إسماعيل بن بوري بن طغتكين شمس الملوك صاحب دمشق ساءت سيرته وصادر الناس وأخذ أموالهم وولى عليهم رجلاً كردياً يقال له بدران عاقبهم وعذبهم أنواع العذاب وظهر من شمس الملوك شح زائد وقتل غلمان أبيه وجده وأخذ أموالهم فكتب أهل دمشق إلى زنكي يسألونه الحضور إليهم وشرع في التأهب فكتب : لا تجمع ولا تحشد تعال بسرعة وأنا أسلم إليك البلد بعد أن تمكنني ممن في نفسي منهم من أهلي ! .
ووالى المكاتبة إليه بخطه : لئن لم تقدم وإلا سلمت البلد للفرنج ! .
وشرع في نقل أمواله وذخائره إلى قلعة صرخد وقبض على جماعة من الأعيان فاتفقوا على قتله وأرسلوا إلى أمه زمرذ خاتون وقالوا : قد عزم على قتلنا وقتلك وغداً يجيء زنكي ويحكم علينا وعليك . فدخلت عليه ولامته وقالت : أنت تكون سبب خراب هذا البيت فارجع إلى سيرة أبائك ! .
فأسمعها كلاماً قبيحاً وتهددها فأرسلت إليهم وقالت : دونكم وإياه ! .
فرتبوا له جماعة من الغلمان باتفاق أمه وقتلوه في دهليز قلعة دمشق في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسمائة . وأجلست أمه أخاه شهاب الدين محمود مكانه وجاء قسيم الدولة زنكي إلى حمص وبلغه الخبر فبعث رسولاً إلى دمشق بتسليمها فرده شهاب الدين وأمه رداً جميلاً فلم يلتفت وجاء بعساكره فخيم بين القصير وعذراء وكان يزحف كل يوم على أهل البلد ويتقاتلون وأقام مدة ولم يظفر بطائل واتفق وصول رسول الإمام المسترشد يأمره بالرحيل إلى بغداد فرحل وأقامت زمرذ خاتون تدبر الملك مدةً ثم تزوجها بعد ذلك زنكي ونقلها إلى حلب فصار معين الدين أنر أحد مماليك طغتكين يدبر دمشق . وكان شمس الملوك المذكور شهماً شجاعاً مقداماً مهيباً وسيرته أول ولايته أحسن السير أشغر بلاد الفرنج بالغارات وإنما تغيرت سيرته آخراً وارتكب القبائح وبالغ في الشح وأخذ الحقير بالعدوان والظلم . ومات بدران الكردي المذكور قبله بثمانية أيام بأمراضٍ خرجت في نحره وربا لسانه وخرج على صدره .
ابن جامع المغني .
إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة أبو القاسم المكي كان قد قرأ القرآن وسمع الحديث ثم ترك ذلك واشتغل بالغناء . قال : لحقتني ضائقة شديدة بمكة فانتقلت إلى المدينة فخرجت ذات يومٍ وما أملك إلا ثلاثة دراهم وإذا بجاريةٍ على رقبتها جرة تريد الركي وهي تقول من الطويل : .
شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا : ما أقصر الليلَ عندنا .
وذاك لأن النوم يَغشْى عيونهم ... سِراعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا ! .
إذا ما دنا الليل المضِرُّ بذي الهوى ... جزِعنْا وهم يستبشرون إذا دنا .
فلو أنّهم كانوا يلاقون مثلمَا ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا .
قال : فأخذ غناؤها بقلبي ولم يدر لي منه حرف . فقلت : يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك ؟ فلو شئت أعدت . قالت : حباً وكرامةً . ثم أسندت ظهرها إلى جدار وانبعثت تغنيه فما دار لي منه حرف . فقلت : لو تفضلت مرةً أخرى ! .
فقطبت وكلحت وقالت : ما أعجب أمركم ! .
يجيء الواحد منكم إلى الجارية عليها الضربية فيشغلها عن ضريبتها ! .
فرميت إليها بالثلاثة دراهم فأخذتها وقالت : أحسبك تأخذ بهذا الصوت ألف دينار وألف دينار وألف دينار . ثم أعادته ففهمته . ثم سافرت إلى بغداد وآل الأمر إلى أن غنيت الرشيد بالأبيات فأعطاني ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار فتبسمت . فقال : ما لك ؟ فأخبرته خبر الجارية .
وكان منقطعاً إلى موسى الهادي هو والحراني فضربهما المهدي وطردهما . فلما مات المهدي أمر الهادي الفضل بن الربيع فبعث إلى ابن جامع وأقدمه من مكة وأنزله قريباً من قصره واشترى له جارية وأحسن إليه . فذكره موسى ذات ليلة فقال لجلسائه : أما كان فيكم أحد يعرف موقع ابن ماجة من نفسي فيرسل إليه ؟ فإذا ذكرته دعوت به . فقال الفضل : هو والله عندي يا أمير المؤمنين وأمر بإحضاره . ووصل الفضل بعشرة آلاف دينار وولاه حجابته .
وقال صاحب الأغاني : كان ابن جامع أحسن المغنين في أيامه صوتاً وأقواهم طبعاً وأصحهم صنعة وكان إذا صاح قطع أصحاب النايات وغناؤه نحو من خمسمائة صوت . ولم يؤخره عن طبقة القدماء إلا جهله بالوتر وهو من المعدودين في صحة التأليف وسلوك أساليب الحذاق المطبوعين ومن الرواة المذكورين