/ صفحة 78/
فكان علىّ يرى هذا حقا له لا حرج عليه في الاغضاء عنه، جمعا للكلمة، وحذراً من الفرقة، وقد تخلف أيضا سعد بن عبادة الانصارى عن بيعة أبي بكر، ومضى على رأيه في أنه أحق بها منه لأنه من الانصار، فلم يجبره أبوبرك على بيعته، ولم ير في تخلفه عن بيعته ما يقدح في دينه، لأن هذا خلاف سياسى لا شأن له بالدين، وكذلك لم ير سعد في استئثار أبي بكر بالخلافة دونه مطعنا في دينه، فلم يتغال في خلافه، ولم يتجاوز به حد ما عرفوا به من السماحة، ولم يكن منه الا أن خرج إلى الشام فأقام بها، وقد مكث بها إلى أن توفي بحوران سنة خمس عشرة من الهجرة، وقيل انه توفي ببصرى.
وكذلك كان علي بن أبي طالب مع من خرج عليه في خلافته، لأنه قبل التحكيم مع معاوية، فرأى أن خلافته الثابتة لا يؤثر فيها قبوله التحكيم فتسامح بقبوله قطعا لحجة مخالفيه، وكان يقول لهم: ان لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفىء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدءونا.
فكان علي بن أبي طالب يرى في أولئك الخوارج هذا الرأي السمح الذي يليق بالمسلمين الاولين، مع أنهم يرون فيه رأيهم الباطل لرضاه بالتحكيم، فكانوا أول من سنّ بدعة التنطع في الدين وأول من خرج على أخوة الايمان، وبعد عن أخذ الأُمور بالمرونة والسماحة، لأن الواحد منهم كان يرى الرأي والسيف في يمينه، يحاول به حمل الناس عليه، ويقاتل به من يخالفه فيه.
ولم تزل بدعتهم تنتشر بين المسلمين حتى تمكنت من نفوسهم جميعا، وصاروا أقرب إلى التنطع في الدين والساسية منهم إلى المرونة والسماحة فيهما، وقد آن لنا أن نرجع في أمورنا إلى سماحة سلفنا الصالح، لتصلح أحوالنا، وتتطهر بالمحبة نفوسنا، وتصفو بالمودة قلوبنا.