وإِن أوجَبَ انتفاءَ المجيء عن غيرِه فليس يوجِبُه من أجلِ أنْ كان ذلك إِعمالَ نفيٍ في شيءٍ . وإِنما أوجَبَه من حييثُ كان المجيءُ الذي أخبرتَ به مَجيئاً مخصوصاً إِذا كانَ لزيدٍ لم يكنْ لغيره . والذي أَبيناهُ أن تنفيَ بلا العاطفةِ عن شيءٍ وقد نفيتَه عنه لفظاً .
ونظيرُ هذا أنّا نعقلُ من قولنا : زيدٌ هو الجائي . أن هذا المجيءَ لم يكن من غيرِه ثم لا يمنعُ ذلك من أن تجيءَ فيه بلا العاطفةِ فتقولَ : زيدٌ هو الجائي لا عمرٌو . لأنَّا لم نعقلْ ما عَقَلْناه من انتفاءِ المجيءِ عن غيرِه بنفيٍ أوقَعناه على شيءٍ ولكنْ بأنَّه لمّا كانَ المجيءُ المقصودُ مجيئاً واحداً كان النصُّ على " زيدٍ " بأنه فاعلُه وإِثباتُه له نفياً له عَنْ غيرِه ولكنْ من طريقِ المعقولِ لا من طريقِ أن كانَ في الكلامِ نفيٌ كما كان ثَمَّ فاعرْفه . فإِنْ قيل : فإِنَّك إِذا قلتَ : ما جاءني إِلاّ زيدٌ . ولم يكن غرضُك أن تنفيَ أن يكونَ قد جاءَ معه واحدٌ آخرُ كان المجيءُ أيضاً مجيئاً واحداً . قيلَ : إِنه وإِنْ كانَ واحداً فإِنَّك إِنما تُثْبِتُ أنَّ زيداً الفاعلُ له بأنْ نفيتَ المجيءَ عن كلِّ مَنْ سوى زيدٍ كما تصنعُ إِذا أردتَ أن تنفيَ أن يكون قد جاءَ معه جاءٍ آخرُ . وإِذا كان كذلك كانَ ما قلناهُ من أنَّك إِنْ جئتَ بلا العاطفةِ فقلتَ : ما جاءني إلاّ زيدٌ لا عمرُو كنتَ قد نفيتَ الفعلَ عن شيءٍ قد نفيتَه عنه مرةً صحيحاً ثابتاً كما قلنا فاعرفْه .
واعلمْ أنَّ حكمَ " غير " في جميعِ ما ذكرنا حكمُ " إِلا " فإِذا قلعت : ما جاءني غيرُ زيدٍ احتملَ أن تريدَ نَفْيَ أن يكونَ قد جاءَ معه إِنسانٌ آخرُ وأن تريدَ نفيَ أن لا يكونَ قد جاءَ وجاءَ مكانه واحدٌ آخرُ . ولا يَصِحُّ أن تقولَ : ما جاءني غيرُ زيدٍ لا عمرٌو . كما لم يَجُزْ : ما جاءني إِلاّ زيدٌ لا عمرٌو .
فصل في نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه ب " ما " و " إلا " .
اعلمْ أنَّ الذي ذكرناه من أنك تقولُ : ما ضَرَبَ إِلاّ عمرٌو زيداً . فَتُوقِعُ الفاعلَ والمفعولَ جميعاً بعد إِلاّ ليس بأكثَرِ الكلام وإِنَّما الأكثرُ أن تقدِّم المفعولَ على " إِلاَّ " نحوُ : ما ضربَ زيداً إلاّ عمرٌو . حتى إِنّهم ذهبوا فيه أعني في قولكَ : ما ضربَ إِلا عمرٌو زيداً