( ومَا أنا أَسْقَمْتُ جِسْمي بِهِ ... وَلا أنا أَضْرَمْتُ في القَلْبِ نارا ) .
المعنى : كما لا يَخفي على أن السُّقمَ ثابتٌ موجودٌ وليس القصدُ بالنفي إليه ولكنْ إلى أن يكونَ هو الجالبُ له ويكون قد جَرَّه إلى نفسه .
ومثلُه في الوضوحِ قولُه - طويل - : .
( وما أنا وحْدي قلتُ ذا الشّعر كلَّهُ ... ) .
الشعرُ مقولٌ على القَطْع والنفَّي لأنْ يكونَ هو وحدَه القائلَ له .
وهاهنا أمران يرتفعُ معهُما الشكُّ في وجوبِ هذا الفرقِ ويصيرُ العلمُ به كالضَّرورة .
أحدهما أنه يصحُّ لك أن تقولَ : ما قلتُ هذا ولا قالَه أحدٌ من الناس . وما ضربتُ زيداً ولا ضربَه أحدٌ سواي . ولا يصِحُّ ذلك في الوجهِ الآخر . فلو قلتَ : ما أنا قلتُ هذا ولا قالَه أحدٌ من الناس . وما أنا ضربتُ زيداً ولا ضربه أحدٌ سواي كان خُلْفاً من القول وكان في التَّناقضِ بمنزلةِ أن تقولَ : لستُ الضاربَ زيداً أمسِ . فَتُثْبِتُ أنه قد ضُرب ثم تقولُ من بَعده : ما ضَربه أحدٌ من الناس ولستُ القائلَ ذلك . فتثبتُ أنه قد قيلَ ثم تجيءُ فتقولُ : وما قالَه أحدٌ من الناس .
والثاني منَ الأمرين أنّك تقولُ : ما ضربتُ إِلاّ زيداً فيكونُ كلاماً مستقيماً ولو قلتَ : ما أنا ضربتُ إلاّ زيداً كان لَغْواً منَ القول وذلك لأن نقضَ النَّفي بإِلاّ يقتضي أن تكونَ ضربتَ زيداً . وتقديمُك ضميرَك وإِيلاؤه حرفَ النفي يقتضي نفيَ أن تكونَ ضربتَه فهما يتدافعان فاعرِفْه .
ويجيءُ لك هذا الفَرقُ على وجهه في تقديمِ المفعولِ وتأخيرِه . فإِذا قلتَ : ما ضربتُ زيداً فقدمتَ الفعلَ كان المعنى أنك قد نفَيْت أن يكونَ قد وَقَعَ ضربٌ منك على زيدٍ ولم تَعْرضْ في أمرٍ غيرِه لنفيٍ ولا إثباتٍ وتركتَه مُبهماً مُحتملاً . وإذِا قلتَ : ما زيداً ضربتُ فقدمتَ المفعولَ كان المعنى على أن ضرباً وقَعَ منك على إنسانٍ وظُنَّ أنَّ ذلك الإِنسانَ زيدٌ فنفيتَ أن يكون إيَّاه . فلكَ أن تقولَ في الوجهِ الأول : ما ضربتُ زيداً ولا أحداً من