/ صفحه 228/
وتَرْعَشُ من الكبَر أو المرض يداه، فتحل له الحي، ويوطا له مجلس الصدارة، ويقبل عليه السلطان بوجهه منصتا لحديثه، فإذا هو يراجعه في أمْرٍ أمَر به، أو ينكر عليه فعلا صدرعنه أو عن أحد عماله ويقول له على مرأى ومسمع من بطانته ورجاله: ليس هذا في مصلحة المسلمين فاتق الله وارجع عنه، فإنك واقف بين يديه غدا، وإنه محاسبك على ما قدَّمت، وسائلك عما حفظت أو ضيعت.
وقد قال قائل يوماً لسليمان بن عبد المللك: يا أمير المؤمنين إنه قد تكَّنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فانهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة كسفا وخسفا، وأنت مسئول عما اجترموا، وليسوا مسئولين عما اجترمت، فلاُ تصِلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله غَبْنا من باع آخرته بدنيا غيره.
وكان الملوك يسمعون ذلك راضين به، متقلبين النصح فيه،‌لنقتهم أن الباعث الله، والمقصد الله، فقليلا ما سمعنا أن أحدهم أخذته العزة بالإثم، فتجهم للناصح الأمين، أو أذن لقالة سوء فيه ينطق بها أحد الملقين من بطانته، أو الحاسدين من جلسائه، فإذا حدثت أحدهم نفسه بأن يستكبر عن النصح أو ينأى بجانبه عن الحق، أو يأخذ المتجريء بما يردعه من عقوبة، تردد في ذلك، وهاب الإقدام عليه، كأنه الأعزل الجبان، حمل على منازلة الليث والليث غضبان.
وقد حفظ التاريخ موقفا عجيبا لسلطان العلماء عزالدين بن عبد السلام ذلك أن جماعة من أمراء المماليك بالديار المصرية لم يثبت عهده أنهم أحرار، فأفتى بأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين ولم يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحا، حتى باعهم واحدا واحدا، وقبض لبيت المال أثمانهم مغاليا فيها، ثم اعتقهم من اشتراهم فصاروا بذلك أحرار، وأفتى بنفاذ تصرفاتهم من بعد.
تلك كانت سنة الأولين: شجاعة في قول الحق، وشجاعة في تقبله، واعتصام بالله عن كل ما