قال أبو هلال العسكري وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجة ويبنى عليها فإنه لا يعذر في شيء منها لإجماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها واستجادة ما يضح من الكلام ويستبين واسترذال ما يشكل منه ويستبهم وقد كان عمر Bه يمدح زهيرا بأنه لم يكن يعاظل بين الكلام .
قال في المثل السائر والفرزدق أكبر الشعراء تعاظلا وتعقيدا في شعره كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا مقصودا وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد بدليل أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما .
الضرب الثاني من التعقيد ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم بحسب اللغة إلى الثاني المقصود لإيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود كقول العباس بن الأحنف .
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا ) .
يريد إني أطلب بعد الدار عنكم لتقربوا مني وتسكب عيناي الدموع لتجمد وتكف الدمع بحصول التلاقي والمعنى أني طبت نفسا بالبعد والفراق ووطنت نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق وأتجرع الغصص وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدموع من عيني لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم ومسرة لا تزول فتجمد عيني ويرقأ دمعي فإن الصبر مفتاح الفرج فكنى بسكب الدموع عن الكآبة والحزن وهو ظاهر المعنى لأنه كثيرا ما يجعل دليلا عليه يقال أبكاني الدهر وأضحكني بمعنى ساءني وسرني وكنى بجمود العين عما يوجبه دوام التلاقي من الفرح والسرور فإن المتبادر إلى الذهن من جمود العين بخلها بالدمع عند إرادة