/ صفحه 370/
المجازات التي يظهر فيها التجوز فبعضها يخترعه الكاتب البليغ، وهو مأخوذ من عقله وإحساسه وعلمه، وضرب من المجاز ينشأ ث يشيع وتتداوله الأجيال حتى يصير مظهرا لبيان الأمة وخيالها، لا لخيال كاتب أو متكلم، كالذي ورثناه في لغتنا العربية عن بلغاء الجاهلية والإسلام، وهذا جدير بالاستعمال، ولا عيب على الكاتب من استعماله، فإن لغات الأمم الإخرى حفظت كثيراً من عاداتها القديمة وتاريخها كاللغة الانجليزية والفرنسية، ثم ضرب أمثلة منهما، وهو يخشى أن

ــــــــــ
(1) مجلة الرسالة، العدد 7 ص 5، 6.

تكون هذه الدعوة دعوة إلى هجر القديم، ونحن أحوج مانكون إلى التمسك بالقديم في هذا العصر، عصر الفتن.
وقد لفت نظري في كلمة أحمد أمين قوله: ((ويبكي الأطلال ولا أطلا ل)) وهي عبارة بتناها كثير من دعاة التجديد، يعيبون بها من يسمونهم المقلدين أو المحافظين ولقد بالغ ناقد لبناني في ثلب شوفي، والتنقص من أدبه، حين قرأ بعض قصائده فرآها مبدوأة بذكر الأطلال. والبكاء عليها، وتساءل هل هو يطالع قصيدة جاهلية أم عصرية؟ والتمس العذر لامرىء القيس إذا بكى واستبكى، ولكنه لا يعذر شوقي إذا فعل ذلك(1).
وعندي أن هذا الناقد وأضرابه منساقون وراء رغبتهم في الجديد، وأنهم أحياناً لا يهتدون إلى وجه الحق في المسائل التي تتصل بالقديم، وهم دائماً يعممون في أحكامهم; ذلك أنه ليس العيب أن يبكي الشاعر الديار، وأن يقف عندها، وأن يذكر ماضيها وما كانت عليه، ومن كان فيها من أحباب، فهذا ليس قصراً على عصر دون عصر، فليست الديار التي يترحل عنها أهلها، ويهجرها ساكنوها هي ديار الجاهليين فحسب، بل توجد تلك الديار في كل عصر وفي كل مصر، فإذا اتفق لشاعر أن تخلو دار أحبابه من ساكنيها، وقد وفد إليها فوجدها خاوية على عروشها لا أنيس بها، ومثل هذه الديار تراها حتى في القاهرة نفسها، فلا عيب على الشاعر أن يبكيها، ولا عيب عليه أن يسمى خرائبها أطلالا، ويستعمل العبارات الجاهلية إذا كان لها مدلول فيما يتصل بهذه الدار، ولا عيب عليه إذا نثر دموعه على جدرآنها البوالي، وأن ينادي مابقي من آثارها، ويتمنى ـ كما كان يتمنى الجاهليون، أن تجيب نداءه، لأن هذه كلها عواطف إنسانية، كانت في الجاهلية، وهي في عصرنا الحاضر، وستكون في كل عصر، يترحل بعض

ــــــــــ
(1) ميخائيل نصيمة في كتابه:الغربال ص 123.