضل ؟ فقال : خير الليل جوفه و أفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم ] و اطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة و قال سعيد بن جبير و غيره : أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة بل قد قيل : إنه أفضل الأشهر مطلقا و سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى و زعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب و هو قول مردود و أفضل شهر الله المحرم عشره الأول و قد زعم يمان بن رآب : أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه و لكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى و قال أبو عثمان النهدي : كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأخير من رمضان و العشر الأول من ذي الحجة و العشر الأول من محرم و قد وقع هذا في بعض نسخ كتاب فضائل العشر لابن أبي الدنيا [ عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث ] و ليس ذلك بمحفوظ و قد قيل : إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة و إن التكلم وقع في عاشره و روي عن وهب بن منبه قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم و عن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة و لما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا و كان صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم و كان بعضها ختام السنة الهلالية و بعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه و صام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة و افتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة فإن من كان أول عمله طاعة و آخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين و في حديث مرفوع : [ ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها و في آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها ] خرجه الطبراني و غيره وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي و في حديث آخر مرفوع : [ ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة و من آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها ] و قال ابن مبارك : من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة و الختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع و يتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية .
( قطعت شهور العام لهوا و غفلة ... و لم تحترم فيما أتيت المحرما ) .
( فلا رجبا وافيت فيه بحقه ... و لا صمت شهر الصوم صوما متمما ) .
( و لا في ليالي عشر ذي الحجة الذي ... مضى كنت قواما و لا كنت محرما ) .
( فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة ... و تبكي عليها حسرة و تندما ) .
( و تستقبل العام الجديد بتوبة ... لعلك أن تمحو بها ما تقدما ) .
و قد سمى النبي صلى الله عليه و سلم المحرم شهر الله و اضافته إلى الله تدل على شرفه و فضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا و إبرهيم و إسحاق و يعقوب و غيرهم من الأنبياء إلى عبوديته و نسب إليه بيته و ناقته و لما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به و هو الصيام و قد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز و جل : إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز و جل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه و يحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك و تغييره : .
( شهر الحرام مبارك ميمون ... و الصوم فيه مضاعف مسنون ) .
( و ثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون ) .
الصيام سر بين العبد و بين ربه و لهذا يقول الله تبارك و تعالى : [ كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به إنه ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي ] و في الجنة باب يقال له : الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم و هو جنة للعبد من النار كجنة أحدكم من القتال و في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعده الله من نار جهنم كبعد غراب طار و هو فرخ حتى مات هرما ] و فيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أوصني ؟ قال : [ عليك بالصوم فإنه عدل له ] فكان أبو أمامة و أهله يصومون فإذا رؤي في بيتهم دخان بالنهار علم أنه قد نزل بهم ضيف و ممن سرد الصوم عمر و أبو طلحة و عائشة و غيرهم من الصحابة و خلق كثير من السلف و ممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر و الحسن البصري و غيرهما .
قال بعضهم : إنما هو غداء و عشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت و قد كتبت في ديوان الصائمين للصائم فرحتان فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه إذا وجد ثواب صيامه مدخورا سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان ياما خبأنا للصوم فانتبه لذلك و سرد الصوم و روي : أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش فيأكلون و الناس في الحساب فيقول الناس ما بال هؤلاء يأكلون و نحن نحاسب ؟ فيقال : كانوا يصومون و أنتم تفطرون و روي : أنهم يحكمون في ثمار الجنة و الناس في الحساب روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع قال الله تعالى : { و الصائمين و الصائمات و الحافظين فروجهم و الحافظات و الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات أعد الله لهم مغفرة و أجرا عظيما } و قال تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } قال مجاهد و غيره : نزلت في الصوم : من ترك لله طعامه و شرابه و شهواته عوضه الله خيرا من ذلك طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا تموت في التوراة : طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره طوبى لمن ترك طعاما ينفذ في دار لدار { أكلها دائم و ظلها } .
( من يرد ملك الجنان فليذر عنه التواني ... و ليقم في ظلمة الليل إلى نور القرآن ) .
( و ليصل صوما بصوم إن هذا العيش فإني ... إنما العيش جوار الله في دار الأمان ) .
كان بعض الصالحين يكثر الصوم فرأى في منامه كأنه دخل الجنة فنودي من ورائه يا فلان تذكر أنك صمت لله يوما قط ؟ قال : إي و الله يوم و يوم و يوم فإذا صواني النار قد أخذته يمنة و يسرة كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و انقطع صوته فمات فرأى بعض أصحابه في المنام فسئل عن حاله فقال : .
( قد كسي حلة البهاء ... و طافت بالأباريق حوله الخدام ) .
( ثم حلى و قيل يا قارئي أرقه ... فلعمري لقد براك الصيام ) .
صام بعض التابعين حتى أسود من طول صيامه و صام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه و اصفر فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول : كرامة هذا الجسد أريد و صام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه كان بعضهم يسرد الصوم فمرض و هو صائم فقالوا له : افطر فقال : ليس هذا وقت ترك و قيل لآخر منهم و هو مريض : افطر فقال : كيف و أنا أسير لا أدري ما يفعل بي مات عامر بن عبد الله بن الزبير و هو صائم ما أفطر و دخلوا على أبي بكر بن أبي مريم و هو في النزع و هو صائم فعرضوا عليه ماء ليفطر فقال : أغربت الشمس ؟ قالوا : لا فأبى أن يفطر ثم أتوه بماء و قد اشتد نزعه فأومأ إليهم أغربت الشمس ؟ قالوا : نعم فقطروا في فيه قطرة من ماء ثم مات و احتضر إبراهيم بن هانيء صاحب الإمام أحمد و هو صائم و طلب و سأل أغربت الشمس ؟ فقالوا : لا و قالوا له : قد رخص لك في الفرض و أنت متطوع قال : أمهل ثم قال : لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت نفسه و ما أفطر الدنيا كلها شهر صيام المتقين وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم و معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب .
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي ) .
و لما كان الصيام سرا بين العبد و بين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد قال بعض الصالحين : بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته و يمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم و عن ابن مسعود Bه قال : إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل ـ يعني يسرح شعره ـ و يدهنه و إذا تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله و إذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته و قال أبو التياح : أدركت أبي وشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح ثيابه صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين و يخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه و يمتصها و الناس ينظرون إليه و لا يدخل حلقه منه شيء لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم كم يستر الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم عليهم ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية .
( كم اكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسرارى ) .
( كم أستركم هتكتمو أسرارى ... من يخفي في الهوى لهيب النار ) .
ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه للقلوب فتستنشقه الأرواح و ربما ظهر بعد الموت و يوم القيامة .
( فكاتم الحب يوم البين منهتك ... و صاحب الوجد لا تخفى سرائره ) .
و لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤى في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره ؟ فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ و جاء في حديث مرفوع : يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح صيامهم أفواههم أطيب من ريح المسك .
( وهبني كتمت السر أو قلت غيره ... أتخفى على أهل القلوب السرائر ) .
( أبى ذاك إن السر في الوجه ناطق ... و إن ضمير القلب في العين ظاهر )