/ صفحه 98/
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فقال جبرئيل (عليه السلام): صدق من سماك الرؤوف الرحيم.
نعم صدق من سماه الرؤوف الرحيم، لان مثل هذا لا يكون إلا من قلب غمره البر بالناس كافة، فليس فيه شيء من الحقد عليهم، حتى يستعجل هلاكهم، ويشفي حقده بما يراه من عذابهم، وهكذا قال: "اللهم اهد قومي" فطلب الهداية لهم، ولم يطلب هلاكهم، وأضافهم إليه إضافة تقريب وحنان، وهو في أشد حلات الكرب، وقد طلب المعين فلم يجده، بل وجده أقسي عليه ممن طلب إعانته عليه، ثم قال "فإنهم لا يعلمون" فالتمس بعض العذر لهم، وإن كانوا لا يعذرون إذا ماتوا وهم على كفرهم، لانه كان لا يزال يطمع في أن يؤثروا الايمان في يوم من الايام، لانهم لا يمنعهم من الايمان به إلا الجهل الذي طال به الامد، فلا بد له من زمن يثابر فيه على علاجه، ويأخذهم فيه بالدليل والإقناع، فليس من يكفر عن جهل كمن يكفر عن عناد، لان من يكفر عن جهل يفيد فيه العلاج، ومن يكفر عن عناد لا علاج له.
ثم ضرب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)مثلا آخر لبر المخالفين، وهذا بعد أن هاجر من أذى قومه، وقامت الحرب بينه وبينهم، وقد كال لهم فيها أكثر مما كالوا له، ولكنه بعد انتصاره عليهم لم يشأ أن يمضي في حربهم، لانه لم يحمله عليها عداوة لهم وإرادة انتقام منهم، وإنما كانت حرباً دفاعية لحماية الدعوة، فلما ذهب فيها من ذهب من قومه أشفق عليهم من الفناء، فحنا عليهم مع عداوتهم له، لانه لم يكن يحمل لهم حقداً ولا ضغنا، بل كان لا يزال طامعاً في هدايتهم، مع ما قام من الحرب بينه وبينهم.
و قد كان هذا المثل في صلح الحديبية، وكان قد سار إلى مكة معتمراً لا يريد حربا، فعزم قومه على صده عن المسجد الحرام، وأرسلوا خالدبن الوليد في مائتى فارس طليعة لهم، فلما بلغ النبي ذلك قال: يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك