/ صفحة 142 /
البالغة من المسلمين المتسلطين على هذا البيت المقدس الذي هو قبلة المسيحيين، ومركز عواطفهم الدينية، فكانوا يسيرون في الطرقات لهم عواء كما تعوى الذئاب الجائعة، وقد عقلوا الصلبان الحمراء على صدورهم، ويقولون (كذا أراد الله).
عزموا من لدن ذلك الحين على النضال في سبيل هدم الإسلام، وزلزلته عن مكانة العزة والقوة التي اكتسبها بتاريخه الناصع، ووطد دعائمها، وهدد بها كيان العالم المسيحي، واستولى على مقدساته، فاجتمعت جماهير العامة تحت قيادة بطرس الراهب، ثم اجتمعت بعد ذلك جيوشٌ أربعة كثيفة، مؤلفة من أشرافهم، واشتعلت نيران هذه الحروب الظالمة بينهم وبين المسلمين ينفخ فيها شيطان الحقد والحسد، وظلت رحاها تدور سجالا بين الفريقين قرابة قرنين من الزمان تجلي في أثنائهما أهل أوربا بالعداوة الصريحة، والتعصب الذميم، والوحشية الكاسرة التي لا تعرف الرحمة ولا تذعن لقواعد الشرف، ولا تبتغي إلا البطش والإهلاك والتدمير ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
ثم أراد الله جلت حكمته أن تهن عزائم الموقدين لهذه النار، وأن يصابوا بالهزائم تلو الهزائم، وبالنكبات تلو النكبات، فكفوا عن حروبهم الظالمة، وكفى الله المؤمنين القتال، عادت السيوف إلى أغمادها، ولكن لتثار حروب أخرى يعرفها أهل أوربا جيدا، ويتقنون أساليبها، وهي حروب الفتن والدسائس وإغراء العداوة بين المسلمين، وتحريض بعضهم على بعض، حتى إذا اشتغلوا بأنفسهم ولهوا عن أعدائهم، وزاغت منهم القلوب والأبصار، جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، فلم يستطيعوا لهم دفعا، ولم يملكوا لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
على هذا الأساس وضعوا خطتهم، وأعلنوا هُدنتهم أو خدعتهم، فلم يكن سكوتهم عن الحروب الصليبية إلا سكوت السيف والمدفع، لينطلق شيطان الإفساد والفتنة والنفث في العُقَد، وضِراراً وكفوا وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وأفلحوا في خطتهم هذه ما لم يفلحوا في عزمتهم تلك، فدبَّ إلى المسلمين داؤهم، وسرت فيهم سمومهم، وشغلتهم حروب الطائفية،