فيجازيه نسيئة أي مجازاة مؤجلة فإن جزاء المعاملة لا يختص بالدار الآخرة بل ربما أظهر الحق تعالى منه لبعض أولياءه أنموذجاً يحملهم على الاجتهاد في الأعمال ومن أعظم المعجل مجازاته على الحسنة بالتوفيق لحسنة أخرى وبالحفظ من معصية يكون العبد بصددها ومن ذلك الحفظ من الآفات والمكاره ومنه ما أشار المصنف بقوله : .
( 90 ) كفى من جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلاً .
أي كفى من مجازاته سبحانه لك على الطاعة أن رضيك - أيها العبد - الضعيف أهلاً لها فإن خدمة ملك الملوك مما تتطاول إليها الأعناق فكونه رضيك لها من أعظم النعم التي امتن بها عليك الكريم الخلاق . ومن ذلك ما أشار له المصنف أيضاً بقوله : .
( 91 ) كفى العاملين جزاءً ما هو فاتحه على قلوبهم في طاعته وما هو مورده عليهم من وجود مؤانسته .
أي كفاهم في المجازاة ما هو فاتحه على قلوبهم في حال طاعته من الإلهامات السنية والمواهب اللدنية حتى يجدوا حلاوة المناجاة مع الملك الخلاق التي يعبر عنها أهل الطريقة : بالأحوال والمواجيد والأذواق وكفاهم أيضاً ما هو مورده عليهم أي على قلوبهم من وجود مؤانسته البهية وسرور القلب بشهود صفاته الجمالية فإن هذا من علامة الرضوان الأكبر الذي يتلاشى عنده كل شيء ويحقر .
( 92 ) من عبده لشيء يرجوه منه أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه فما قام بحق أوصافه .
يعني : أن من عبده تعالى لشيء يرجوه منه كالثواب أو ليدفع عن نفسه .
ص 81 .
بطاعته ورود عقوبته يوم الحساب فما قام بحق أوصافه سبحانه لأن حق أو صافه أن يعبد لذاته لا طلباً لثوابه ولا خوفاً من عقابه فإن العبد يستحق عليه مولاه كل شيء ولا يستحق هو شيئا على مولاه وكان أبو حازم المدني يقول إني لأستحيي من ربي أن أعبده خوفاً من العذاب فأكون مثل عبد السوء أن لم يخف لم يعمل وأستحيي أن أعبده لأجل الثواب فأكون كالأجير السوء أن لم يعط أجر عمله لم يعمل ولكن أعبده محبة له آه . فإذا عمل المريد على ذلك كان عبداً لله حقاً فإن طلب منه الثواب أو استعاذ به من العقاب فإنما يكون ذلك انتجازاً لوعد ربه واتباعاً لما أذن له فيه من طلبه لفضله وإحسانه وكرمه وامتنانه لا أن رجاءه لحصول ذلك هو الباعث له على القيام بطاعته وملازمته لعبادته وهذا مذهب العارفين الواصلين إلى رب العالمين .
( 93 ) متى أعطاك أشهدك بره ومتى منعك أشهدك قهره فهو في كل ذلك متعرف عليك ومقبل بوجود لطفه عليك .
أي متى أعطاك مولاك - أيها المريد - ما تريد أشهدك بره أي صفاته البرية التي تقتضي البر : من الجود والكرم واللطف والعطف ونحو ذلك . ومتى منعك أشهدك قهره أي صفاته القهرية التي تقتضي القهر : كالكبرياء والعزة والاستغناء . فهو في كل ذلك أي في كلتا الحالتين متعرف إليك أي مريد منك أن تعرفه بأوصافه الجمالية والجلالية ومقبل بوجود لطفه عليك لأن مشاهدتك لصفات برته وقهره لطف عظيم منه سبحانه بك ونعمة منه عليك . فإنه لا سبيل إلى معرفته إلا بتعرفه لعباده ولا يكون ذلك إلا بمقتضى صفاته سواء كان ذلك موافقاً لطبعهم وهو الإعطاء أو مخالفاً له وهو المنع . فمن كان عارفاً بربه لم