/ صفحه 389/
قال: ولكان حريا أن يفقد كثيراً من سلامة طبعه، ومقومات فصاحته، وما كان كسبه في علوم اللغة بمعوض خسارته شيئا من فطرته القويمة الغنية عن النحو والصرف... إن الجاحظ ليتحدث إلينا عن بدوى نزل عليهم وأقام معهم وحرص على أن تكون داره في أحد أطراف البلد حيث تمتد الصحراء فهو لم يتعمق في الحاضرة، ولم يهجر البادية هجراً تاماً، ولم يخالط غير الجاحظ وأضرابه من أصحاب اللغة والادب، ومع هذا لم يبق ـ من حيث سلامة اللغة ـ هو الذي وردهم يوم ورد... إنه لخير لصاحبنا الذي لم يفقه "فعل فعول" أن يظل هكذا جاهلا كلام الترك والروم. خير له دون شك أن يظل حراً في لغته، وليت شعرى ما جدواه من القواعد أو السلاسل والاغلال إلا أن تعوقه وتعوق حركاته الخفيفة الرشيقة؟ دعه طليقاً ينطق ما قد يبدو خطأ إذا أنت أخضعته لاحكام النحاة وإنهم لمضطرون إلى أن يحتالوا فيوائموا بين منطوقي أبي علاثة وبين قواعدهم وإنه لغير مضطر إلى أن يأخذ مقوله بمعيارهم.
قلت: ما أحسب "كتاب النحاة" غادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قال: إنه لكتابك يوم تلقى ربك ـ أو كشف الحساب ـ هذا الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها. فأما "كتاب النحاة" أعني مجموع كلامهم بما فيه ما لم يصلنا ـ فقد غادر ما شئت من صغيرة وكبيرة، ألم يمت علم من أعلام النحو في قلبه
من "حتى"
ترغب إليه ـ ملحة الرغبة ـ في أن يضم إليها متعلقاتها كاملة غير منقوصة، ولكنه يموت قبل أن يشبع رغبة حتى. ألا وإن حروفا أخرى كثيرة لتمسك برقاب البصريين والكوفيين، ناعية عليهم أنهم فرطوا في ذواتها، أو قسطوا عليها فأكلوا حقوقها أو منحوها غير مستحق ففرطوا وأفراطوا. فهذه الاسماء الخمسة أو الستة وهي شخوص قائمات بذواتها أو قل دولة مستقلة، ذات سيادة لا تابعة لسيادة أخرى، ولكنك ترى أصحاب النحو يعدون على هذه الدولة المستقلة، ويأبون إلا أن ينزلوها منزلة التوابع فيلحقوها بدولة