/ صفحه 143/
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبقها في الحياة العملية، إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم، فلا يركعوا لأقوياء، وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم، فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء وهذا مطلب ليس باليسير، وإن كان هو جوهر الإسلام.
ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء، لا من من أصحاب السيطرة، كبلالٍ وأمثاله، لأنهم وجدوا في الإسلام تحررا من عبوديتهم لغير الله. وكان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة والتأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا أخيراً، وبعد عناد طويل، كأبى سفيان بن حرب في مكة، أو إسلاماً ظاهراً بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبد الله بن أبّى في المدينة، وأكبر سبب في تأخرهم، أنهم رأوا الإسلام يفقدهم تألههم وعظمتهم وربوبيتهم.
ولما فتح المسلمون فارس والروم، كان أغرب ما استرعى انظارهم، عبادة الرعية لسادتهم، لما وقر في نفوسهم بسبب الإسلام من أنه لا معبود إلا الله، والقر آن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أرباباً، أو خلعوا القدسية والربوبية على رؤسائهم الدينيين. وكانت دعوة الإسلام دائما دعوة إلى عبادة الله وحده وعدم الاعتراف بربروبية أحد غيره "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ذلا نعبد إلا الله ولا نشرك به ولا يتخذ بعضنا يعصا أرباباً من دون الله".
ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتزار بالجاه، والاعتزاز بالمال، لأن كل ذلك من ضروب التأليه، والاسلام عدو كل تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع من أول عهد معاوية أو قبله أحيانا، فعاد الاعتزاز بالحسب والنسب، وأصبح ملك معاوية ـ كما عبر كثير من المسلمين ـ ملكا عضوداً فيه اعتسافٌ وفيه تأله، وخاصة من أهل بيته، وعادت الفروق بين الطبقات قريبا مما كانت في الجاهلية، وتتابع الأمر على هذه الحال، وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله،