/ صفحه 150/
على التماس العذر لهم، متسللا من ذلك إلى نقاش هادىء، وجدل كريم أسائلهم فيه عسى أن أجد منهم مجيبا:
(ا) ما العامية التي تدعون إلى اصطناعها بدلا من الفصحى؟ أعامية الصعيد في مصر، أم عامية الوجه البحري؟ أيهما ندع أو نختار؟ وإذا قلتم إنهما متشابهتان أو متقاربتان فما عسى أن تقولوا في عامية السودان وبلاد المغرب، وهي عاميات نسمعها فلا نكاد نفهم منها قليلا ولا كثيرا؟ وما ذا نصنع بعامية الشام، ولبنان، واليمن، والعراق، وأخواتها؟ أنصطنع هذه العاميات جميعا أم نتخير منها واحدة لنفرضها على سواها؟ وما مقياس الإيثار والترك؟ لا شك أن اختيارها جميعا عناءيهون دونه كل عناء، وضرب من الهذر لا يقول به عاقل، واختيار واحدة دون الأخرى - إن أمكن تحقيقه - لن يتم الانتفاع به إلا بضبط حدوده، ووضع قواعد له كقواعد الفصحى، أو أشد عسرا وتعقيدا، فإذا تم لنا ذلك فسوف نسائل أنفسنا: ما التيسير الذي كسبناه من استبدال قواعد بقواعد، وضوابط بأخرى أشبه بها أو أصعب منها؟
(ب) وهل فطن أولئك الدعاء إلى أن العامية لا تثبت على الزمان، ولا تعمر طويلا، وإنما تتغير بتغير الأجيال، وينتابها التزيد والتحيف في الأحيان المتوالية، إذ لا حارس يدفع عنها الدخيل، ولا قيم يصونها مما يمتزج بها من الغريب، فهي كبيت مفتوح النوافذ والأبواب من سائر جهاته، لا عائق يمنع داخله، أو يصد قاصده، فلا يلبث أن يمتليء بالأوشاب والأخلاط، لا تجمعهم جامعة، ولا تؤلف بينهم رابطة، كذلك العامية القائمة لا تلبث بعد زمن يطول أو يقصر أن تتحول إلى عامية جديدة، تتطلب فهما جديدا، وضوابط مستحدثة، وهكذا دواليك، حينا بعد حين وفي هذا ما فيه من عناء موصول متجدد، وجفوة تاريخية بين حاضر الأبناء وأسلافهم، وقطع للصلات الروحية والمادية بين هؤلاء وأولئك، وتنكر للتراث القديم النفيس، وإغفال لما يبثه في النفوس من معاني النبل والشرف، والفضيلة في أسمى أوصافها، وأجمل معانيها.
(ج) وهل أدرك الدعاة ما هو أشد خطرا وأفدح ضررا من ذلك كله، ألا وهو تمزيق الوحدة العربية، وتقطيع الروابط الوثيقة التي تربط الناطقين بالضاد أفرادا