إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد

إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد

 

 

إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد

 

مبارك بن سيف بن سعيد الهاشمي

سلطنة عمان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيـد:

الحمد لله الذي جعل الإسلام خير دين أنزل للناس وهدى ورحمة للعالمين ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، والصلاة والسلام على النبي الكريم والرسول العظيم الذي بيّن ما أنزل إليه من ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وعلى آله وصحبه الذين حملوا دين الله ونشروا نوره في مشارق الأرض ومغاربها، فأقاموا العدل في الأرض وحققوا للإنسانية عزتها وكرامتها وخلصوا البشرية من الظلم والطغيان والجور والفساد وطبقوا حكم الله وشريعته في أنفسهم وفي البلاد فسعدت الدنيا بقيادتهم فنعمت بالعدل والحرية والرخاء.

أما بعد:

فإن رسالة الإسلام دائماً وأبداً هي: الهداية الإلهية للبشرية جمعاء هدفها اجتثاث الشرور والمفاسد والقضاء على الانحراف والفساد والدعوة إلى الخير والصلاح بالكلمة الطيبة والعمل الصالح وبالحكمة والموعظة الحسنة التي توقظ القلب الغافل

ـ(590)ـ

وتنبه الضمير اللاهي وتهز الوجدان الوسنان. والدين الإسلامي هو دين الفطرة متوائم مع ميول وطباع الإنسان ومتوافق مع إشباع ذاتيته الجسمية والنفسية في الحدود التي لا تضر به ولا تؤذي غيره، فهو ينظر إلى الإنسان على أنه أرقى مخلوقات الله في الأرض، فهو مكرم بنعمة العقل الذي يميز به بين الخير والشر والحق والباطل والهدى والضلال، وبنعمة الإرادة التي تجعله مسؤولاً عن كل ما يأتي أو يذر ويتحمل نتيجة عمله، فكان جديراً أن يكون خليفة الله في أرضه وأهلّه أن يفتح منه من روحه ويسجد لـه ملائكته تكريماً لوجودة.

اقتضت حكمة الله أن يطلق للإنسان يده في هذه الأرض ومنحه من الاستعداد والطاقة ما يناسب هذه المهمة ويحقق المشيئة الإلهية، وتجعله يكابد في هذه الدنيا ويكد ويكدح ويصيب ويخطىء ويفسد ويصلح فان رواج طبيعته وقدرته على أن يغالب نوازع الشر ودوافع الإفساد وإرادته التي تجعله يختار طريقه ويوجه حياته هو سرّ تكريمه فضلاً عن تسويته على أكمل صورة و أحسن تقويم كما قال تعالى:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.

والإسلام هو الدين الذي أراده الله عز وجل أن ينشيء أمة ذات طابع خاص متميز، قادرة على قيادة البشرية وتحقيق منهج الله في الأرض وإنقاذ البشرية مما تعانيه من العبادات الضالة والمناهج الباطلة والتصورات المنحرفة.

ولا يستطيع الإنسان أن يدرك عظمة وقيمة هذا الدين إلاّ إذا أدرك ذلك الركام الهائل من الفساد والانحلال في مختلف مجالات الحياة يوم ان اختارت البشرية منهجاً غير دين الله يقود حياتها وينظم علاقتها بين الإنسان والكون والحياة..

فالإسلام الذي يتم به إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد لابد أن يستوعب من العناصر ما يسيطر به سيطرة تامة...

ـ(591)ـ

أولاً: على النفس الإنسانية في بواعثها وغاياتها.

ثانياً: على المجتمع في معاملاته ونظمه.

ثالثاً: على الحياة في نشاطها العمراني والاقتصادي.

وعلى هذا الهدف جاء هذا البحث المتواضع ليقف مع غيره من البحوث والدراسات التي تلتقي في هذا الجمع الكريم لإظهار خصائص الإسلام العامة، والعمل على آليته لتحريك هذه الخصائص لتكون في عالم الواقع، وفي الحقيقة ان الجانب الإنساني فيه من أهم الخصائص التي يحتاجها في عصرنا هذا، وذلك بالنظر إلى الفساد والانحراف والتدني الذي هبطت إليه الإنسانية بعد فقدان المنهج الصالح لإنقاذها بالإنسانية غاية ضمن خصائص الإسلام العامة وعلى أساس هذه الغاية تأسست منه أوصرة النوع الإنساني لأنه من مصدر واحد، ومن أصل واحد ومن هنا كان الإنسان في حد ذاته وبمعناه الصحيح وحيثما كان قيمة كبرى بل ومن أجل القيم.

فالعناية به وإصلاح المجتمع الذي يعيش فيه وسلامة أمنه واستقراره وسعادته كما أراد الله عز وجل هو مطلب هذا البحث الذي بدأ بتعريف مفهوم الإنسان في الفكر الإنساني وفي القرآن ثم بصور من المجتمع الإنساني وفق هذين المفهومين، وانتهى بوسائل العلاج والإصلاح التي يجب أن تؤخذ بيد العناية والاهتمام حتى يتحقق البعث الإسلامي من جديد في إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد .

فان الحديث عن إصلاح المجتمع الإنساني يجب أن يسبقه الحديث عن مفهوم الإنسان الذي به تكوّن المجتمع، ولا يسع المقام هنا لبسط الحديث عن هذا المفهوم ولكن أشير إليه على وجه الإجمال ليكون مدخلاً للحديث عن المجتمع الإنساني.

وقضية خلق الإنسان وعناصر تكوينه ومبدأ نشأته قضية غيبية لا يمكن أن يهتدى إليها الإنسان بمفرده لأنها فوق مستوى العقل ولذلك تكفل الله بتعليم الإنسان

ـ(592)ـ

كيفية خلق الإنسان وبيان المهمة التي وجد من أجلها.

1 ـ تصور الإنسان في الفكر الإنساني

ويوم أن أراد الإنسان أن يعتمد على عقله في مبدأ الخلق وأصل الوجود فقد وصل إلى نتيجة أسطورية ليس لها واقع علمي هي: (الطبيعة الخالقة أو الخلق الذاتي وصارت هذه الأسطورة علماً يتداوله العلماء بغير برهان علمي، في الوقت الذي يرفضون فيه رد الأمور إلى الله، بحجة عدم وجود برهان علمي على وجوده أو تدبيره لشؤون الخلق.

وأعجب إن شئت لسريان هذه الأسطورة في عصر العلم وأعجب أكثر من أن العالم إذا ذكر الله في البحث العلمي سقط من أعين العلماء، وصار مضغة في أفواهههم يتندرون بجهله وسذاجته وعدم علميته وعدم  موضوعيته وتعلقه بالغيبيات فإذا ذكر الطبيعة رفعوه بذكرها وخروا لها ساجدين وصدق الله العظيم : ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾(1).

ومن الأسباب الرئيسية التي من أجلها رفضت العقلانية التجريبية أن تعترف بوجود الله أو تعترف بالهيمنة على الكون هي أن الله ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾(2) وأنه قضية غيبية لا تدخل في عالم الحس. فما الطبيعة الخالقة ؟ هل تدركها الأبصار ؟ أم أنها قضية غيبية لا تدخل في عالم الحس ؟ ان الذي تدركه الأبصار هو الطبيعة المخلوقة لا الطبيعة الخالقة وهذه لا يختلف وضعها سواء آمنا بالله الحق. أم آمنت الجاهلية بإلمها

_________________________

1 ـ سورة الزمر: الآية 45.

2 ـ سورة الأنعام - الآية 103.

ـ(593)ـ

الزائف، فبأي حجة يحتج عصر العلم إذا وقع في أساطير الإلحاد وخرافاته؟

على أن القضية لا تقف في خطورتها عند هذا الحد وهو خطير في ذاته إنّما تتعداه إلى آثاره الكثيرة في حياة البشرية، فما من (وهم) في تاريخ البشرية كان لـه من الآثار المدمرة مثل ما كان من آثار هذا الوهم الذي اعتنقته الجاهلية المعاصرة لتسند به إلحادها وتحللها وتفسخها..

فقد استندت إليه بادئ ذي بدء لتواجه به طغيان الكنيسة، وتستند به تمردها على ذلك السلطان فإذا به يهوى بها في مهاومن الفساد الفكري والفساد الخلقي لا يحصيها الحصر.

ونظرة سريعة إلى المجتمع الغربي بعد إلحاده بالله وإعطائه الشرعية للفساد الخلقي والفوضى الجنسية كفيلة بأن ترينا كم كان لإنكار وجود الله ونفي الغائية من خلق الإنسان من نتائج خطيرة ومثيرة أقلها انتشار الأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة .

فالإنسان بغير الإيمان بالله واليوم الآخر وبأن هناك غاية من خلقه لابد أن يصل إلى العبثية التي عبر عنها شاعر جاهلي معاصر فقال:

جئت لا أعلم من أين ولكن أتيت ___ ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

2 ـ حقيقة الإنسان في الإسلام(1)

أما كلمة الإسلام في الإنسان فإنها تتجلى في جملة من المواقف تظهر منها روعة هذا الدين وهو يتصدى إلى كل المفاهيم المغلوطة، ويبين الفرق بين الحق والباطل

_______________________

1 ـ رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر - محمد قطب ط. 1 ، 1991 م ، مكتبة السنّة القاهرة ص 35 وما بعدها بتصرف.

ـ(594)ـ

ويكشف السليم من السقيم ويضع الموازين بالقسط، لأن المعايير والموازين إذا اختلت لا يمكن الاحتكام إليها لأنها لا توصل إلى نتيجة مرضية، والناظر لأحوالنا المعاصرة والمتأمل في أوضاعنا القائمة يرى أمثلة متعددة على هذا الاختلال وذاك الفساد وخاصة في النظر إلى الإنسان في العصر الحديث.

وموقف الإسلام في الكشف عن أسرار خلق الإنسان وبيان حقيقته والمهمة التي خلق من أجلها والغاية التي ينتهي إليها واضحة كل الوضوح، فهي من القضايا التي تكفل الله بتعليمها للإنسان عن طريق الوحي مثل غيرها من الأمور الغيبية كحقيقة الألوهية وحقيقة الخلق وحقيقة اليوم الآخر والتشريع والمنهج كحقيقة واليوم الآخر والتشريع والمنهج الذي يحكم الحياة، فهذه لا يقدر العقل أن يحكم فيها أو يجرب قدرته فيها يخطىء أو يصيب.

وقد ترك للعقل مجاله كالتعرف على السنن الربانية التي تحكم الحياة البشرية لتنظيم الحياة بمقتضاها، والتعرف على السنن الإلهية التي تحكم الكون المادي لتحقيق ما سخره الله من طاقات السموات والأرض لتحسين الحياة وتجميلها والارتقاء فيها.

والحديث عن حقيقة الإنسان كما يعرضها القرآن الكريم نرى أنه يقدم أنماطا من نماذج النفوس البشرية على نطاق واسع يشمل كل أنماط النفوس البشرية أو أصالتها الفطرية، وفي حالاتها المنحرفة كذلك في هداها وفي ضلالها، في رشدها وفي غيها، في استقامتها وفي إعراضها، في قوتها وفي ضعفها، في سرها وفي علانيتها، في فرديتها وجماعيتها، وفي شتى صورها وأشكالها وأوضاعها وأحوالها.

يعرض ذلك كله في حيز من التعبير يستحيل ـ لو لم يكن من عند الله ـ أن يسع هذا الحشد الكبير من الأنماط والنماذج والأحوال والأطوار، وأن يصوره في دقة وعمق

ـ(595)ـ

لا يبلغهما الأسلوب البشري ولا في أضعاف هذا الحيز من التعبير.

وفي بيان حقيقة الإنسان في القرآن الكريم أنه مخلوق خاص لمهمة خاصة ذو كيان متميز تميزه عناصر تكوينه ومزود بخصائص منها:

ـ الاستعداد للمعرفة النامية المتجددة، ومجهز لاستقبال المؤثرات الكونية والانفعال بها والاستجابة لها، ومن مجموع انفعالاته واستجاباته يتألف نشاطه الحركي للتعمير والتغيير والتعديل والتحليل والتركيب والتطوير في مادة هذا الكون وطاقاته.

ـ ومن خصائصه انه كأنه كريم على الله، ذو مركز عظيم في تصميم الوجود - على الرغم ما في طبيعته من الضعف والخطأ والقصور - واستعداده لحمل أمانة الاهتداء استحق تكريم الله لـه بإرسال رسله ورسالاته إليه.

ـ ومن خصائصه أن يتعامل مع الكون كلّه ومن فيه وما فيه، وهو يتعامل مع ربه ومع الملائكة ومع الجن والشياطين، ومع نفسه ومع سائر الأحياء الكونية ومع طاقات الكون الظاهرة والخفية وهو مهيأ للتعامل مع كل ذلك بما ركّب فيه من روح وعقل وحواس وقوى وطاقات تناسب ازدواج عناصر تكوينه.

ـ ومن خصائصه استعداده - حسب تكوينه الذاتي - لأن يرتفع إلى أرقى الملائكة المقربين أو ينحط إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، وذلك حسب ما يبذله من جهد في تزكية نفسه أو إهمالها وحسبما يتلقى من عون الله وهداية ورعاية بسبب ما يبذله من جهد ورغبة في الارتباط بالله والاستقامة على منهجه .

ومن أجل ذلك وغيره فهو أعجب كائن وأغرب جهاز، يحتوي على هذه

ـ(596)ـ

الاستعدادات المتباعدة الآماد ولا نعرف ان هناك كائناً آخر لـه هذه الخصائص(1).

والإسلام حين يبين حقيقة النفس الإنسانية فانه لا يجانب الواقع الذي يعيشه فهو يحشد لـه كل التقدير وأرقى مراتب الإكرام والاحترام ولا يحتقر دوره الإيجابي في الأرض ولا يهدر قيمته في أية صورة من صور حياته ولا يهمل دوافعه الفطرية فالإنسان في التصور الإسلامي هو هذا الكائن الذي يدب على هذه الأرض بفرديته العميقة وجماعيته العميقة كذلك، بحوافزه الفردية التي لابد أن تراعى وأن تلبى، وحوافزه الجماعية التي لابد أن ترى وتربى... بكينونته هذه المزدوجة الممتزجة المتنوعة الطاقات، والاستعدادات الجسمية والعقلية الروحية التي لا تنفصل ولابد أن تراعى وتلبى.

ومن أجل ذلك يأخذ الإسلام بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدرة لـه بحسب تكوينه، ويضع لـه المناهج التي يتعامل معها وهو فرد، ويتعامل معها وهو عضو في جماعة، ومن خلال هذا المنهج استطاع الإسلام أن يصل بالناس في فترة من الفترات إلى منزلة لم يبلغ إليها البشرية قط إنها فترة الخلافة الراشدة التي لم يعرف التاريخ أكمل وأجمل في جميع النواحي من تلك الفترة، فقد تعاونت قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل وفي ظهور المدينة الصالحة كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها، تسود فيها المثل الخلقية العليا وتحكم معايير الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقي والروحي اتساع الفتوحات... وتحسن علاقة الفرد بالفرد والفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالفرد وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان

____________________

1 ـ الإنسان في القرآن الكريم د. محمد بن لطفي الصباغ - المكتب الإسلامي ط 1 - 1992 ، بيروت ص 15 ، وما بعدها بتصرف .

ـ(597)ـ

بأرقى منه، ولم يفترض المفترضون أزهي منه.

فالإسلام هو رسالة الإنسانية لأنه وحده فقط القادر على بناء إنسان قوي متوازن متكامل الشخصية: يمشى على الأرض ويتطلع إلى السماء، يعايش الواقع ويرنو إلى المثال، يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة(1) ، يجمع المال، ولا ينسى الحساب، يأخذ الحق ولا  ينسى الواجب، يتعامل مع الخلق ولا ينسى الخالق، يعتز بماضيه ولا ينسى حاضره ومستقبله، يحب قومه ولا ينسى بني الإنسان يصلح نفسه ولا ينسى إصلاح غيره، يهتدى وليهتدي، يأتمر ويأمر وينتهي وينهى، فهو دائماً داع إلى الخير، آمر بالمعروف ناه عن المنكر، حافظ لحدود الله، يتواصى مع سائر المؤمنين بالحق والصبر كما أمر الله:

﴿وَالْعَصْرِ _ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ _ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾(2).

3 ـ صورة المجتمع الإنساني المعاصر:

قبل وصف العلاج في كيفية إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد نحتاج إلى تشخيص حالة المجتمع ومعرفة نوع الفساد وأسبابه وقوة انتشاره ومدى خطورته حتى يكون الدواء على قدر الداء .

في الوهلة الأولى يبدو أن الإنسان قد بلغ ذروة التقدم وأنه أدرك موقعه من الكون وقد أخذ يفسر الحقيقة مستخدماً منطقه ومعرفته الحسيّة وثقته بالعقل وقوى العلم والتكنولوجيا ومن أجل ذلك ترك صلته بالتقاليد وبالحقيقة المنزلة وبضروب الهداية

___________________________

1 ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - لأبي الحسن الندوي - ط 6 دار الكتاب العربي - بيروت - 1965 ص 117.

2 ـ  سورة العصر ، كاملة.

الإسلام حضارة الغد. د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة 1995 ص 167.

ـ(598)ـ

 كلها الخارجة عن نطاق ذاته.

هذا هو مكمن الخطر في المجتمع الإنساني المعاصر ولا يقتصر ذلك على مجتمع معين في مكان محدود فالأزمة التي تواجه الإنسان المعاصر عالمية وشاملة لأنها تتخلل جميع أنسجة العلاقات والمؤسسات الإنسانية وتفدسها... وليس في وسع أي مجتمع إنساني أو فرد أو ركن من أركان الأرض مهما كان نائياً ومنعزلاً ومهما بلغ من قوة وموارد أن يهرب من الفوضى التي تفعل فعلها المعمورة بكاملها.

ووصف أحد الباحثين في التاريخ المعاصر أزمة هذا العصر فقال:

(إن الأزمة الإنسانية المعاصر على درجة من العمق والشمول بحيث أن كل محاولة لتحليلها ناهيك عن حلها - تبدو عصية على قدرة العقل والتصور الإنساني وها هي المعركة من أجل البقاء يخوضها الآن ملايين البشر الذين يتصف وجودهم المتقلقل بالفقر والقذارة وحتى الجوع وتترك محنة الإنسان بصماتها على مستقبل أمم بأسرها يتهددها العدوان الخارجي والتمزيق الداخلي، وتسيطر هذه المحنة على شبكة العلاقات الدولية الضخمة التي تقوم على بنيان هش الميزان الرعب، الخطر والمهزوز).

ويقول أيضاً:

(ولعل أفضل وصف يمكننا أن نطلقه على الأزمة العالمية هو أنها خلل أساسي في التوازن يقيد بشدة قدرة البشر على التكيف البيولوجي والثقافي مع بيئتهم، وقد يؤدى هذا الخلل إلى القضاء على هذه القدرة في نهاية الأمر... ومن أكثر أنواع السلوك الاجتماعي شيوعاً في المجتمع الصناعي الحديث هذه المظاهر وهي:

- الانهماك في الامتلاك والاكتساب بدلاً من الإحساس بالوجود والاستقرار.

- الافتتان بالحصول على القوة من أجل السيطرة بدلاً من التحرير.

-         الشعور العميق بالعزلة بدلاً من المشاركة في واقع اجتماعي أوسع.

ـ(599)ـ

- الاتجاه نحو جعل أوقات العمل وأوقات الراحة وسيلة لقتل الوقت بدلاً من قضائه في حياة مبدعة والعيش وسط مجتمع فاضل.

- الميل لحل الصراعات عن طريق استخدام القوة أو التهديد بها بدلاً من التعايش السلمي والمنفتح مع الآخرين.

وبهذا السلوك القليل أصبح مجرد بقاء الحياة البشرية، وليس نوعيتها فقط، في خطر.

وسيبدو أنه من أجل البقاء على التطور العضوي للجنس البشري لابد من تطوير منظورات وردود جذرية وعالمية)(1).

وهذا النداء الذي ينتهي به هذا التحليل يجب أن يصل إلى أسماع الأمة التي تحمل معها هذا التطوير والعلاج الجذري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل البقاء على الجنس البشري إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وفي تقرير آخر صادر عن نادى روما عام 1991 م يقول:

يبدو أن البشرية واقعة في إسار شعور بانعدام اليقين في آخر هذا القرن وعلى عتبة قرن جديد، إلاّ ان نهاية الألف الثاني بعد الميلاد تجلب في ثناياها مسحة أعمق من الغموض بما يلازمها من إحساس بالتغيير السريع وما يرافقه من شكوك.

ويعترف التقرير أن أكثر من 20 % من سكان العالم يعانون من الأمراض الخطيرة ويركز  التقرير على الوضع المعاصر فيه شعور بأن البشر في لهائهم وراء المكاسب المادية عن طريق استغلال الطبيعة إنّما يسرعون نحو دمار هذا الكوكب ذاته.

وفي معرض تصويره لطبيعة التحدي ومداه يقول التقرير:

_________________________

1 ـ الحضارة في أزمة: آفاق إنسانية في عالم متغير - جوزيف كاميللرى.

ـ(600)ـ

(لم يحدث من قبل في التاريخ أن واجه الجنس البشري هذا العدد الكبير من التهديدات والأخطار، وبعد أن قذف به، دون أن يكون مستعداً في خضم عالم تلاشى فيه الزمان والمسافات، وقع الإنسان في براثن دوامة عالمية ناجمة عن عوامل غير مترابطة على ما يبدو، وتشكل أسبابها ونتائجها تيها لا سبيل إلى الخروج منه في نهاية هذا القرن، وقد غرق لجج ظاهرة تنتابه من كل حدب وصوب، لقد غرق - وليس في هذه الكلمة من مبالغة هنا - لأن البنى والمؤسسات التقليدية لم تعد قادرة على مواجهة المشكلات في بُعدها الحالي ، ومما زاد الوضع سوءاً ان البنى غير الملائمة التي عفا عليها الزمن محاصرة بأزمة خلقية حقيقية.

فهناك اختفاء لنظم القيم، وتسأول حول التقاليد وانهيار في العقائديات، وغياب للرؤية العالمية ومحدودات الممارسات الديمقراطية الراهنة، وكلها تؤكد وجود الخوء الذي يقف للمجتمعات بالمرصاد، ويشعر الأفراد بالعجز وكأنما أخذ بخناقهم ظهور أخطار لم تعرف، وعجز عن إجابة تأتي في وقتها الملائم عن مشكلات معقدة وتتصدى لجذور الشر وليس لعواقبه فقط)(1).

4 ـ صورة الحاسرة في المجتمع الإنساني المعاصر

أما على مستوى الأسرة التي هي الأساس في بناء المجتمع لأنها مستقر الإنسان الذي يجد فيه الاستقرار والراحة والأمان وذلك إحساس فطري لا يتحقق للإنسان إلاّ في أسرة قائمة على المودة والرحمة لأنها تتألف من أفراد متقاربين تجمعهم أواصر القرابة والنسب وهي المحضى الطبيعي الذي أوجده الله في الفطرة لتنشئة أطفال أسوياء يعمر بهم وجه الأرض، هذا ما يجب أن تكون عليه.

_________________________

1 ـ المصدر السابق ص 619.

ـ(601)ـ

ولكن واقع الأسرة في المجتمع الإنساني المعاصر قد وصلت إلى وضع خطير فقد جاء في بعض المصادر التي صنعت صورة المجتمع الحديث ؟:

(يجب وضع النساء بين سن العشرين والأربعين في غرف خاصة مع رجال بين سن خمس وعشرين وخمس وخمسين، والأطفال الذين يولدون نتيجة لذلك ينبغي تربيتهم وتعليمهم في معاهد الدولة ولا يسمح لهم بمعرفة آبائهم وأمهاتهم، ويسمح بالعلاقات الجنسية للنساء اللاتي يقل عمرهن عن عشرين سنة والرجال الذين يزيد عمرهم عن خمسين سنة ولكن نتيجة هذا الحب يجب إزالتها، وإذا ولد طفل من هذه العلاقة فيجب تركه حتى يموت جوعاً فالحياة الأسرية والحب الأسري لابد من إزالتهما)(1).

ويقول آخر:

(لكي يتم تحرير النساء لابد من تحقيق الشرط الأول لذلك وهو إدخال جميع النساء في النشاط العام، وهذا يعني إلغاء الأسرة المنعزلة كوحدة اقتصادية اجتماعية.. وبتحويل وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة تتوقف الأسرة عن أن تكون الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة البيوت صناعة اجتماعية فتعليم الأطفال والعناية بهم يصبح شأنا من الشوون العامة.. ويرعى المجتمع جميع الأطفال بالتساوي سواء كانوا أبناء شرعيين أو غير شرعيين)(2).

وكاتبة أخرى تقول:

(ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة وخرافة الأمومة

______________________________

1 ـ الإسلام بين الشرق والغرب - على عزت بيجوفيتش - ط 1 1994 مؤسسة العلم بيروت - نقلاً من (جمهورية أفلاطون) ص 256.

2 ـ  المصدر السابق. نقلاً عن (انجلز) ص 257.

ـ(602)ـ

 والغريزة الأموية)(1).

وكتابات وأقوال كثيرة في هذا الجانب النظري فقط لكان أهون ولكن الواقع الإنساني المعاصر يفعل ذلك ويعمل على تطبيق هذه الأقوال النظرية: فقد كان الرجل أو من هجر الأسرة ثم تبعته المرأة وأخيراً الأطفال فقد جذبت الثورة الصناعية الرجال من القرى والأرياف إلى المدن الصناعية وفرحوا أول الأمر بالحرية والانطلاق من قبضة رجال الإقطاع ولكنهم وجدوا أنفسهم في عبودية جديدة لأصحاب رؤوس الأموال يشغلونهم فوق طاقتهم ويعطونهم من الأجر ما لا يسد رمقهم فضلاً عن أن يكونوا به أسرة أو ينفقوا على أسرهم التي تركوها، ثم وجدت نساء في الريف بلا عائل فاضطرت أن تقتفي أثر الرجل إلى المدينة لتحصل على لقمة العيش وإلاّ تعرضت لأن تموت جوعاً، وهناك استغلها الرجل أسوأ استغلال فشغلها نفس ساعات العمل وأعطاها نصف الأجر فضلاً عن مساومتها على شرفها لتحصل على العمل وصارت (قضية المساواة) بين المرأة والرجل في الأجر حديث العصر ولم يستجب الرجل في أول الأول لصراخ المرأة بطلب المساواة في الأجر فأقبل المحامون والكتاب والخطباء يدافعون عن (قضية المرأة) ونصحت المرأة بأن الظلم الواقع عليها سببه جهلها وجلوسها في بيتها وخضوعها لقوامة الرجل وعدم اشتغالها بالقضايا العامة وعدم مشاركتها في أمور المجتمع فلابد من إزالة هذه الأسباب لرفع الظلم، وتوسعت القضية وطولب بحقها في التعليم والوظائف والانتخاب والترشيح للبرلمان والولاية العامة، ومن خلال ذلك انفتحت أبواب كثيرة من الشر تولت وسائل الأعلام الترويج لها والدافع عنها وتقديمها للناس على أنها أخلاقيات العصر

________________________

1 ـ المصدر السابق نقلاً عن (سيمونه دى بوقوار) ص 258.

ـ(603)ـ

 الصناعي الحضاري المتطور)(1).

ونستطيع أن فتتبع القضاء على الأسرة في كثير من الجوانب، فعدد حالات الزواج في تقهقر متصل مع تزايد في نسبة حالات الطلاق، وازدياد عدد النساء العاملات والزيادة المطردة في عدد المواليد غير الشرعيين.

وفي استبيان اجري في فرنسا بين طلبة المدارس كانت الرغبة في الاستقلال والحياة السائبة تأخذ المحل الأول بين الرغبات بينما جاءت الرغبة في الزواج آخر القائمة.

وقد نشر معهد استكهولم للبحوث الاجتماعية نتائج مسح أجراه سنة 1972 م نعلم منه أن النساء اللائي يذهبن إلى دور الدعارة في أكثر الحالات نساء ميسورات الحال، وإنّما أصبحن مدمنات للدعارة فقط لأنّهنّ يستعذبن هذا الأسلوب من أساليب الحياة السائبة(2).

وطبقاً لبيانات مستقاة من المجلس الاجتماعي للأمم المتحدة يقول:

(إن مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية قد نمت خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة نمواً أكثر مما كان متوقعا لها، ففي سنة 1975 كانت النساء المشتغلات في وظائف بالعالم 35 % من المجموع الكلي للعاملين ففي الاتحاد السوفيتي 82 امرأة من كل مائة امرأة قادرة على العمل وفي ألمانيا 80 % وبلغاريا 74 % المجر 73 % رومانيا 73 % بولندا 63 % أما في مجموعة الدول التي تشغـل إنجلترا وسويسرا والنمسـا وأمريكا فان حوالي نصف تعـداد النساء مـن العاملات (بين 49 و52 %) ونلاحظ أن نسبة تشغيل النساء أكبر في الدول الشيوعية وذلك راجع إلى موقفها من

_____________________________

1 ـ رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر - محمد قطب - دار السنّة ص 93 وما بعدها باختصار.

2 ـ  الإسلام بين الشرق والغرب ص 295.

الأسرة ومن توظيف النساء(1).

لقد أحالت الحضارة النساء إلى موضوع إعجاب أو استغلال، ولكنها حرمتها من شخصيتها وهي الشيء الوحيد الذي يستحق التقدير والاحترام، هذا الوضع مشهود بشكل مطرد وقد أصبح أكثر وضوحاً في مواكب الجمال أو في بعض مهن نسائية معينة مثل (الموديلات) في هذه الحالات لم تعد المرأة شخصية ولا حتى كائناً إنسانياً وإنّما هي لا تكاد تكون أكثر من (حيوان جميل).

لقد ألحقت الحضارة الخزي بالأمهات بصيغة خاصة فهي تفضل على الأمومة أن تحترف الفتاة مهنة البيع، أو أن تكون موديلاً أو معلمة لأطفال الآخرين أو سكرتيرة أو عاملة نظافة، إنها الحضارة التي أعلنت أن الأمومة عبودية، ووعدت بأن تحرر المرأة منها، وتفخر بعدد النساء اللاتي نزعتهن (تقول حررتهن) من الأسرة والأطفال لتلحقهن بطابور الموظفات(2).

وكذلك تسير (بيوت المسنين) جنباً إلى جنب مع (بيوت الأطفال) المحرومين فهما ينتميان معاً إلى النظام نفسه وهما في الحقيقة حالتان للنوع نفسه من الحلول فبيوت المسنين وبيوت الأطفال تذكرنا بالميلاد والموت الصناعيين، كلاهما تتوفر فيهما الراحة وينعدم فيهم الأحب والدفء وكلاهما مضاد للأسرة وهما نتيجة للدور المتغير للمرأة في الحياة الإنسانية وبينهما ملمح مشترك هو زوال العلاقة الأبوية: ففي الحضانة أطفال بلا آباء، وفي دور المسنين آباء بلا أطفال وكلاهما المنتج (الرائع) للحضارة(3).

______________________

1 ـ المصدر السابق ص 259.

2 ـ المصدر السابق ص 264.

3 ـ المصدر السابق ص 265.

ـ(605)ـ

تلك صورة سريعة ومختصرة عن حالة الأسرة في المجتمع المعاصر وبعض مظاهر الفساد الذي وصلت إليه وحتى تكتمل صورة المجتمع نستكمل تشخيص بعض الظواهر والحالات الاجتماعية الأخرى وهي في غالبيتها نتيجة لفقدان أو تزعزع القاعدة الأساسية في تكوين المجتمع وهي الأسرة ومن الظواهر الاجتماعية الأخرى في العصر الحديث.

أ ـ الفساد والتحلل الاجتماعي والاقتصادي

نظام الأسرة في المجتمع الأمريكي قد تغير بسبب حجم مشاركة المرأة في سوق العمل فعدد النساء العاملات قد بلغ في التسعينات إلى أكثر من 100 مليون نسمة بسبب الحاجة لتحقيق دخل إضافي أكثر وهذا الأمر قد جلب معه بعض المشاكل الجانبية مثل الاهتمام بالأطفال وزيادة الإرهاق النفسي والجسماني على الأب والأم والطفل ومن الأمثلة أن خمسة ملايين طفل يعيشون في معزل وخوف اثناء انتظار عودة آبائهم من العمل و40 % من الذين يبلغون من العمر 65 عاماً وما فوق يعانون من أمراض جسمية أو عقلية مزمنة، والاتجاه السائد هو تحويل عبأ الرعاية الشخصية إلى مركز رعاية المسنين بدلاً من الأهل والأقارب(1).

ب ـ مشاكل  الأطفال والمراهقين

10 % من الأطفال يتعرضون للاعتداء الجنسي كل عام، وتعتبر مدارس الأطفال ومربيات الأطفال مسرحاً لهذه الجرائم.

_________________________

1 ـ أمريكا تحرق نفسها - مختار خليل المسلاتي - الطبعة الأولى 1996 م. نشر مؤسسة الدعوة الاسلامية في الجامعات الأمريكية ص 22.

ـ(606)ـ

والأغرب من ذلك أن محطة A B C  بثت مقابلة مع أحد الشاذين يدعو لممارسات جنسية حرة مع الأطفال الصغار وهو بذلك يدافع عن نظرة علمية فيها احترام لحرية الاختيار للأطفال وهاجم قوانين حماية الأطفال واعتبرها نوعاً من الدكتاتورية وفرض الأمر وانتقد الآباء الذين يعاملون أبنائهم بقسوة، وأشار في نهاية المقالة أنه يعرف رجلاً ارتكب هذه الفاحشة مع مائة طفل وطفلة تتراوح أعمارهم بين 9 و19 عام وبإمكانه أن يسمي عشرات الأشخاص على شاكلته، وذكرت امرأة أخرى في نفس المقابلة أنها التقت بشخص آخر زني مع أكثر من ثلاثة آلاف طفل(1).

وفي أمريكا يبلغ عدد الأطفال المفقودين كل سنة 8/1 مليون طفل وتشير الإحصائيات أن ضحايا الاختطاف معظمهم يباعون في سوق البغاء أو سوق الأطفال السود لعائلات تبحث عن أطفال للتبني.

إن الجيل الأمريكي الجديد وخاصة من المراهقين يعاني من مشاكل عميقة هو غير قادر على التعامل مع الضغوط المتزايدة أثناء مراحل النمو المختلفة فأصبح ينظر للعالم المحيط به على انه لاشي وتقول إحدى الدراسات الاجتماعية التي أجريت على آلاف المراهقين ان المشكلة تنحصر في حالات العزلة وعدم وضوح المعايير الأخلاقية وعدم القدرة على التعامل بإيجابية مع المجتمع والحياة وهذه كلها تهدد حياة الفرد والأسرة والمجتمع(2).

ويقول أحد مدراء البيت البديل للمراهقين: ان الآباء يقومون بطرد أبنائهم بشكل متزايد هذه الأيام فالآن متوسط عمر الأطفال الذين يستقبلهم الملجأ 12 عاماً... وأحد جوانب المأساة هي تلك الضغوط التي تدفعهم للانتحار والخمر وأعمال

________________________

1 ـ المصدر السابق ص 35.

2 ـ  المصدر السابق ص 42.

ـ(607)ـ

العنف وممارسة البغاء(1).

ومن أمثلة ذلك - ديفيد يبلغ من العمر 16 عاماً يبيع جسده للرجال والنساء منذ زمن بعيد بنيويورك وهو واحد من مليون طفل هارب من عائلته: كانت نصيحته: ابق في البيت وكن طفلا أقصى مدة ممكنة، لا تنمو بسرعة ولا تحاول أن تنمو.

جني فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً اختارت أن تكون بائعة لجسدها في الشوارع وهذا لم يكن باختيارها وإنما لطبيعة التكوين الاجتماعي الغربي وشكل العلاقات السائدة فيه فتقول:

(إنه عندما يكون الخيار بين الجوع وممارسة الجنس مع الغرباء مقابل المال فان حرية الاختيار هنا تكاد تكون معدومة.

وليند تبلغ من العمر 14 عاماً هربت من بيتها بسبب اعتداءات والدها الجنسية عليها منذ أن كان عمرها خمس سنوات وتقول: ممارستي البغاء في الشوارع أفضل بكثير من السكن مع أبي الذي أشعر بالتقزز منه(2).

ج - أما عن استغلال الأطفال والمراهقين في عمال الفساد فيقول أحد الكتاب: ان الأمة أصيبت بالفزع بسبب استغلال الأطفال في أعمال مشينة فبعضهم يبلغ من العمر ثلاث سنوات حيث استخدموه في أفلام جنسية ومجلات عارية.

ويقول آخر:

(كل سنة في منطقة لوس انجلس وحدها هناك ما يقارب من ثلاثين ألف طفل ومراهق تستغلهم شركات الأفلام الجنسية والمجلات الفاضحة)(3).

___________________________

1 ـ  المصدر السابق ص 42.

2 ـ المصدر السابق ص 45.

3 ـ المصدر السابق ص 47.

ـ(608)ـ

وأكثر من مليون مراهقة كل سنة، نصفهن يخترن الاحتفاظ بالأطفال والسبب كما بينه استفتاء للرأي اتضح ان 80 % من فتيات الثانوية اللاتي تركن الدارسة قررن الإنجاب رغبة في الحصول على المساعدات الاجتماعية(1).

وأما عن المراهقين والانتحار فان الخبراء يلقون باللوم على كثير من العوامل الاجتماعية من بينها ضغوط الحياة والعيش في ألم فهو يدفع مبكراً للاعتماد على نفسه فتصادفه مشاكل الجنس والمخدرات ورفاق السوء ويكتشف متاعب الحياة ليواجهها بمفرده في بيئة مادية منعزلة فيحاول الهروب فيلجأ للانتحار.

وأحد الشباب شنق نفسه على جذع شجرة وترك ملاحظة تقول: يبدو لي أن الشجرة هي الشيء الوحيد الذي لـه جذور في هذا العالم(2).

د - انتشار الجريمة صارت من ظواهر المجتمع الإنساني المعاصر ففي أمريكا مثلاً في كل 23 دقيقة جريمة قتل وكل عشر ثوان حادثة سطو على بيت وكل سبع دقائق تغتصب امرأة على ذلك فمن النادر أن تجد أمريكي لا يعرف أحد سبق وأن سرق بيته أو تعرض لجريمة عنف. انتشر الإرهاب ويبدو ان المواطن على أرض أمريكا فقد حقه في أن يشعر بالاطمئنان في بيته والشارع وإذا لم تتغير الحالة ويتم الإصلاح - وليس ذلك إلاّ بالإسلام - فإن مولوداً من اصل 61 مولوداً سوف يتعرض للقتل في أمريكا، ولهذا بدا كثير من الناس في تعليم وسائل الدفاع عن النفس وشراء صفارات الإنذار وتركيب أنظمة حماية البيوت الإلكترونية(3).

وارتفاع نسبة الجريمة والعنف خلال العشرين سنة الماضية يعتبر الصراع رقم

__________________________

1 ـ المصدر السابق ص 48.

2 ـ المصدر السابق ص 50.

3 ـ المصدر السابق ص 100.

ـ(609)ـ

واحد (1) للبوليس وكثير من المدن تعاني نقصاً في رجال البوليس نظرا لزيادة نسبة الجرائم فمثلاً استطاع البوليس في إحدى السنوات القبض على 73 % من الذين ارتكبوا جرائم القتل و59 % من الذين ارتكبوا جرائم عنف و48 % من أصحاب جرائم الاغتصاب و25 % من أصحاب جرائم السرقة و15 % من أصحاب جرائم السطو على المنازل(1).

ويكفي هذا كمؤشر خطير على أوضاع المجتمعات الإنسانية المعاصرة وما تركته الكثير فما زال هناك الخمر والمخدرات والإجهاض والأفلام الخليعة والفقر والشذوذ الجنسي والبطالة والأمراض بأشكالها والخيانة الزوجية وما خفى كان أعظم.

وأخذت صور الانحراف والفساد للمجتمع الإنساني من العالم العربي للأسباب التالية:

أولاً: أن موضوع البحث عن إصلاح المجتمع الإنساني، فالقضية قضية إنسان أينما كان.

ثانياً: ان المجتمع الغربي صار قبلة لكثير من الأنظار وخاصة ضعاف النفوس الذين يتخذونه قدوة وأسوة ومثلاً يحتذى به فخطره أكثر من غيره.

ثالثاً: ان هذا المجتمع لـه وجود وحضور في كافة أقطار العالم وله تأثير على شعوب الأرض ووسائل إعلامه التي ملأت ما بين السماء والأرض.

رابعاً: كثرة المترددين عليه من الأفراد والجماعات.

خامساً: توفر الإحصائيات والدراسات الاجتماعية عنه هذا ما لا يتوفر لكثير من

__________________

1 ـ المصدر السابق ص 104.

ـ(610)ـ

المجتمعات الأخرى.

وبعد ذلك البيان عن فساد المجتمعات الإنسانية وما وصلت إليه من الخراب والدمار أليس فيهم رجل رشيد ؟ هذا ما سنقف عليه فيما يلي:

5 ـ عقلاء المجتمع الإنساني يستغيثون ويدقون أجراس الخطر

لقد تفاقم الخطر، وتطاير الشرر وأوشك أن يحرق المجتمع الإنساني العالمي بأسره انه شرر المادية واتباع الشهوات وآلية الحياة ولم يبق ذو عقل إلاّ أعلن شكواه من هذا البلاء الواقع والمتوقع الظاهر والكامن كمون النار في البركان يوشك أن ينفجر فيأتي على الأخضر واليابس، نعم أعلن العقلاء شواهم من مختلف الملل والنحل والأقطار والأوطان يستوى في ذلك العلماء والأدباء والفلاسفة والمفكرون والسياسيون والإداريون، ولكن استشهد هنا بأقوال أهل الغرب وحدهم، لأنه كما وصفت حالة الفساد في ذلك المجتمع فمن الأفضل أن يكون الشاهد من أهلها.

يقول ألكسيس كاريل، صاحب الكتاب الشهير - الإنسان ذلك المجهول:

(إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولت من خيالات الاكتشافات العلمية، شهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلاّ إنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا)(1).

ويقول آخر:

(إن الحياة الشاذة التي يعشيها عامة الناس الآن تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية

________________________

1 ـ الإنسان ذلك المجهول الكيس كاريل - ترجمة شفيق أسعد فريد ، مكتبة المعارف - بيروت ط 1986 ، ص 37 .

ـ(611)ـ

الضروية لسلامة الإنسان العقلية ونحو الإمكانات الإنسانية.

إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية ومحيطية سخيفة عابثة باطلة، نخلقها نحن لـه بدون أي تفكير، وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة، والشوارع المتراصّة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الاجتماعية التي تهم بالأشياء، وتهمل البشر)(1).

ويقول (هنري لنلن) طبيب النفس الأمريكي: (لن نهتدي إلى حل شاف لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن طريق تقدم المعلومات والمعرفة العلمية وحدها، فارتقاء العلم معناه ازدياد الارتباك واضطراد التخبيط وما لم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة، وإخضاعها فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول التي ابتدعتها وابتكرتها بل ستقود حتماً إلى انهيار هذه العقول وتعفنها، كما أن هذه التوصية لابد أن تأتي عن طريق آخر غير طرق العلم أعني طريق الإيمان(2).

ويقول فيلسوف التربية الشهير (جون ديوس):

(إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها، ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة.. لهي حضارة تدمر نفسها بنفسها)(3).

ويعلق جارودي على مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة (5 - 3 - 1994 م)

______________________

1 ـ  من كتاب الإسلام حضارة الغد د. القرضاوي ص 101 نقلاً من كتاب إنسانية الإنسان لبروفسور دينيه دوبو ترجمة صبحي الطويل.

2 ـ المصدر السابق ص 104 نقلاً من كتاب العودة إلى الإيمان ترجمة ثروت عكاشة.

3 ـ الإسلام حضارة الغد - د. القرضاوي ص 105.

ـ(612)ـ

فيقول: (وهكذا يأتي الأغنياء إلى القاهرة ليقولوا للفقراء: لا تنجبوا بعدا الآن أطفالاً كي نستطيع الاستمرار في نهبنا وإفراطنا)(1).

كتب الرئيس ويسويه يقول: (إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: ان حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية إلاّ إذا استردت روحانيتها)(2).

ويقول رتشاد نيكسون: (بلادنا قد تكون غنية بمصادرها وخيراتها، ولكنها فقيرة في روحانياتها، واليوم عدونا يكمن في أنفسنا)(3).

وأخيراً كلينتون يقول: (إن مشاكل العنصرية والفقر لا تزال باقية معنا، واليوم أضيفت لها مشاكل المخدرات وتفقهت العائلة بمستوى لم تكن تتخيله من عشرين سنة مضت)(4).

هذه هي شهادات أهل الدار وصرخات المكتويين والمشخصين والمراقبين وأولي الأمر في تلك المجتمعات واستمرار الحال على ما هو عليه يزيد من الفساد ويؤدي إلى الكارثة، وفي مواجهة هذا التحدي الحقيقي للبشر لابد أن ينادي أبناء آدم جميعهم ذكوراً وإناثاً بملء أصواتهم أن المشكلة الحقيقة ليست قضية نظام اقتصادي جديد أو ترتيب سياسي جديد، بل هي قضية نظام عالمي جديد يقوم على

_______________________

1 ـ المصدر السابق ص 108.

2 ـ المصدر السابق ص 116.

3 ـ أمريكا تحرق نفسها - مختار خليل ، ص 7.

4 ـ المصدر السابق ص 8

ـ(613) ـ

مفهوم جديد للإنسان ورؤية مختلفة للمجتمع الإنساني ولابد أن يبدأ أي مسعى للإصلاح أن يستمد إلهامه من الأديان العالمية عامة ومن الإسلام خاصة بتصحيح هذا المنظور(1).

من أجل سلامة الأرض وإصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد، قد جربت حلول كثيرة شرقية وغربية اجتماعية واقتصادية لأنها من صنع البشر وان انتسبت بعض الحلول إلى الأديان الإلهية إلاّ أنها محرفة ومزيفة تدخلت فيها الأهواء والشهوات فكانت وضعية بشرية ومهما أوتي الإنسان من فكر وعبقرية فانه بغير منهج الله عزوجل لا يمكن لـه إصلاح الفساد في الأرض مهما اعتقد أنه سينقذ العالم قال تعالى:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ _ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾(2).

فأين الأمة التي تحمل منهج الله عزوجل وأمانته في الأرض والتي سلمها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح قفل سعادة البشرية وصلاح حال الدنيا والآخرة ومنحها الله وسام الخيرية في الأرض:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾(3).

إنها أمة الخير وخير الأمم بالمنهج الذي يقود الحياة البشرية إلى السعادة الأبدية ويعالج فساد الكون والحياة والفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.

______________________

1 ـ الإنسان ومستقبل الحضارة - كتاب المؤتمر التاسع - عمان - ص 620.

2 ـ سورة البقرة: 11 - 12.

3 ـ سورة آل عمران آية 110.

 

 

ـ(614)ـ

ولكن هل يقبل العلاج والإنقاذ من أمة ينظر إليها العالم أنها لا تملك لنفسها خيراً ولا نفعاً، وتعيش في هامـش الحياة ؟ كيف يمكن أن نلفـت الأنظار إلينا ونحـن بعد لم نعرف قـدر وقيمة ما عندنـا.

انه حقاً كما قال الله تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ _ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ _ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾(1).

فهل تستطيع هذه الأمة أن تقدم الإسلام إلى العالم كما أنزل إليها بكماله وجلاله وجماله ليكون هادياً وبشيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، ويرشد الحائرين إلى منهج ربّ العالمين وينقذ البشرية من الظلمات إلى النور، وهل تستطيع هذه الأمة أن توصل الحق والمنهج إلى الناس كما وصلها من الله عز وجل، ويشهد لها العالم بالفضل والعدل والخير وبما نشهد به نحن لمحمد صلى الله عليه وآله ويتحقق فينا الوعد الحق.

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(2).

هذا ما يجب عنه الموضوع التالي.

 

6 ـ منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير:

إذا كنا نريد أن نكون خير خلف لخير سلف ونصف الدواء ونقدم العلاج لإصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد وإنقاذ البشرية ومواجهة التحدي والخراب والضلال الذي يواجه الإنسانية ويهلك الحرث والنسل، وينذرها بالخطر

__________________________

1 ـ سورة العصر كاملة.

2 ـ سورة البقرة آية 143.

ـ(615)ـ

والدمار فلابد من العودة إلى المنبع الأصلي والنبع الصافي والمصدر الأول الذي صلح به أمر الدنيا والآخرة، لنقف على الجانب التطبيقي من المنهج النظري الذي نحمله بين أيدينا ونأخذ منه الدرس المثالي والعبرة والعظة والقدوة الحسنة كما قال تعالى:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾(1).

فلا ينبغي أن يحول طول الزمن وبعد المسافة بيننا وبينه، فمهما قطعت الحواجز المادية والمعنوية أو الزمانية والمكانية فسيبقى محمد صلى الله عليه واله وسلم وما جاء به من عند ربه هو القدوة الحسنة والسراج المنير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولنستمع بإصغاء إلى الأثر السائد الذي يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح أولها.

فلننظر بإيجاز كيف بدأ الإصلاح في بداية نشأة هذه الأمة التي أرداها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، ومدى تشابه الأوضاع والأحوال التي كانوا عليها والحال الذي وصل إليه هذا الزمان.

7 ـ من الجاهلية إلى الإسلام(2).

بعث محمد بن عبدالله  صلى الله عليه واله وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد فإذا كل شيء فيه في غير محله فنظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته فيسجد للحجر والشجر، رأى إنساناً فسدت عقليته فلم يعقل الجليات وفسد فكره فيستريب في موضع الجزم ويؤمن في موضع الشك وفسد ذوقه فصار يستحلي

__________________________

1 ـ سورة الممتحنة آية 6.

2 ـ أعتمد في هذا العرض على كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - لأبي الحسن الندوي ص 78 وما بعدها من شيء من التصرف والاختصار.

ـ(616)ـ

المر ويستطيب الخبيث وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ولا يحب الصديق الناصح.

رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم كل شيء فيه في غير شكله فأصبح الذئب راعياً والخصم قاضياً والمجرم سعيداً والصالح شقياً والمنكر معروفاً والمعروف منكراً وعادات فاسدة تستعجل فناء البشرية.

رأى الخمر الممر والخلاعة والفجور والربا والاغتصاب والسلب والنهب والطمع والجشع والقوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد (الإجهاض).

رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولاً.

رأى المواهب البشرية ضائعة لم توجه التوجيه الصحيح فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية، والكرم إسرافاً وتبذيراً والذكاء شطارة وخديعة والعقل وسيلة لابتكار الجنانات والإبداع في إرضاء الشهوات.

رأى أفراد البشر كخامات لم تحظ بصائغ حاذق وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة النجاة التي تشق بحر الحياة.

رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه والسلطان سيف في يد سكران يجرح به نفسه ومن حوله، وما أشبه الليلة بالبارحة.

فلو كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رجل من عامة رجال الإصلاح لاجتهد على إصلاح ناحية واحدة من نواحي تلك الحياة الفاسدة وظل طول عمره يعالج عيباً من عيوب المجتمع.

ولكن نفسية الإنسان معقدة التركيب دقيقة النسج، فإذا زاغت أو اعوجت لا يؤثر فيها إصلاح عيب من عيوبها أو تغيير عادة من عاداتها حتى يغير اتجاهها من الشر إلى

ـ(617)ـ

الخير ومن الفساد إلى الصلاح وتقتلع جرثومة الفساد من النفس البشرية التي قد تنبت بفساد المجتمع واختلال التربية كما تنبت الحشائش الشيطانية في أرض كريمة.

ولو كان زعيماً قوميّاً ورجلاً إقليمياً لكوّن للأمة العربية أمارة قوية موحدة وانضمت قريش والقبائل العربية تحت لوائها.

ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ويبدل عدواناً بعدوان، ولم يبعث زعيماً وطنياً أو قائد سياسياً وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً وداعيال إلى الله بأذنه وسراجاً منيراً.

وأرسل ليخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فلم يكن خطابه لأمة دون أمة أو لوطن دون آخر ولكن كان خطابه للنفس البشرية والضمير الإنساني، فقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيت الإصلاح من بابه ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه ذلك القفل المعقد الذي أعيا فتحه جميع المصلحين، وكل من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه.

لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه النبي صلى الله عليه واله وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء: كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله، وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم فلم يكن غامضاً ككثير من الفلسفات العقلية، ولم يكن  لغزاً من الألغاز ، لقد صنع هذا الإصلاح رجالاً خرج حظ الشيطان من نفوسهم وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة وفي اليوم رجال الغد، لا تجزعهم مصيبة ولا  تبطرهم نعمة ولا يشغلهم فقر ولا يطغيهم غنى ولا تلهيهم تجارة ولا تستجفهم قوة ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وطأ لهم أكناف الأرض

ـ(618)ـ

وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله، واستخلفهم الرسول صلى الله عليه واله وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته.

8 ـ حاجة المجتمع المعاصر للإصلاح

تلك هي البداية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لإصلاح الفساد في الأرض في صورتها الواقعية ومثالها الحيّ الذي يجمع بين النظرية والتطبيق والمنهج والحياة، ومن فضل الله على الناس أنه تكفل بحفظ المنهج من أن تصل إليه يد عابثة فيقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾(1).

ليكون مرجعاً وملاذاً للإنسانية إذا ضلت الطريق أو خرجت عن مسارها الصحيح أو انحرفت عن الصراط المستقيم.

إن الإنسانية اليوم في حاجة ضرورية لإعادة تشكيلها والقاعدة التي يجب أن ينطلق منها هذا التغيير تبدأ من قلوب الناس وعقولهم وإدراكهم للواقع ومكانهم في الوجود ورسالتهم في الحياة.

والإسلام بما فيه من خصائص الواقعية والإنسانية والشمولية قادر على قيادة حركة التغيير الاجتماعي سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو العالم (وتتمثل الاستراتيجية الاسلامية في انطلاقها ـ لإصلاح المجتمع الإسلامي - من خلق وعي جديد لدى الفرد الذي يجاهد في العمل على إقامة حياة عادلة لا تقوم على النظرة النفعية أو السعي وراء مصالح فرد أو جماعة، بل على فعل ما هو حق و عدل)(2).

______________________

1 ـ  سورة الحجر آية 9.

2 ـ الإنسان و مستقبل الحضارة - د. خورشيد أحمد - نشر في كتاب المؤتمر التاسع لمؤسسة آل البيت - عمان ص 643.

ـ(619)ـ

والإسلام حين يريد الإصلاح في الأرض فانه لا يحابي أو يجامل أمة دون أخرى أو يدافع عن الوضع الراهن بل هو ينقذ الفساد والانحراف والضلال في الحياة الإنسانية بما فيها حياة المسلمين، لأن وضع المجتمع الإسلامي الحالي قاصر كل القصور عن المعايير الاسلامية التي يصلح بها نفسه وينفع بها غيره، وعلى ذلك لا غنى عن تغيير المجتمع الإسلامي حتى يتوافق مع منهج الإسلام وتستطيع بعد ذلك إقامة المؤسسات الإصلاحية التي تقيم العدل والحق والفضيلة في العلاقات الإنسانية.

9 ـ وفي هذا المجال يعبر الشيخ محمد الغزالى عن موقفه من الحضارة المادية المعاصرة وينقذ الوضع الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي ويعاتب من يملكون وسائل الإصلاح ولكن لا ينتفعون بها لأنفسهم ولا ينفعون بها غيرهم فيقول:

(أريد أن أذكر الحضارة الحديثة بما لها وما عليها، لاوكس ولا شطط وقد علمنا كتابنا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، فلا يجوز أن ننحصر في جانب مظلم وننسى الجانب الآخر المضيء، أنا واحد من أهل الأرض الذين ينتفعون بثمرات هذه الحضارة في مأكلهم ومشربهم وصحتهم ومرضهم وسفرهم ومقامهم، ولا أنسى في طفولتي وصباي كيف كنا نطعم بأعواد الحطب، وكنا نقرأ على مصابيح الزيت وكنا نستخدم في تنقلنا الخيل والبغال والحمير... صحيح ان الناس كانوا أطيب أخلاقاً وأكثر تعاوناً وأبعد أثرة... وأنا كنا نعمر المساجد بدءاً من غبش الفجر حتى أول الليل بعد صلاة العشاء... ليكن ! فما يمنعنا من أداء حقوق الله ! إذا تمهدت مرافقنا وكثرت مرفهاتنا ! أما نؤدي لله حقه إلاّ ونحن متعبون ؟

إن الحضارة الواقدة حملت طبيعة الأرض التي جاء منها وهي أرض لا تحسن معرفة الله ولا تجيد القيام بحقه، ولم تسعد بالوحي الخاتم الذي يجعلها تكرم الروح

ـ(620)ـ

والجسد وتوفي للدنيا والآخرة، فلماذا لا نحسن نحن التوفيق بين الارتقاء المادي والمعنوي ونضم إلى حركة العقل المتطلع حركة القلب الذاكر لربه المقر بعبوديته الموقن بأنه سوف يلقاه يوماً..

ان الحضارة الحديثة أماطت اللثام عن عظمة الكون الكبير، فلماذا عجزنا نحن - بالمنطق نفسه - أن نقول لهم الله أكبر ؟ أجل، إذا كان الملكوت ضخماً فخماً فمليكه أجل وأعظم.

إن السيادة في الدنيا والسوخ في علومها شرط لكسب الحياة والصدارة فيها، ولما صرنا هملا على ظهر الأرض وقعت أعاجيب، فان أربعة ملايين يهودي هزموا مائتي مليون عربي... ان فقه الحياة في الفكر الديني من الأسس الأولى، كان داود - عليه السلام - فنانا يتغنى بأمجاد الله وكان في الوقت نفسه صانع أسلحة وفارس قتال ، قال تعالى: ﴿.. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ _ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1).

والقتال في العصر الحديث يتطلب تفوقاً في علوم البر والبحر والجو، فهل هذا التفوق شذوذ في البيئة المؤمنة ؟ أم كان ظاهرة من ظواهر الإيمان الحق تلحظها في سيرة ذي القرنين الذي سمع شكاية شعب متخلف بائس يشبه شعوب العالم الثالث في عصرنا فقال لـه في رسوخ واقتدار:

﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا _ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ

______________________

[1]ـ سورة سبأ - الآيتان 10 - 11.

ـ(621)ـ

الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ...﴾(1).

وهكذا بقدرة رائعة استطاع الرجل الصالح أن يصنع سداً يمنع الأعداء يشبه خطوط ماجينو وكفريد وبارليف التي صنعها الفرنسيون والألمان واليهود هل أولياء الله يجب أن يكونوا آخر من يفقه أسراره في ملكوته وآياته في كونه هل هذه الأسرار والآيات حكر على أعداء الإسلام وحدهم ؟

ان القصور الإسلامي في هذا المجال فضيحة دينية ودنيوية يجب أن تمحى وأن تستغفر الله منها.

فالإيمان المفهوم من القرآن الكريم هو إيمان النظر والتأمل في الكون والسياحة في ملكوت السموات والأرض... إنّ الله يجب أن يتحدث عنه عالم به.

﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾(2).

فهل الأمة التي يأتيها رزقها من ملاك الأرض وغزاة الفضاء تدري عن ربها شيئاً ذا بال ؟ انها لا تعرف ما حولها فكيف تعرف ربّ المشارق والمغارب ؟ فما الذي أوصل المسلمين إلى هذا الحد  ؟ وأسكنهم منازل الهوان ؟ فالمسلمون في الأغلب فقراء وجل دولهم ترزح تحت ديون ثقيلة والأنظمة الشائعة بينهم لا تؤذن بزوال هذا البلاء، والمحزن انّ هذا الفقر ليس طبيعة الأرض التي عليها، فالأمة الاسلامية تسكن أخصب البقاع وأحفلها بالخير وأجودها موقع، ولكن الفقر من صنع أيدينا وثمرة مرة لهم قاعدة ونظم فاسدة والإسلام بريء من هذه الديون ومن البأساء التي دفعت

_________________________

[1]ـ سورة الكهف ، الآيتان 95 ، 96.

2ـ سورة الفرقان آية 59.

ـ(622)ـ

إليها(1).

10 ـ وحتى يصل المجتمع الإسلامي إلى المستوى المطلوب الذي يستطيع فيه أن يقوم بدوره القيادي ويكون شاهداً على الناس وحارساً على الحق والعدل والخير والأمن والسلام في العالم فعليه بتحقيق عامليين أساسيين لابد منهما وكلاهما يضارع الآخر في القوة واليقظة..

الأول: داخلي.

الثاني: خارجي.

وفيما يلي بيانهما:

 

أولاً ـ العامل الداخلي:

وهو الذي يتحرك ويعمل في داخل المجتمع الإسلامي ويقوم على الأسس التالية:

1 ـ العقيدة الاسلامية  الصحيحة:

هذا هو الأساس الأول الذي يقوم عليه بناء الإنسان السليم وصلاحه في الحياة.

  (فالإيمان بالله، والاعتماد عليه والارتباط به وحده على أوثق ما يكون هو الذي يكوّن بداية إصلاح                                     اجتماعي رفيع، وهو الذي يصلح أن يقيم مجتمعاً سعيداً لا يشقى، قوياً لا يقهر، آمنا لا يفزع ولا يخاف)(2).

   وتوحيد الله عزل وجل هو الأساس الذي تقوم عليه نظرة الإسلام إلى العالم وخطته

________________________

[1] ـ نحو حضارة إسلامية - للشيخ محمد الغزالـي - بتصرف نشر فـي كتاب المؤتمـر العام التاسع - عمّـان - يوليو 1993  م.

2 ـ السلوك الاجتماعي في الإسلام. حسن أيوب - دار البحوث العلمية - الكويت. الطبعة الرابعة 1985 ص 33.

ـ(623)ـ

في الحياة (فهو يضع قواعد العلاقات بين الله والإنسان وبين الإنسان والإنسان، وليس التوحيد مجرد قضية غيبية إذ أن الاتجاه الإنساني نحو واقع اجتماعي جزء لا يتجزء من هذا الاعتقاد، ويعني الإيمان بوحدانية الله وسيادته ان الشبر جميعهم متساوون وأن حقوق العباد امتداد طبيعي لحقوق الله)(1).

فإذا اقترب المسلم من ربه بعقيدة خالصة وتضرع إليه وتذلل عنده ليرد عنه العوادي ويصرف عنه الفحشاء والمنكر، ويكشف عنه السوء ويرفع الفتن والمحن وينقذه مما حلّ به من أخطار فان الله سميع قريب مجيب الدعاء كما قال عزّ وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾(2).

وبذلك يتحرر المسلم من وساطة الوسطاء وشفاعة الشفعاء. والعقيدة الصحيحة ترشد المسلم إلى أن الله معه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، يطلع على السرائر والضمائر.

﴿سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾(3).

وبذلك يتحرر المسلم من نفسه فلا تدفعه الأسرار بغدر أو ظلم لان الله يستوى علمه السر والعلن والخفاء والجهر(4).

تلك هي بعض صور ونماذج العقيدة الصحيحة التي إذا باشرت القلب تصنع منه

______________________

[1]ـ الإنسان ومستقبل الحضارة ، خورشيد احمد ص 624.

2 ـ سورة البقرة آية 186.

3 ـ سورة الرعد آية 10.

4 ـ الإسلام والإنسان المعاصر د. محمـد ظفر الله خان - دار النـهضـة العربيـة بيروت 1981 م ص 278 بتصرف .

ـ(624)ـ

إنساناً سامياً في إنسانيته مؤمنا كاملاً في إيمانه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب».

2 ـ العبادة والإخلاص لله عزوجل

من تفقد أحوال البشر وأمعن في تعاليم الإسلام أيقن أن شؤونهم لا تصلح إلاّ به، وأوضاعهم لا تستقر إلاّ عليه، وأن الإسلام في كل ما يشرع من حكم بين الناس وما يفرضه من العبادات ، وما يحذر منه من المحظورات يهدف إلى إصلاح الإنسان، ويراعي ما يجمع شمله، ويلملم شتاته، ويؤلف بين القلوب أفراده، ويستأصل ما يورث بينهم البضغاء والأحقاد والكراهية... وشعائر العبادة في الإسلام من أبرز العوامل وأقوى الوسائل للتآلف والترابط والتواد والتعاطف بين أفراد الأمة المسلمة الذين يمارسون بأمانة وإخلاص نابعين من الشعور بالمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، ومما يؤكد ذلك الصيغة التعليمية التي جاء في القرآن لإرشادنا في توجيه العبادة إلى الله عز وجل ونحن ننكرها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أم العبادات وأقدسها تلكم الصيغة هي ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فان ضمير الجمع فيها يبعث في نفس العابد المستعين شعوراً باندماجه مع سائر العابدين الذين يشتركون معه في هذه العبادة.

وإذا كانت العبادات في الإسلام على اختلافها في الكيفية والأداء ذات أثر عميق وتأثير بالغ في سلوك العابد الشخصي ونظامه الاجتماعي فان الصلاة أبلغها أثراً فهي تجتث رذائل النفس وتغرس فيها روح الفضيلة وتـفجر فيها عواطف الرحمة والإحسان ولذلك كانت أكثر العبادات تكراراً في عمل الإنسان.

ونرى بالزكاة وفضائلها أكثر من أن تحصر وهي أهم علاج لمرض نفسي

ـ(625)ـ

اجتماعي يفتك بالأخلاق ويقطع الأواصر ويستولي على العقل والقلب ذلك هو مرض شهوة المال التي قلما تسلم منها نفس، ومن أعظم جرائم هذه الشهوة الخفية السرقة والغش والربا وأنواع التحايل على جمع المال، بل كثيراً ما تؤدي إلى القتل والقطيعة وضروب من الفتن بين الأقربين والأصدقاء المتآخين، فكم من غني جنى عليه ماله فتعرض للقتل أو الضرب من المقربين إليه.

 ومن شأن الصيام أن يرهف الحس ويرقق الشعور ويذكي في النفس مشاعر الرحمة والإحسان وهو مدرسة يتربي فيها الضمير الإنساني وتتهذب النفس وينجلي عنها صفاتها المذمومة وعاداتها السيئة، لأن الصوم ليس مجرد الكف عن المفطرات  الثلاث المشهورة ولكنه مع ذلك كف الجوارح واللسان عن قبائح الأعمال والأقوال، والتجرد التام من رذائل الأخلاق، وإن كانت هذه العبادة مفروضة في شهر رمضان المبارك إلاّ أن تعود النفس عليها يجعلها تستمر على هذه الخصال والأعمال في سائر العام حتى تكون بعد من سجاياها التي جبلت عليها .

أما الحج فانه يتلقى في رحابه ضيوف الله الوافدون إليه من أصقاع العالم وما من بلد فيه جماعة من المسلمين إلاّ ويفد منه وافد لأداء هذه الفريضة، والحج فرصة سانحة للأمة الاسلامية لالتقاء وفودهم في كل عام وتدارس مشكلاتهم في رحاب بيت الله، حيث تصفوا الأنفس وتسمو الأرواح وتستنير البصائر وتتفاعل الأنفس مع ذكريات الماضي العريق من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى عهد خاتم المرسلين محمد صلى الله عليهم وسلم وتربط الأمة بين سلفها وخلفها حتى تكون كحلقات سلسلة يشد بعضها بعضاً، وما أحوج الأمة في هذا العصر إلى هذه اللقاءات

ـ(626)ـ

التي تمسح الخلاف وترأب الصدع وتقيم الناس على سواء الصراط (1).

ولا يقتصر مفهوم العبادة في الإسلام على تلك الأعمال الظاهرة فحسب بل هي شاملة لكل ما يمكن ان يسأل عنه الإنسان حين يقول: لماذا خلقت ؟

والجواب عند المؤمنين حاضر لأن كل صانع يعرف سر صنعته، ولماذا صنعها ؟ والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه ومدبر أمره، ولذلك بيّن الله في كتابه الخالد انه خلقه ليكون خليفة في الأرض.

﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(2).

وليكون عابداً لله عز وجل : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(3).

ومعنى ذلك أن الله خلقنا لمهمة هي أن نكون وكلاء الله فيدور اهتمامنا الأول تنفيذ مشيئة الله، فنحن بمثابة أمنا في كل ما يوجد في الكون بقدر طاقتنا البشرية وبما في حوزتنا من ممتلكات فالعبادة هي الانقياد لمنهج الله تعالى وشرعه وسننه في هذا الوجود وأنه يخضع الإنسان في كل أموره لما يحبه الله تعالى ويرضاه من الاعتقادات والأقوال والأعمال وأن يكيف حياته وسلوكه وفقاً لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أونهاه أو أحل لـه أو حرم عليه كان موقفه في ذلك كلّه ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(4).

_______________________

1 ـ انظر (عوامل تقوية الوحدة الاسلامية في الشعائر الدينية) لسماحة الشيخ احمد بن حمد الخليلي - المفتي العام لسلطنة عمان - مطابع النهضة - مسقط 1990 م من ص 6 - 31.

2 ـ سورة البقرة آية 30.

3 ـ سورة الذاريات آية 56.

4 ـ سورة البقرة آية 285.

ـ(627)ـ

3 ـ الاستقامة على الأخلاق الاسلامية

إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين متعاونين سعداء، ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة فمكارم الأخلاق لا يستغني عنها مجتمع فاضل، ومتى فقدت الأخلاق تفكك أفراد المجتمع وتصارعوا وتناهبوا مصالحهم ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم إلى الدمار.

كيف يكون إنساناً مؤهلاً لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه صارفة لـه عن كل عطاء وتضحية وإيثار ؟

وقد دل الواقع المعاصر - كما سبق بيانه - أن انهيار القوى المعنوية للأمم وانحلال الشعوب ملازم لانهيار أخلاقها، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاقية تناسب طردي دائماً صاعدين وهابطين، وذلك ما دلت عليه التجربة الإنسانية والأحداث التاريخية(1).

وإذا كانت الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم فان النظم الاسلامية قد بلغت في أخلاقها الاجتماعية والفردية مبلغاً من الرقي العظيم، جعلها في مركز القمة بما اشتملت عليه من تفضيلات موثقة للروابط الاجتماعية بين الأفراد، ومؤثرة تأثيراً عميقاً في تغذية وحدة الجماعة الاسلامية وتنمية روابط المودة والإخاء بين المسلمين.

وقاعدة الأخلاق الاجتماعية الكبرى تتلخص بأن يعامل الإنسان الآخرين بما يحب أن يعاملوه به، انه يحب أن يعاملوه بالعفو إذا أساء، فليكن عفوّاً عن إساءاتهم،

______________________

[1] ـ الأخلاق الاسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميداني ، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة 1992 ج 1 ص 33.

ـ(628)ـ

 ويجب أن يكونوا معه أمناء فليكن أميناً، ويجب أن يصدقوه ولا يكذبوه فليصدقهم ولا يكذبهم، ويحب منهم العفة عن محارمه فليكن عفيفاً عن محاربهم... وهكذا.

ويكره منهم أضداد هذه الأمور فلا يعاملهم بما يكره أن يعاملوه به. وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة للأخلاق الاجتماعية بقوله:

«فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»(1).

ويمكنه إرجاع مفردات الأخلاق على شمولها تحت ثلاثة أصول عامة.

الأصل الأول: حق الاعتراف بما للغير ولو كان فيه مساس بما يشتهي الإنسان نفسه: ويندرج تحت هذا الأصل مثل: الاعتراف بحقوق الله وحقوق الوالدين وأهل الفضل والاعتراف لكل ذي حق حقه مهما كانت العوامل النفسية محرضة على الغمط والجمود.

 

الأصل الثاني: حق الأداء الذي كان عليه كاملاً متجاوزاً عوامل نفسه الأنانية.

الأصل الثالث: الرضا والقناعة بما خص الله به عباده دون اعتراض أو حسد(2).

_________________________

[1] ـ المصدر السابق ص 57 ، والحديث الشريف رواه مسلم في رياض الصالحين رقم 666.

2 ـ المصدر السابق ص 52.

ـ(629)ـ

4 ـ من العوامل الداخلية لإصلاح المجتمع الإسلامي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من حرص الإسلام على إصلاح المجتمع أن جعل أو طلب من كل مسلم ومسلمة أن يقوم بدور الإصلاح ويجاهد بالقدرة والكفاءة الممنوحة لـه وفي حدود استطاعته فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحمل المجتمع المسلم مسؤولية تقويم المنحرفين وحراسة حدود الإسلام بمستويات تتناسب مع مستويات الاستطاعة لكل فرد منهم وهذه المسؤولية دينية وأخلاقية معاً فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مساهمة جليلة وخدمة عظيمة في صيانة المجتمع وتقويمه وإصلاحه وحمايته من الانزلاق في مهاوى الردى والانحراف.

والقيام بإصلاح المجتمع واقتلاع جذور الفساد والمنكر من مرتبة حسب الاستطاعة والتمكن كما في الحديث الشريف أعلاها التغيير العملي لمن توافرت لديه وسائل النفوذ وهذه مهمة رجال الدولة وأولي الأمر عموماً ورجال الأمن خصوصاً الذين هم سمع الدولة وبصرها فعليها ملاحقة الانحراف والمنكر وتعمل على تنظيف البيئة من الفساد والانحلال بكل مظاهره وفي مختلف ميادينه.

المرتبة الثانية: باللسان وهذه مهمة الدعاة والمرشدون الذين يملكون أدوات التعليم والبيان ولا يملكون السلطة التنفيذية فعليهم من خلال وسائلهم القيام بواجبهم

 

 

ـ(630)ـ

في تشخيص الداء والخلل والفساد ووصف الدواء والعلاج المناسب لكل حالة حتى تسير الأمور في وضعها الصحيح.

المرتبة الثالثة: بالقلب وهي مرتبة العوام الذين لا سلطة لهم ولكنهم لابد من المساهمة في معرفة المعروف وإنكار المنكر وهي أضعف مرتبة ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه واله وسلم إنكار القلب للمنكر بأنه أضعف الإيمان مع إثباته انه عمل إيماني (وليس دون إنكار القلب مرتبة ضعيفة فما دون إنكار القلب للمنكر إلاّ الرضى بالمنكر، ثم استحسانه ثم المتابعة عليه وفعله ونشره بين الناس وكل ذلك ليس فيه من الإيمان حبة خردل لأنه عمل لا يقتضيه الإيمان بحال من الأحوال)(1).

وهنا لابد من تنبيه إلى خطأ شائع حول تغيير المنكر بالقلب فكثيرون يظنون أن التغيير بالقلب معناه أن تكره الشر بينك وبين نفسك ولا ترضى عنه بقلبك دون أن يظهر عليك أدنى أثر لهذه الكراهية وعدم الرضا، والواقع أن هذا الفهم تحريف لمعاني الكلمات في اللغة العربية وتحريف لمقاصد الشريعة الاسلامية من حيث اللغة فلأن الإنكار بالقلب المجرد عن كل مظهر إيجابي أو سلبي لهذا الإنكار لا  يسمى تغييراً لمنكر بل يسمى إنكاراً للمنكر ولو كان ذلك هو المقصود لجاء في الحديث «فلينكره بقلبه» ويرى بعض العلماء أن المنكر في هذه الحالة قد يظفر بما يسمى إقراراً سكوتياً وتشجيعياً على المنكر .

وأما انه تحريف لمقاصد الشريعة فلأن ابطال الكراهية للمنكر مع بقاء المعاملة لصاحبه على وجه البشاشة والمجاملة والمحافظة على تكريمه وإجلاله هذا هو صريح النفاق مع أن الحديث النبوي يجعل تغيير المنكر بالقلب مرتبة من مراتب الإيمان(2).

__________________________

[1]ـ الأخلاق الاسلامية - للميداني - ج 2 ص 653.

2ـ علم النفس، نظرة علمية إسلامية. ا. د. محمود عبد المعطي بركات - دار سكرين اجنس. القاهرة 1989 م ص 216.

 

 

ـ(631)ـ

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسس الخيرية لهذه الأمة كما قال تعالى:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾(1).

كما انه من أسس قواعد التمكين في الأرض كما قال تعالى:

﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(2).

فإذا غفلت الأمة عن هذه الخاصية من خصائص الإسلام التي تعتني بتقويم الإنسان وإصلاح المجتمع ومكافحة الفساد فان العواقب وخيمة والنتائج فادحة والخطورة الكبرى التي فيها المقت الرباني والعذاب الأليم هما في هذه الطائفة التي قال الله في شأنها:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ _ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(3).

 إن هذا التباين بين ما يدعو الإنسان إليه من فضائل وبين ما يعمله في ذات نفسه ويمارسه من سلوك تباين يتنافى مع الفضيلة الخلقية والإيمانية والإصلاحية.

لأن هذا الإنسان أما أن يكون مؤمنا بما يدعو إليه أو غير مؤمن فإن كان غير مؤمن فهو كاذب مراء منافق اتخذ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صناعة يستدر منها مالاً أو جاهاً ولذلك فهو يستحق العذاب المهين، وإن كان مؤمناً بما يدعو إليه من

______________________

1 ـ سورة آل عمران آية 110.

2 ـ سورة الحج آية 41.

3 ـ سورة الصف الآيتان 2 - 3.

ـ(633)ـ

خير فهو إذن عالم أحمق لأنه يعرف الخير وينحرف عنه ويعرف الشر و ينغمس فيه وما ذلك إلاّ بسبب انهيار خُلقي في نفسه فإما أن يكون بسبب الكبر عن الطاعة والمستكبر يستحق العذاب الأليم وإما أن يكون بسبب ضعف الإرادة أمام سلطان الشهوات والأهواء فلو كان صادقاً مخلصاً في عمله ونصحه للناس لاثرت فيه أقواله ونصائحه ومع التكرار يستقيم حاله ويصير من الذين يعملون بما يقولون، لأن النصيحة الصادقة سلاح ذو حدين: أحدهما يؤثر بالنصاح وثانيهما يؤثر بالسامع وإن هو استمر في انحرافه فهو إنسان تبلد حسه ومات ضميره وتحول إلى تاجر أقوال لـه منها مغانم ومنافع دنيوية فتصير أقواله حجة عليه ولا ريب عندئد أن يستحق العذاب المهين، فقوله تعالى للذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي فليس لديكم عقل يعقلكم عن اتباع أهوائكم وشهواتكم التي تزين لكم الإثم والمعصية وجحود الحق الذي جاءكم به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم(1).

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يكن لـه مهمة صادقة وأثر فعال في المجتمع سواء على مستوى الفرد أو الجماعة فانه لا محالة ينذر بخراب المجتمع وظهور أنواع الفجور كما يشير إلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:

«كيف بكم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم ؟

قالوا: وان ذلك لكائن يا رسول الله ؟

قال: نعم ، والذي نفسي بيده وأشد  منه سيكون كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر ؟

قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟

___________________

[1]ـ الأخلاق الاسلامية - للميداني ج 2 ص 656 بتصرف واختصار.

ـ(633)ـ

قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون.

قالوا: وما أشد منه ؟

قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟

قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟

قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون.

قالوا: وما أشد منه ؟

قال: كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ،

قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟

قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون.. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «بي حلفت لاتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيرانا»(1).

تلك هي بعض العوامل اللازمة لإصلاح المجتمع الإسلامي حتى يتمكن من القيام بدور السيادة والخلافة في الأرض وهذه العوامل بمثابة كليات عامّة تندرج تحتها فروع كثيرة من أصول وفروع هذا الدين التي تشكل في جملتها الإنسان السوّي والمجتمع الصالح الذي يعيش في أمن وأمان ورخاء واستقرار وصلاح وفلاح ونجاح وبالتالي يكون قادراً على تحمل مسؤولية الأمانة التي جعلها الله في عباده الصالحين من العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين كلما خلا منهم سلف حميد خرج خلف جديد يحملون راية الحق وكلمة الصدق ونور الهدى إلى العالمين ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن الفساد والفجور إلى طهارة القلب وسلامة الصدور من كل الآفات والشرور وصدق الله العظيم:

­­­­­­­­­________________________

[1] ـ رواه أبو يعلى.

ـ(634)ـ

﴿وَالْعَصْرِ _ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ _ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(1).

ثانياً ـ العامل الخارجي

وهو واجب المجتمع الإسلامي في المجتمع الإنساني العالمي ودوره في القيام برسالته الحضارية العالمية.

فالمسلمون مكلفون بهداية الفكر الإنساني والقلب الإنساني والواقع الإنساني في كل موقع من دنيا الناس ! وهل يستطيع ذلك جاهل بقضايا الفكر والقلب والواقع؟

وهل ينجح في ذلك غافل عن سنن الله في الأنفس والآفاق محجوب عن الأسرار والقوى التي أودعها الله بين يديه ومن خلفه ؟

ان عالمية الرسالة تكلف أمتنا كثيرا كثيراً وقد نهض الصحابة والتابعون بهذا العبء فكانوا امتداداً لإشعاع النبوة الخاتمة ثم أخذ الرجا الكبار يقلّون شيئاً فشيئاً حتى كادت الأمة تصاب بالعقم وتعاركت البيوت العربية على الجاه والمال والأمارة والوزارة وكان ذلك على حساب هذا الدين ورسالته العالمية حيث غابت حقائق ما كان ينبغي لها أن تختفي عن اهتمام الأمة بها.

ولنتساءل أولاً: ما القوى التي اعترضت الإسلام أول ظهوره ؟ وماذا عرض لها على اختلاف الليل والنهار؟

ان الوثنية العربية تلاشت في أرجاء الجزيرة على عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم نفسه وعادت لها صحوة الموت بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ولكن أصحابه وخلفاءه

__________________

[1]ـ سورة العصر كاملة.

ـ(635)ـ

أخمدوا أنفاسها إلى الأبد.

والمجوسية مزقت والكسروية بادت والقيصرية هلكت وعمّ الإسلام في ربوع الأرض وقضى المسلمون على المستعمرات اليهودية داخل الجزيرة العربية، ولكنهم استأنفوا حرب الظلام بعدما خسروا الحرب المكشوفة، وعادوا بعد أربعة عشر قرناً يصيحون بالثار ويتحدثون عن أرض الميعاد التي كتبت لهم)(1).

ودارت قبل ذلك حروب صليبية وتتابعت الفتن والعقبات على الأمة الاسلامية بالغزو الفكري والتبشير والاستشراق والاستعمار إلى غير ذلك من وسائل المكر والخداع.

فما هو واجب الأمة الاسلامية الآن بعد هذه التراكمات التي حلت عليها وحبستها في أوكارها.

ويكشف بعضه أعلام الفكر الإسلامي عن السبب الذي وصلت إليه الأمة الاسلامية فيقول: ذنبنا الحقيقي اننا لم نكن أوفياء لرسالتنا، ولا جادين في تعرف العقبات التي تعترضها، ولا طبائع الأجناس التي تقاومها..

هل درس آباؤنا العلاقات بين البوابات والأباطرة ؟ هل درسوا اختلاف الكنائس شرقيها وغربيها وتابعوا هذا الاختلاف بعد ظهور (مارتن لوثر) وانشقاق أتباعه ؟

هل درسوا التيارات الفكرية ونزعات الإصلاح الديني والمدني هناك ؟ هل يعلمون شيئاً عن عصر الأحياء، والنقلة الرائعة التي قفزت بها أوربا من أوج إلى أوج ؟

هل درسوا السمات الجديدة للفكر الفلسفي الحديث ؟

هل درسوا النشاط التبشيري بعد كشف الأمريكيتين، وكيف انساحت الكثلكة في

______________________

[1] ـ سرّ تأخر العرب والمسلمين - محمد الغزالي - دار الصحوة - الطبعة الأولى 1985 م.

ـ(636)ـ

أميركا الجنوبية والبروتستانتية في شمالها ؟

هل لفت انتباهم توغل الدب الروسي في آسيا مكتسحاً دار الإسلام وحاملاً الخراب والكفر إلى المدائن والقرى ؟

هل عرفوا لماذا قامت الثورة الفرنسية معلنة ما يسمى بحقوق الإنسان ؟ وإن كان الفرنسيون أكذب أهل الأرض في الاعتراف لغيرهم بهذه الحقوق.

ان الدراسات الكونية والطبيعية نقلت العالم من عهد البارود إلى البخار إلى الكهرباء إلى الذرة إلى عصر الفضاء، والمسلمون صرعى ثقافات وسياسات لا تهب حق الحياة والكلام إلاّ لمن يحرق بين يديها البخور.. أهذه أمة تحمل رسالة عالمية ؟ إن الذي يبتغي إصلاح الأفكار والمشاعر لابد أن يدرس الفكر في كل قطر، وأن يستبطن أحوال الناس على أمل تزكيتها والتسامي بها.

وإذا لم نكن نعرف أنفسنا فكيف نعرف غيرنا؟

وإذا كنا قد نسينا ديننا فبم نذكر الآخرين ؟

فاقد الشيء لا يعطيه.

ولو كنا على مستوى الإسلام لكان لنا باع طويل في كل فن، ولزاحمنا بالمناكب في كل الكشوف المادية والأدبية والعلمية.

إننا بحاجة إلى علماء عمالقة من جميع المعارف الإنسانية لا فارق بين منقول ومعقول، ولا بين ماديات وأدبيات ولا بين غيبيات ومحسوسات.

وظيفة أولئك العلماء أولاً: صناع المجتمع الإسلامي وإصلاحه وإيقاظه من غفلته بالصور التي أشرت إليها في العامل الأول الذي يمثل المهمة الأولى في إصلاح المجتمع الإنساني العالمي ومكافحة الفساد.

ثانياً: النظر في أساليب الدعوة العالمية وطرق شرح الإسلام - الذي رضيه الله

ـ(637)ـ

 للعاملين دينا - خارج أرضه وبرد الشبهات التي مرد أعدواؤه على ترديدها(1).

نقلت ذلك على طوله مع تدخل بسيط، لأنه معبر عما يدور في نفسي عن البحث عن هذا العامل الذي يجب أن يبرز في حياتنا واهتماماتنا، فالنتيجة المنشودة تظهر في العمل على إيجاد الإجابة الإيجابية على تلك التساؤلات ، وأن تكون موضع اهتمام الأمة حتى يمكن لها أن تثبت هويتها وتظهر شخصيتها وتقف على قرار مكين أصلها ثابت وفرعها في السماء ينتفع بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها يعجب بها كل من أوتي قلباً أو ألقى السمع وهو شهيد، وذلك لما تفيض به على العالم من خير ومنافع يرتقون به في مستوى حياتهم ويسعد نفوسهم وتحقق لهم راحة البال وسعادة الحال وتتحول من هامش التاريخ إلى قمته بل وإلى قيادته وريادته وتحقق فيهم وعد الله عز وجل

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.

فإذا استطعنا أن نتربي على هذه المستويات والتي عرضناها في هذا البحث نكون قد استطعنا أن نخطو بمجتمعنا الإسلامي خطوات واسعة إلى الإمام لإنقاذ البشرية والعالم من براثن الوحل والضلال والظلام والفساد إلى خير الإيمان والصلاح والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة وإذا كنا لديننا كما كان سلفنا لدينهم سنصل بديننا كما وصل سلفنا بدينهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بامتثال الإسلام واتباعه وقبوله كاملاً فهو الدين الذي يهذب الغرائز ويوازن بين مطالب الروح والجسد ويقيم العدل ويهدي إلى الصراط المستقيم وينظم

_______________________

[1] ـ المصدر السابق ص 81 - 82.

ـ(638)ـ

العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول والشعوب على أساس من الفضائل الإنسانية العالية ويؤيد تحقيق الفضيلة والعدالة والاحترام لكل الناس في مختلف نواحي ومجالات الحياة الإنسانية ويؤكد على نزاهة الفرد وكرامته وحقوقه الإنسانية ذكراً كان أو أنثى على إنها حقوق كفلها الخالق (وتتألف استراتيجية الإسلام لإقامة عالم كهذا من دعوة بني البشر جميعهم لسلوك هذا السبيل بصرف النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغتهم وقومياتهم وأصلهم العرقي أو التاريخي ولا تتحدث بلغة مصالح الشرق أو الغرب، الشمال أو الجنوب، البلدان المتطورة أو البلدان المتخلفة إنها استراتيجية تريد إقامة النظام الجديد للبشر جميعهم في أرجاء المعمورة كافة، ومن خلال هذا المنحى الشامل يريد الإسلام أحداث وعي بالمثل العليا والمبادئ  التي يجب أن يعاد بناء بيت الإنسانية عليها، وتدعو هذه المثل والمبادئ إلى إعلان مضامينها المتعلقة بإعادة بناء الفكر الإنساني والسياسة والإسلام تواق لإقامة النموذج الجديد في أية بقعة في العالم وإذا ما بنى الإسلام نظامه الاجتماعي على هذه المبادئ فانه يكون المثال الحي للعالم المنشود بيد أن الواقع الراهن للمسلمين بعيد غاية البعد عن المثل الأعلى، وما أن ترفع دعائم هذا النموذج الجديد في أي جزء من  العالم حتى يصبح الباقي يتقاسمون هذه التجربة كما يتقاسم الناس جميعهم ضوء الشمس)(1).

فكما أن الشمس من الله فهي تصل إلى جميع خلقه لا يقدر إنسان أن يحتكرها أو يقصرها على نفسه أو يدعي السيادة أو السيطرة عليها فكذلك الإسلام يجب أن يصل إلى العالمين لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ولا يقبل منهم غيره.

___________________

1 ـ الإنسان ومستقبل الحضارة د. خورشيد احمد ص 627.

ـ(639)ـ

﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾(1).

﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(2).

وحتى يصل الإسلام إلى جميع خلقه فلابد من تلك النخبة من العلماء العمالقة الذين يستطيعون حمله وينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وبدع المضللين حتى يصل إلى العالمين تقياً نقياً كما أنزله ربّ العالمين.

وحتى يتفاعل كافة عناصر المجتمع في الإصلاح ومكافحة الفساد فإن الإسلام يفضل في أن تكون السلطة السياسية تحت سيطرة أهل الفضل والحلم والعلم وممن تتوفر فيهم الأخلاق الحميدة والآداب العالية والمثل الرفيعة والاستقامة في الحق والدين فإذا قام المجتمع والدولة على أفراد من صنع المنهج الإسلامي عندئذ يصبح العالم الإسلامي في وضع يؤدي فيه دوره في العالم لإصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة طبقات الناس أعداءاً كانوا أو أصدقاء أقارب كانوا أو أباعد فلا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا بين أحمر ولا أسود إلاّ بالتقوى.

وإن كان غير ذلك فالحق يقول:

﴿وَالْعَصْرِ _ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ _ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(3).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى وصحبه أجمعين.

_________________________

1 ـ سورة آل عمران الآية 19.

2 ـ سورة آل عمران الآية 85.

3 ـ سورة العصر كاملة.