جعل الألفاظَ الأصْلَ في النظمِ وجعلَه يَتوخَّى فيها أنفسَها وتركَ أن يفكِّرَ في الذي بيّناه من أن النظمَ هو توخِّي معاني النحو في معاني الكلم وأن توخِّيَها في متونِ الألفاظِ محالٌ . فلما جعلَ هذا في نفسِه ونَشب هذا الاعتقادُ به خرجَ له من ذلك أن الحاكي إذا أدَّى ألفاظَ الشعر على النَّسق الذي سَمِعها عليه كان قد حَكى نظمَ الشاعر كما حكى لفظه . وهذه شُبهةٌ قد ملكت قلوبَ الناس وعشَّشتْ في صُدورِهم وتشَرَّبتها نفوسُهم حتى إنكَ لترى كثيراً منهم وهو من حلولِها عندهم محلِّ العلم الضروري بحيثُ إنْ أومأتْ له إلى شيءٍ مما ذكرناه اشمأزَّ لك وسَكَّ سمعَه دونَك وأظهرَ التعجبَ منك وتلك جريرةُ تركُ النظر وأخذِ الشيءِ من غيرِ معدنِه . ومنَ الله التوفيق .
فصل في ضرورة ترتيب الكلام ونسبته إلى صاحبه .
اعلمْ أنّا إذا أضفنا الشعرَ أو غيرَ الشعر من ضروب الكلامِ إلى قائِلِه لم تكن إضافتُنا له من حيثُ هو كَلِمٌ وأوضاعُ لغةٍ ولكنْ من حيثُ تُوخِّيَ فيها النظمُ الذي بيّنا أنه عبارةٌ عن تَوخّي معاني النحو في معاني الكلم وذاك أنَ من شأن الإِضافة الاختصاصِ فهي تتناولُ الشيءَ من الجهة التي تختصُّ منها بالمضاف إليه . فإذا قلتَ : غلامُ زيدٍ تناولت الإضافةَ للغلام من الجهة التي يختصُّ منها بزيدٍ وهو كونُه مملوكاً . وإذا كان الأمرُ كذلِك فينبغي لنا أن ننظرَ في الجهة التي يختصُّ منها الشعر بقائله . وإِذا نَظَرْنا وجدناه يختصُّ به من جهةِ توخِّيهِ في معاني الكَلِم التي ألَّفه منها ما توخّاه من معاني النحو . ورأينا أنفسَ الكَلِم بمعزلٍ عن الاختصاصِ ورأينا حالَها معها حالَ الإبريسَم مع الذي يُنْسَج منه الدِّيباجُ وحالُ الفضة والذهبِ مع من يصوغ منهما الحُلِيَّ فما لا يشتبهُ الأمْرُ في أنَّ الديباجَ لا يختصُّ بناسِجِه من حيثُ الإِبْرِيسَمُ والحُليُّ بصائغها من حيثُ الفضةُ والذهبُ ولكن من جهة العملِ والصنعة كذلك ينبغي أن لا يشتَبِه أنَّ الشعرَ لا يختصُّ بقائله من جهةِ أنفُسِ