العلمية والخاتمية والخلود

العلمية والخاتمية والخلود

 

 

العلمية والخاتمية والخلود

 

آيت الله السيد محمد باقر الحكيم

رئيس المجلس الأعلى لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

أبارك للأخوة الأعزاء والسادة الأفاضل هذه الأيام الشريفة، أيام ذكرى ولادة سيد الكائنات خاتم الأنبياء سيدنا ومولانا أبي القاسم محمد بن عبد الله، وأيام ولادة حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق وأيام الهجرة النبوية المباركة.

قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لـه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ـ الأعراف: 158.

وقال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ـ الأحزاب: 40.

وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ـ الصف: 9.

ـ(14)ـ

العالمية والخاتمية والخلود، صفات ثلاث تعتبر من أبرز خصائص ومواصفات الرسالة الإسلامية التي تتميز بها على سائر الرسالات الإلهية، وهي صفات وإن كانت مترابطة ومتداخلة في مضمونها ومحتواها، ولكنها في الوقت نفسه متمايزة فيما بينها، وتستحق الوقوف عندها، ولاسيما في عصرنا الحاضر.

وسوف أحاول في هذا الوقت القصير، أن أتناول هذه الصفات، لا في جانب إثبات هذه الميزات للرسالة الإسلامية، فأن ذلك يكاد ان يكون من بديهيات العقيدة الإسلامية ن ويكفينا في الدلالة عليها الآيات الكريمة التي تلوتها عليكم.

بل أحاول ان أتناول ـ بصورة مختصرة ـ مضمون ومحتوى هذه الميزات من ناحية، وبعض المشكلات الحقيقية التي واجهتها ومعالجة الإسلام لها من ناحية أخرى، لنستفيد من ذلك، الدروس والعبر في النهضة الإسلامية المعاصرة، ونفي بالحاجات التي يفرضها تطلع البشرية إلى الإسلام كمنقذ لها من محنتها وآلامها.

العـالمـيـة

يبدو ولأول وهلة ان العالمية الإسلامية، تعني من الناحية الواقعية:

ان تكون الرسالة في مضمونها العقائدي والاجتماعي والسياسي، مضموناً لا يخص جماعة من الناس دون أخرى، ولا منطقة من الأرض دون غيرها، وهذا ما تكفلت به العقيدة الإلهية والشريعة الإسلامية، التي جاء بها القرآن الكريم، والنبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن هل يختص ذلك بالرسالة الإسلامية، وهل يمكن ان نقول بأن ما جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى

ـ(15)ـ

عليهم السلام، كان مختصاً بجماعة دون أخرى ؟!!

مع ان الإسلام يمثل الامتداد الطبيعي للرسالات الإلهية، المصدق لها، والمهيمن لها، وأن من العقائد الأساسية في الإسلام، هو(الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله) ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ـ البقرة: 285.

والشواهد على هذه الحقيقة والاشتراك كثيرة.

ولذا فلابد ان ننظر إلى العالمية في الإسلام من زاوية وبعد آخر، مضافاً إلى هذا المحتوى والمضمون الصحيح.

وهذا البعد هو ان تصبح العالمية تعبيرا عن مرحلة تكاملية خارجية في مسير الرسالة الإلهية، كانت تمثل الهدف الأسمى لمسيرة الرسالات الإلهية، فهي كالتوحيد لله تعالى، الذي كان ولازال يمثل الحقيقة الثابتة لمضمون وهدف الرسالات الإلهية، ولكنه في مسيرة الإنسان التكاملية، كان التوحيد يواجه في كل مرحلة انتكاسة الإنسان نحو عبادة الأوثان بمختلف إشكالها، كما شاهدنا ذلك بعد نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، ونشاهده الآن في عبادة الهوى، والشهوات، والقوة.. في هذا العصر والزمان.

فالعالمية في مضمونها الإسلامي الخاص، تعبير عن مرحلة خارجية جديدة وصلت فيها مسيرة الرسالات الإلهية إلى تجسيد العالمية، وقد واكب هذا التطور في المسيرة منهاج عملي، ومضمون تشريعي، يلبي متطلبات هذه المرحلة، ويفي بحاجاتها، وتحقيق أهدافها.

فمثلا رسالة موسى عليه السلام، وأن كانت عالمية بمضمونها وخطابها،

ـ(16)ـ

وليست خاصة ببني إسرائيل، ولكنها من الناحية الخارجية بقيت محصورة ببني إسرائيل، بحيث تحولت خارجيا إلى رسالة قومية، وتحول بنو إسرائيل إلى شعب مختار، يفتش عن الامتيازات ويؤمن بها، فهم أولياء الله وأحباؤه ولهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس، وليس عليهم في الأميين سبيل وانهم على شيء، وغيرهم ليس على شيء... الخ إلى آخر هذه الادعاءات.

وهنا نرى أمامنا التطور في العالمية الذي تحقق في الرسالة الإسلامية، وهو تحول الشعب المختار إلى الأمة الإنسانية المختارة ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...﴾ ـ آل عمران: 110.

 والمقياس في هذا الاختيار الواقعي هو الإيمان بالله، والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقوى الله حق تقاته، وليس الشعب والانتماء إلى العرق أو العشيرة أو البلد، بل الانتماء إلى الله والمبادئ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

ولذا أكد القرآن الكريم ذلك في المسيرة العملية والجهادية، هذه الحقيقة والسنة التاريخية فخاطب العرب الذين هم جماعة المؤمنين في عصر نزل القرآن بقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ـ المائدة: 54.

﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ ـ محمد: 38.

فالخروج والتحول من الشعب المختار إلى الأمة المختارة، هو العالمية.

والمسيحية وان كانت عالمية في دعوتها ومضمونها، ولكن عيسى عليه

 

 

ـ(17)ـ

السلام رفعه الله تعالى من هذه الدنيا ولم يخلف وراءه إلاّ الحواريين الذين تحملوا أعباء الرسالة، وبذلك تحولت رسالته تدريجيا إلى رسالة النخبة المختارة التي تتمتع بالامتيازات والحقوق والقدسية المهنية الخاصة ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ـ الحديد: 27.

﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ـ التوبة: 31.

حيث ورد في تفسير هذه الآية ـ كما يؤكده القرآن الكريم أيضاً ـ ان اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، كان هو السمع والطاعة لهم من دون الله وإعطائم هذه الامتيازات والأموال.

إن عالمية الإسلام في محتواها الخاص الذي يتميز به الإسلام إنّما هي:

أولاً: الانتقال بالرسالة من مرحلة النظرية العالمية والتمهيد، إلى مرحلة التطبيق والتجسيد وخلق النموذج الحضاري العالمي في الحياة الإنسانية.

وثانياً: في المنهج والبرنامج العلمي الذي وضعه الإسلام لمواكبة وجود هذا النموذج الحضاري، وتثبيته وإيجاد الضمانات العملية لبقائه واستمراره.

وهنا نجد أمامنا معالم في البرنامج الإسلامي العالمي آفاقاً واسعة من البحث والاستلهام، لا يسعها هذا المقال القصير ـ والوقت المحدود ـ تتمثل في اختيار مكان البعثة والرسالة الإلهية، والقاعدة التي انطلقت منها الرسالة الإلهية، وهي أمة العرب، وضرورة تفسير الخطاب الثقافي الإسلامي، الذي تحدث بلغة هذه الأمة ومعها أكثر من أي جماعة أخرى، وتناول أوضاعها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والتاريخية بصورة رئيسية دون غيرها من الناس، حتى ظن بعض الجاهلين، وحاول بعض المنحرفين ان ذلك امتيازا لجماعة من الناس، أو يفسروا

 

 

ـ(18)ـ

ذلك تفسيرا قوميا، أو جغرافيا، أو مدنياً... الخ.

وهكذا ينفتح امامنا بحث المنهاج الإسلامي في العالمية من خلال الدولة والقانون والعبادات، التي جاءت صياغاتها تكريسا عملياً لهذه العالمية من ناحية، وضمانا لها امتاز به الإسلام على غيره من الرسالات الإلهية من ناحية أخرى.

فمثلا الحج الذي أذن به إبراهيم عليه السلام في الناس بنص القرآن ـ وهو شيخ الأنبياء، وجدّ الإسرائيليين، بقي محصوراً في أبناء إسماعيل، تمكن الإسلام خارجيا ان يرتقي به إلى عبادة عالمية، ومن خلال صيغة واقعية تجسد هذه العالمية خارجياً، بل تحولت إلى ضمان واقعي لهذه العالمية، كما نشاهده في كل التاريخ.

لقد استطاع الإسلام من خلال برنامجه القانوني، ومنهاجه العبادي، أن يحطم كل الحواجز الاجتماعية والنفسية، بين القوميات، والطبقات، والأسياد، والعبيد، ليخلق أمة إسلامية واحدة عالمية، تتمتع بمواصفات الأمة الواحدة، في الهموم والمشاعر والأهداف والعلاقات الإنسانية والممارسات العبادية.

وهذا ما لا نجده حتى في الحضارة الغربية، التي حاولت ان تتحرر من هذه القيود، تحت شعار حقوق الإنسان ووحدة الأهداف الإنسانية في الحياة والمصالح المشتركة، وسيطرة العلم التجريبي(العلمانية) ولذّات الدنيا.

فهي لا زالت تعاني من الانقسامات العرقية والجغرافية والغنى والفقر والشمال والجنوب، ولازال الرجل الأبيض كحالة عامة إنسانية ينظر فيها الكثير من التعالي والشعور بالامتياز والحقوق، ولازالت الولايات المتحدة الاميركية ـ وهي سيد العالم الغربي ـ وأوروبا الغربية تتعامل مع بقية الشعوب في هذا العالم من موقع هذا الإحساس.

ـ(19)ـ

بل لازال الشعب في الولايات المتحدة الاميركية ـ بالرغم من القوانين الاسمية والدعاوى العالمية الإنسانية ـ يشكو من هذا الانقسام العرقي والهمينة الطبقية لأصحاب رؤوس الأموال.

ومثل آخر، في الدولة التي كانت في أصلها ظاهرة نبوية، كما يؤكد ذلك القرآن الكريم، وان بعثة الأنبياء إنّما كانت من أجل الحكم بالحق، وتنظيم حياة الناس وحلّ الاختلاف بينهم، ولكن تاريخ الرسالة الإلهية لم يشهد من الناحية الواقعية والخارجية قيام الدولة في ظل الرسالة، بل بقي الأنبياء يجاهدون من أجل إقامة المجتمع الصالح والدولة الإلهية، ولم يتحقق ذلك لا لنوح ولا لإبراهيم ولا لموسى ولا لعيسى عليهم السلام، وإذا كان بعض الأنبياء قد آتاه الله الملك كداود وسليمان عليهما السلام، فأن ذلك كان ضمن البرنامج العام الإنساني لقيام الدولة وهو الغلبة والقوة.

وأما الدولة الإسلامية فأن وجودها الخارجي كان ضمن البرنامج الرسالي للدولة وتطور الرسالة الإلهية، ولذا كانت الدولة الإسلامية والإمامة جزءاً مكملا للرسالة ـ ليس على المستوى النظري فحسب ـ بل على المستوى التطبيقي والخارجي.

وهذا هو الذي يفسر لنا قيام الدولة الإسلامية في مثل هذه الأيام(ربيع الأول)، في السنة الأولى للهجرة، ثم استمرارها لمدة ثلاثة عشر قرن وبقاءها كهدف، ولم تتنازل عنه الأمة ـ حتى بعد سقوط الكيان السياسي عسكريا بيد الاستكبار الغربي ـ وسوف لن تتنازل عنه الأمة حتى قيام دولة الحق المطلق، التي وعد الله بها عباده الصالحين بظهور الإمام المهدي عليه السلام ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ

ـ(20)ـ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ـ النور: 55.

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ ـ الأنبياء: 105.

فالدولة الإسلامية امتازت:

أولاً: بأنها كانت امتداد خارجي تطبيقي للرسالة، عاصر وجود الرسالة وارتبط بتطبيقاتها.

ثانياً: أنها جسّدت العالمية في حركتها، حيث كانت الدولة باتجاه العالمية في زمن الرسول، من خلال دعوة القوى السياسية العالمية للدخول في الإسلام، في رسائل النبي صلى الله عليه وآله، ومعارك مؤته وتبوك، وبعثة إسامة بن زيد، ثم الامتداد في التوسع والانتشار الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين.

ثالثاً: ان الدولة  الإسلامية كان لها الدور الأساس فيما نراه من وحدة الأمة الإسلامية في مقوماتها الأساسية، وذلك بالرغم من تعرض الدولة الإسلامية إلى مشكلات التجزئة والانقسام، والاختلاف في تاريخها.

رابعاً: ان العالمية في الدولة الإسلامية ليست مجرد هدف تسعى إليه الرسالة، بل هو حقيقة قائمة في تاريخها، وفي حركتها وتكاملها المستقبلي، إذ لابد لهذه الوحدة من أن تتحقق في نهاية المطاف وتكون كاملة أفقياً وعمودياً وجغرافياً، وفي المضمون والمحتوى.

وهنا لابد ان أشير إلى أن دور الدولة والإمامة في منظار أهل البيت عليهم السلام وموقفهم الخاص منها، وفي النظرية الإسلامية بصورة عامة، يمنح هذا

ـ(21)ـ

المعلم من المنهج في تحقيق عالمية الإسلام عمقاً وبعداً آخر جديداً لا أجد مجالا للخوض فيه الآن، ولكن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وموقعهم الخاص الذي يلتزم به جميع المسلمين، وكذلك عملهم ودورهم في الحياة الإسلامية، كان ولازال يمثل أحد الضمانات الواقعية المهمة للمحافظة على بعد العالمية في الرسالة الإسلامية.

ولاسيما أمام المشكلات التي واجهتها هذه العالمية.

المـشـكـلات

وقد واجهت عالمية الرسالة الإسلامية منذ الصدر الأول للإسلام مجموعة مهمة من المشكلات الأساسية، ولازالت هذه المشكلات بأنواعها وطبيعتها تواجه هذه العالمية، وفي مقدمة هذه المشكلات، كانت المشكلة القومية، والتجزئة في الكيان السياسي الإسلامي والطبقية السياسية والدينية، ومشكلة التجزئة في الأمة الإسلامية وشعائرها:

1 ـ فمنذ البداية عندما أنفتح الإسلام على الأقوام الجدد من خلال الفتح الإسلامي، ترددت أفكار في الأوساط الإسلامية بصورة عامة، والسياسية بصورة خاصة، تذهب إلى التمييز بين المهاجرين والأنصار، أو العرب وغيرهم، أو بين العرب أنفسهم، أو بينهم والموالي، وقدمت مبررات عديدة واجتهادات، تحت شعار المصلحة الإسلامية لهذا التمييز.

وقد تبنت الدولة الأموية في بعض سياساتها بعض هذه الأفكار والطروحات.

2 ـ كما برزت مشكلة التجزئة في الكيان السياسي الإسلامي، منذ البداية عند

ـ(22)ـ

نشوب الصراعات السياسية، وكان أبرزها الانشقاق الذي شهدته الخلافة الإسلامية في عهد الإمام علي عليه السلام وتطورت هذه الصراعات حتى أصبح الكيان الإسلامي في بعض عهوده يتكون من عدة دول، كما في عصر الدولة العباسية في بغداد، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس، وما استتبع ذلك من مآسي وآلام.

كما برز إلى جانب ذلك خطر تحول الكيان السياسي الإسلامي إلى الحكم الكسروي والقيصري، ومن ثم تحول الرسالة من العالمية إلى الفردية، أو الاستبداد والطغيان.

3 ـ وبدأت أخطار الطبقية السياسية في صورة العوائل والأسر، التي حكمت العالم الإسلامي وحلفائها، وكذلك الطبقية الدينية في بعض المؤشرات الخطيرة في إيجاد هالة من القدسية والامتيازات والحقوق المادية للسابقة المعنوية، أو الانتماء القبلي.

ولاسيما بعد التحولات الاقتصادية الواسعة، والانفتاح على ثروات الدولة الكسروية والقيصرية، والشعوب الجديدة التي دخلت الإسلام، ومواجهة فكرة اعتبار الأراضي المفتوحة جزءا من الغنيمة التي توزع بين المسلمين، أو يجوز للحاكم ان يقتطعها للأفراد.

4 ـ ثم كانت تجزئة الأمة في انتماءاتها السياسية والفكرية والعقائدية والاجتماعية، وتحول هذه الانتماءات إلى إطار وقاعدة تقوم عليها الجماعة في معزل عن الجماعات الأخرى.

لقد كانت هذه المشاكل شبيهة بالمشاكل التي واجهتها الرسالات الإلهية السابقة، كما هي سنة الله في الحياة والتاريخ، ولم تتمكن من التغلب عليها.

ـ(23)ـ

وهنا نجد الامتياز الخاص للرسالة الإسلامية، التي تمكنت ان تواجه هذه المشكلات في مداها الخطير، الذي يهدد الرسالة والوجود الإسلامي، كما حدث للرسالات السابقة، وان بقيت الرسالة الإسلامية تعاني من آلام ومحن، هذه المشكلات وآثارها السلبية في جسم الأمة وكيانها الإسلامي.

وهذا الموضوع بأبعاده المتعددة، يحتاج إلى بحث واسع ومستوعب يتناول العناصر الأساسية، التي تضمنتها الرسالة الإسلامية ومنهجها في مواجهة هذه المشكلات، ورؤيتها الواقعية الصحيحة لها، وهذا ما لا يتسع لـه مجال البحث هنا، ولذا نكتفي هنا بتأكيد الدور العظيم والجهود الكبيرة التي بذلها رجال الإسلام المخلصون، وفي مقدمتهم الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والتابعين لهم بإحسان من أجل الاحتفاظ بالحد الأدنى الذي يحفظ للرسالة الإسلامية هذا البعد العالمي لها، ويمكن ان نتبين نتائج هذه الجهود في ما نلمسه الآن من معالم العالمية الحقيقية في الرسالة الإسلامية، بالرغم من الجراحات والشروخ التي يعاني منها العالم الإسلامي والأمة الإسلامية.

وبهذا الصدد لابد ـ أيضاً ـ من تأكيد الدور المتميز الذي قام به أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في هذا المجال، ولاسيما بالنسبة إلى المشكلات الأربع التي أشرت إليها، فأن وجودهم ونشاطهم كان يشكل ضمانة رئيسية في تجسيد هذه العالمية خارجيا.

فعلى مستوى مشكلة التعدد القومي اهتم أهل البيت بالمحافظة على الموازنة الصحيحة بين بعدي:

النظرة الإنسانية للناس الذي يلغي الامتيازات في التعامل السياسي والاجتماعي العام بين المسلمين، واعتبارهم أمة واحدة من ناحية، بقاعدة

ـ(24)ـ

(سلمان منا أهل البيت).

والقبول واحترام التعددية الشعوبية في الشؤون الفردية والاجتماعية الخاصة بالأفراد والجماعات من ناحية أخرى.

وعلى مستوى مشكلة التجزئة في الكيان السياسي الإسلامي، التزم أهل البيت منذ البداية بسياسة عدم الدخول في الصراعات السياسية الحادة(القتال والتمّرد)، تحت قاعدة «... لا سلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا على خاصة...»(1)، والمحافظة في الوقت نفسه بالموازنة الصحيحة بين أولوية الحفاظ على وحدة الكيان الإسلامي وأصالته من ناحية، ومقاومة الانحراف والظلم والجور وخطر التحول إلى الكسروية والقيصرية من ناحية أخرى، وعدم التسليم المطلق للانحراف لمجرد القهر والغلبة والاستيلاء، التزاماً بما ورد عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  «من رأى سلطانا جائراً مستحلا لحُرم الله ناكثا عهده(لعهد الله) مخالفا لسنة رسول الله يعمل في بعادة الله بالآثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله...»(2).

وكذلك في تأكيد وحدة الإمامة، وعدم جواز تعددها.

وقد تحمل أهل البيت عليهم السلام أشد الآلام والمحن في هذا السبيل عمليا وواقعيا، لأن هذه القضية كانت تعنيهم بالذات بصورة خاصة.

وعلى مستوى مشكلة الطبقية السياسية والدينية، فأن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وان كانوا يمتازون بنظر المسلمين جميعاً، بوجوب حبهم ومودتهم، وفي

__________________________________

1 ـ الإمام علي عليه السلام نهج البلاغة: الخطبة: 47.

2 ـ الإمام الحسين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله الطبري: 4: 304، ط مكتبة ارومية، وابن الأثير: 4: 48، ط دار صادر.

ـ(25)ـ

نظر اتباع أهل البيت بأنهم أئمة الهدى المعصومون من الزلل والخطأ، وانهم ثاني الثقلين والمرجع في الدين بعد القرآن الكريم، ولكنهم من الناحية العملية لم تكن هذه الامتيازات قد منحتهم أي تمييز طبقي مادي في المجتمع الإسلامي، بل كانت سبباً للمزيد من المحن والبلاء والأذى في سبيل الله، وقد كان لهذا السلوك الاجتماعي أثره الكبير والعميق على أوساط العلماء وأهل المعرفة والدين، بحيث أصبح أهل البيت القدوة لهم في ذلك.

وعلى مستوى مشكلة تجزئة الأمة في علاقاتها وشعائرها، فقد حافظ أهل البيت في منهجهم على الموازنة الصحيحة بين احتفاظ جماعتهم واتباعهم بخصوصياتهم والتزاماتهم وواجباتهم، وبقاء هذه الجماعة جزءا فاعلا ومسؤولاً في وسط الأمة الإسلامية محافظ على وحدتها وتماسكها ومتصديا للمسؤوليات الكبرى ومضحيا من أجل أهدافها وقضاياها.

وقد كان مبدأ التقية هو أحد المبادئ الرئيسية في هذه الموازنة، إذا عرفنا التقية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والأمنية(1).

وفي هذا العصر لابد ان نستلهم عالمية الإسلام ومنهجه العملي فيها، في معالجة المشكلات المعاصرة التي يعيشها العالم الإسلامي في هذه المجالات وغيرها، كما لابد ان تتركز أبحاثنا حولها على هذا الجانب العملي.

_______________________________

1 ـ لقد عالجت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين، وكتاب دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة فصلي النظام الأمني، ونظام العلاقات.

ـ(26)ـ

الخاتمية

وبهذا الفهم(للعالمية) يمكننا ان نفهم(الخاتمية) أيضاً، فأن الخاتمية لا تمثل مجرد انقطاع الوحي ونهاية النبوات الإلهية، وإنّما تعبر في الوقت نفسه عن تطور في الحياة الإنسانية من ناحية، وتطور في المضمون الرسالي اقتضى هذا الانقطاع وهذه النهاية.

لأن السؤال المطروح في موضوع(الخاتمية) ـ بعد التسليم بها لنص القرآن الكريم والسنة النبوية عليها ـ ان تعدد الرسالات الإلهية، إنّما كان تجسيداً لسنة إلهية في تطور الحياة والتاريخ الإنساني، فهي متطورة ومتكاملة، وكما هي مواكبة لحركة التاريخ الإنساني.

وإذا كانت كذلك، فلماذا توقفت الرسالات الإلهية ؟ وهل ذلك لتكامل المسيرة الإنسانية ؟ فلا حاجة لتطور الرسالات الإلهية، أو ان قانون وسنة التطور قد توقفت في تأثيرها ؟ أو ان هناك تفسيراً آخر لهذه الخاتمية ؟

ولاشك ان سنة التطور والتكامل، هي من السنن الثابتة في حياة الإنسان ومسيرته، وهذه السنة هي التي فرضت هذه الخاتمية بالإرادة الإلهية، فلابد ان نفتش عن هذه العناصر التكاملية، ونؤكدها في عملنا الثقافي والسياسي والاجتماعي انسجاما مع هذه الخاتمية.

فالخاتمية ذات مضمون تكاملي وتغييري، يرتبط في جانب منه بمضمون العالمية الذي تحدثنا عنه، وفي جانب آخر بمضمون(الخلود) الذي سوف نشير إليه.

ـ(27)ـ

ويمكن ان نجد عناصر التكامل في الخاتمية، ونتناولها بالفحص والبحث في الأمور التالية:

أولاً: التكامل في الوعي الإنساني الاجتماعي من خلال تأثير الرسالات الإلهية السابقة والتجارب الإنسانية الاجتماعية الطويلة، والمعرفة الإنسانية بالحياة والكون، إلى غير ذلك مما يرتبط بالإنسان ومدركاته النظرية والسلوكية وتجاربه مع الكون والطبيعة، وعلاقاته الإنسانية والمحصلة الكلية للوحي الإلهي وعمل الأنبياء والمرسلين والصالحين.

فهو تكامل في الوعي الإنساني العام، يؤهل الإنسان لأن يأخذ دوره الكامل المسؤول في الحياة الإنسانية، بحيث يشغل حيزاً مهماً يتناسب مع هذا الوعي(1).

وهذا هو الذي يفسر لنا التحول الكبير الذي حدث في أدلة النبوة التي تمثل أسلوب الخطاب الإلهي بالإيمان والوحي والمضمون الرسالي، فإن معجزات الأنبياء السابقين كانت تعتمد على الآيات التي تُعبر عن القوة والقدرة الإلهية المباشرة في التصرف بالكون والحياة والعقوبات الدنيوية المباشرة، للتأثير على إرادة الإنسان وسلوكه، وأما في الرسالة الإسلامية فقد تمثل أسلوب الخطاب بالقرآن الكريم الذي يتوجه إلى مخاطبة العقل للوجدان والمشاعر الإنسانية، للسيطرة على إرادته وسلوكه وتوجيهها.

ثانياً: التكامل الذي وصلت إليه حركة التوحيد الإلهي والمعرفة بالله تعالى، بدرجة تمكنت فيه هذه الحركة من تحقيق الاستقرار والثبات والانتشار والقوة

_____________________________________

1 ـ وفي نظرية الإمامة عند أهل البيت عليهم السلام يتكامل هذا الوعي الإنساني من خلال التسديد والأشراف الذي يمارسه الإمام، لأنه يقوم بدور النبي في قيادة التجربة والأشراف عليها في المدة الزمنية للأئمة الأثنى عشر الذين نصبهم الله تعالى لهذه المهمة.

ـ(28)ـ

والمنعة في الحياة الإنسانية، ومن ثم فلا يمكن للانتكاسات الحضارية أن تهدد وجود هذه الحركة الإلهية، كما حدث بالنسبة إلى بعض الرسالات الإلهية السابقة، كرسالة نوح عليه السلام أو إبراهيم عليه السلام، حيث تحول المجتمع الإنساني بعد نوح إلى الوثنية بصورة كاملة على ما يبدو من قصة إبراهيم عليه السلام.

وتمكنت الوثنية ان تحاصر حركة التوحيد بعد إبراهيم عليه السلام، وتستعبد الإسرائيليين وتؤثر فيهم بدرجة كبيرة.

وتتعرض حركة التوحيد بعد موسى عليه السلام إلى العزلة والانكفاء على الذات حتى تحولت إلى حرفة ومهنة خاصة بالإسرائيليين.

وتعرضت حركة التوحيد بعد عيسى عليه السلام إلى التحريف والتشويه والرهبنة بالانفصال عن الحياة الإنسانية.

وفي الرسالة الخاتمة أصبح التوحيد نقيا خالصا يقوم على أساس قاعدة بشرية واسعة وراسخة، هي قاعدة الرسالات الإلهية الكبيرة، واصبح حقيقة كونية ذات أبعاد عقائدية وعبادية واجتماعية وسلوكية أخلاقية، بدرجة عالية ينسحب فيها على جميع مناحي حياة الإنسان والكون والوجود. 

وهذا هو الذي يفسر لنا تحول حركة التوحيد في الرسالة الإسلامية، إلى حركة هجومية تمكنت ـ بفترة زمنية قياسية ـ من ان تزيل الوثنية من الجزيرة العربية، وتزيح الدولة الفارسية الكسروية، وتهدد الدولة الرومانية القيصرية، وتفتح مساحات واسعة في الوجود الوثني في مختلف مناطق العالم، وهو مالا نجده في حركة الرسالات السابقة.

ثالثاً: التكامل في المتجمع الإنساني وتـنظيم الحياة الإنسانية من خلال الدولة والنظام السياسي الذي اصبح جزءاً رئيساً ومكملاً للرسالة، بحيث ارتقت الرسالة

ـ(29)ـ

بالأنظمة التي تدار بها شؤون الناس، والتي يصدرها الحاكم الشرعي(الرسول والإمام) إلى مستوى الحكم الشرعي الإلهي، وقرنت طاعة الرسول بطاعة الله تعالى ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾، وأصبحت مخالفة الرسول كفراً ونفاقاً ومصيرهاً هو مصير مخالفة الله تعالى.

وأصبح الإطار العام للحكم في المجتمع الإسلامي هو الخلافة لرسول الله، وتطبيق الحكم الشرعي.

وهذا التطور التكاملي، هو الذي يفسر لنا مجموعة من الظواهر السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي، ومنها ظاهرة المقاومة القوية والدائمة المضمخة بالدماء والتضحيات للاستبداد والظلم في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي، والتي فرضت هذه المقاومة حصاراً قوياً على المستبدين أو المنحرفين من حكام المسلمين، جعلتهم غير قادرين على تجاوز الإطار العام للحكم، وهو عنوان الحكم ما انزل الله، وفي إطار الشريعة الإسلامية.

وكذلك ظاهرة تطلع المسلمين في كل الأجيال إلى الحكم الإسلامي العادل واستمرار هذا الروح في الوعي حتى بعد سقوط الدولة الإسلامية عسكريا، وإصرار المسلمين على الرجوع إلى الحكم الإسلامي، وعدم فصل الدولة عن الرسالة أو ما يسمى بفصل الدين عن السياسة والحياة.

ونظرة المسلمين ووعيهم لهذا الجانب، وان كان بدرجات متفاوته، ولكن يبقى الحد الأدنى منه كافيا للتعبير عن وجود التكامل في المجتمع الإنساني.

وبهذا يمكن أن نفهم دور فكرة وجود حكومة الحق والعدل المطلق المتمثلة بفكرة الإمام المهدي عليه السلام الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما مُلئت ظلما وجورا، وارتباطها في أحد أبعادها بموضوع (الخاتمية)، كما هي مرتبطة ـ أيضاً ـ في

ـ(30)ـ

بعدها الآخر بموضوع العالمية.

إن موضوع الخاتمية بهذا التحليل، يفتح إمامنا مجموعة من المشاكل المهمة ذات العلاقة بهذه العناصر التكاملية:

فعلى مستوى العنصر الأول «الوعي الإنساني ودور الإنسان في تحمل مسؤولية الخلافة»، نجد إمامنا مشاكل الحرية والعلاقات الإنسانية، بين المرأة والرجل، وعلاقات الإنسان مع الكون والحياة، والعلمانية في الحياة الثقافية والاجتماعية وأساليب الحياة والمعيشة.

وعلى مستوى العنصر الثاني «التوحيد الصافي والخالص»، نجد أمامنا مشاكل عبادة الذات والشهوات والعلم، والقوة، والبُدع والضلالات، ومحاولات عزل فكرة الله عن الحياة الإنسانية، ومحاصرته في المسجد أو الفرد...إلى غيرها من المشكلات.

وعلى مستوى العنصر الثالث: نجد إمامنا مشكلة الاستكبار العالمي، وهيمنة النظام العالمي الجديد، والانقسامات في العالم الإسلامي، والعلمانية السياسية، والطغيان والاستبداد، والتطرف السياسي، والإرهاب... الخ.

الخـلود

ويأتي الخلود ليمثل البعد الثالث في تكامل الرسالة الإسلامية، والخلود ـ الذي يعني الاستمرار والبقاء والهيمنة والوراثة ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون ﴾ ـ التوبة: 33.

هو تعبير آخر عن هذا التكامل في مضمون هذه الرسالة نظريا وتطبيقيا، فأن الإرادة الإلهية التي تعلقت بخلود الرسالة الإسلامية،

 

 

ـ(31)ـ

لم تكن إرادة منفصلة عن هذه المسيرة التكاملية، وإنّما هي إرادة حكيمة ترتبط بالسنن والنظام الكوني في مسيرة الإنسان.

ويمكن ان نرى معالم هذا الخلود في العناصر والأسس التي اعتمدتها الرسالة الإسلامية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بقانون التكامل والتطور، وهذه العناصر هي:

1 ـ العقل الإنساني وإعطائه قيمة عالية في الخطاب والمسؤولية والقدرة على الوصول إلى الحقيقة وتحمل مسؤوليتها.

2 ـ تلبية الحاجات الإنسانية بصورة متوازنة بين الثابت منها والمتغير، بحيث تبقى فرصة التطور والتكامل قائمة في الجانب المتغير والمتحرك منها.

3 ـ منح العلم والمعرفة في الكون والحياة وأساليب الحياة الاجتماعية، وفي المبدأ والمعاد، قيمة حقيقية تجعله طريقاً إلى الله تعالى، والى التكامل في حركة الإنسان.

4 ـ صياغة الأمة الواحدة الوسط، والتي تكون شاهدة على الناس والمسؤولة عن حفظ الرسالة وبقائها، وقد اعتمدت هذه الصياغة على عناصر: العقيدة، والمساواة الإنسانية، والعلاقات الأخوية الإيمانية(الولاء) والشعائر العبادية، والمسؤولية الاجتماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.

5 ـ النظام السياسي الذي يقوم بدور المحافظة على الرسالة، وحراستها والدفاع عنها وإبلاغها ودور التزكية والتطهير ن والسير في طريق التكامل ودور التعليم والتطوير.

أن هذه العناصر الخمسة مجتمعة، هي التي تُعبّر عن خلود الرسالة الإسلامية، وهي في الوقت نفسه تفتح الطريق إمامنا في الوصول بهذا الخلود إلى غاياته

ـ(32)ـ

وأهدافه، حيث تصبح الرسالة هي المهيمنة على الرسالات الإلهية الأخرى، وتظهر على الدين كله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.

أسأله تعالى أن يحقق للمسلمين آمالهم بالنصر على أعدائهم، وإقامة حكومة الحق والعدل، ويوفقهم للجهاد في سبيله، والمزيد من مرضاته، ويجمع كلمتهم على الهدى والتقوى.

والحمد لله رب العالمين

13 ربيع الأول 1419 هـ