/ صفحه 234/
الحيوان الأعجم، واضطربت به شئون الحياة، واختلت موازينها، ووقف به العالم على شفا حفرة من النار والدمار، فلما بزغت هذه الشمس الساطعة بدد الله بها هذا الظلام الدامس، وأحيى بها تلك القلوب الميتة، وسلط شعاعها الوهاج على كل ناحية من نواحي الحياة، وألف بها بين المتنافرين، وأصلح بين المتخاصمين، واستل العداوات التي انهكت القوى، وانتزع السخائم التي عطلت المواهب، وطغت على العقول، فإذا امة ناشئة فتية متحدة متعاونة ترفع بيمينها راية الإصلاح العالمي في العقيدة والشريعة والنظام والسياسة والعلم والخلق، وتهدي للتي هي أقوم، وتنادي بالحق والعدل، وتحارب الفساد والظلم، وتعلن لأول مرة حق الإنسان في أن يعيش حراً كما خلقه الله، وحق العقل في أن ينطلق حراً في مجال الكون، يفكر ويتتبع ويستقرئ فيستدل ويستنبط، وحق المجتمع في نعمة الأمن والطمأنينة والقرار.
وانطلق المسلمون الأولون يحملون هذه الراية، وينشرون هذه الرسالة، فتفتحت أمامهم ابواب العالم، وانطوت فيهم المدنيات، وتمثلت في ثقافتهم الثقافات، كما تتمثل في جني النحل أزاهير النبات، واعاصير الثمار، وولجوا بالقرآن كل باب، واستجلوا بالسنة المطهرة كل غامض، وكانت عقولهم صافية، وقلوبهم صافية، فلم تعبث الأوهام والخرافات بالأولى، ولم تفسد الأضغان والأحقاد أمر الثانية، فكانوا في العلم والفكر هداة راشدين، وفي التعاون والتضافر على الحق والخير مثلاً عليا للمتقين، ووقف العالم ينظر إليهم مذهولاً مشدوهاً، وأحس أرباب السلطان وأعوان الطغيان، بالارض تميد من تحتهم، وتضطرب بهم، وأدرك الباطل والفساد أن قوة لا تقاوم تزلزل عليهما عرشهما، وتقوض بناءهما، وأن مصيرهما أمام هذه القوة هو الانهزام والاندحار، أو التسليم والاستخذاء، فآثرا الأخرى على الأولى، وخفضا رأسيهما إلى حين، حتى إذا واتتهما الفرصة حين أثمرت عوامل التفرق الأول بين المسلمين ثمارها، وتقطعت الأواصر، واستُلت سيوف الأخوة على الأخوة، بدا قرن الفتنة،